لبنى ياسين
منذ فترة، قرأت منشورًا في إحدى الصفحات الخاصة بالمغتربين السوريين في هولندا، كان المنشور لشاب رُفض طلب لجوئه، وتوجب عليه مغادرة “الكمب”، إلى أن يعيد تقديم طلبه، كتب الشاب يطلب من أعضاء المجموعة مساعدته في العثور على غرفة رخيصة يقيم فيها حتى يتمكن من استئناف الإجراءات.
ما أسعدني وغمرني بمحبة واعتزاز لا حد لهما، كانت ردود الأعضاء التي لم تكن مجرد اقتراحات لغرف للإيجار، بل كان معظمها، بل كلها؛ عروضًا صادقة لاستضافته في منازلهم، دون مقابل، ودون أي شرط، ولأي وقت يحتاجه.
بعد ذلك، ومع اقتراب رمضان، نشرت صبية منشورًا آخر، وهي موظفة، تعيش وحدها، كتبت أنها تود التعاقد مع سيدة سورية لإعداد وجبات إفطار لها، لأنها تفتقد طعام العائلة، ولا تجد وقتًا للطبخ، وكما في المنشور الأول، انهالت الردود عليها، من يطلب عنوانها ليرسل لها إفطارًا يوميًا دون أي مقابل، ومن يدعوها لتناول الإفطار معهم كل يوم لتشعر بدفء العائلة، أيضًا دون أي مقابل.
لكن أكثر ما لفتني في الحالتين، أنه رغم مئات الردود، لم يسأل أحد الشاب أو الصبية، من أي مدينة أنتما؟ لأي ديانة أو طائفة تنتميان؟ هل أنتما من العرب أم من إحدى القوميات الأخرى التي تشكل فسيفساء الشعب السوري؟
هذه هي سوريا التي أعرفها، سوريا التي نشأتُ فيها، والتي حملتها معي في قلبي منذ نعومة أظفاري.
أتذكر أيام دراستي في جامعة دمشق، عندما كنت أقضي جل وقتي مع صديقتَيّ المسيحيتين، فيوقفنا زملاؤنا أيام الأعياد ليسألوا: “من المسلمة بينكنّ لنهنئها بعيد الفطر؟ ومن المسيحية لنهنئها بعيد الميلاد؟” كنا نرتدي أجمل ملابسنا في كل الأعياد، ونحتفل بها معًا، دون أن يكون هناك ما يميزنا عن بعضنا، لم أكن أرتدي الحجاب حينها، وكنت أضع عقدًا فضيًا يحمل صورة السيدة مريم العذراء في عنقي، ولم يكن ذلك يثير استغراب أحد.
أتذكر أيضًا كيف كانت صديقتاي تمتنعان عن تناول الطعام في رمضان احترامًا لصيامي، رغم أنني كنت أرجوهما أن يأكلا الطعام لأن دوامنا طويل، لكنهما لم يفعلا أبدًا.
ولا أنسى يوماً زرتُ كنيسة صيدنايا، حين اقتربت مني راهبة، وطلبت مني أن أصلي، فقلت لها، “أنا مسلمة”، فأجابتني بابتسامة دافئة، “صلِّ صلاتك، فهذا بيت الرب”.
أو عندما مرت صديقة مسيحية لي بضائقة، فجاءتني تطلب أن أقرأ لها المعوذات وأدعو لها بالفرج، لأنها كانت تؤمن أن الدعاء لا يعرف دينًا، وأن المحبة لا تحتاج إلى تصنيف.
وعنما تغيبت عن المدرسة لأسباب صحية، فوجئت بصديقة درزية معي في الصف، وقد كتبت لي نسخة عن كل ما فاتني خلال أيام ثلاثة لم آت فيها إلى المدرسة، دون حتى أن أطلب منها.
والسيدة العجوز العلوية، التي ابتعنا منها العسل الصافي، وكانت تدعو لنا بالشفاء، والبركة، بوجه متغضن مليء بالطيبة والحنان.