حمزة حرب
انطلق الحِراك الشعبي في سوريا مستهلاً ثورته بكلمة “حرية ” وهو ما سعى إليه معظم السوريين لما لهذه الكلمة من آفاق ومعايير يأمل السوريون في تحقيقها، فعندما تكون أهداف الثورة تحقيقَ الانتقال السياسي إلى نظامِ حكم ديمقراطي، لكنها تصل إلى تكريس أنظمة حكم محليّة متناحرة؛ يطرح السؤال نفسه بقوة، هل حققت الثورة أهدافها؟ هل تحققت حرية السوريين؟ هل تم الوصول إلى خارطة طريق للتغيير من مسببات اندلاع الثورة؟
تسعى أي ثورة حول العالم إلى تحقيق الحرية القائمة على الكرامة والعدالة التي يريدها الإنسان، بغض النظر عن دينه ولونه ومعتقده لكنها تصل إلى قعر الانحطاط إذا ما استأثرت فئة بالسلطة بعد ركوب موجة ثورة الشعوب وتضحياتهم وهو ما يفرض واقعاً مقيتاً من الجوع والخنوع عندها تستوجب التقييم اللازم والنظر ما إذا كانت الثورة حققت دولة حرة مستقلة ذات سيادة على جغرافيتها وحدودها ومواردها وثرواتها والسؤال الأكثر إلحاحاً ما إذا حققت الثورة السوريّة أهدافها بعد 14عام أم لا؟
الثورة السوريّة.. المسببات والمرتكزات
15 من آذار لعام 2011 انطلقت شرارة الثورة السوريّة، والتي انضمت إليها شعوب سوريا على امتداد الجغرافيّة السوريّة وكانت ككل ثورات العالم في بدايتها من مطالبها المحقة في الحرية والكرامة والتعددية السياسية والانعتاق من نير الاستبداد والدكتاتورية القابعة على صدور السوريين لأكثر من نصف قرن دون وجود أي بديل ديمقراطي أو وجود ممارسة وعملية سياسية من شأنها انتشال الشعب السوري من الاستغلال والعوز وكَمِّ الأفواهِ.
وعلى العكس فقد حوَّل نظام الأسد الأب والابن الدولة السوريّة إلى مزرعة عائلية عبر تحويل حزب البعث الحاكم إلى سلطة على المجتمع والدولة كما تنص عليه منطلقات حزب البعث حيث وطّد البعثيون دولة البعث أو العبث بمقدرات الشعب واستغلال المجتمع لبناء دولتهم الأمنية والاستخباراتية بحيث لم يعد بمقدور أي مواطن سوري مجرد التفكير بالسياسة خارج إطار المنظومة البعثية.
ومن جانب آخر جرى “تبعيث” الجيش السوري وتغيير عقيدته من جيش للدفاع عن الوطن إلى جيش للدفاع عن سلطة الحزب؛ ليتم اختزال السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية في شخص العضو البعثي القائد للدولة والمجتمع وذلك عبر إصدار الأحكام العرفية وفرض قانون الطوارئ المعمول به منذ استلام البعث للحكم وحتى وقتنا الراهن ليتم تجريد الساسة المعارضين من الحقوق المدنية والقضاء على التنوع الثقافي الذي امتاز به المجتمع السوري عبر تكريس العروبة وفرضها كهوية عنصرية امتاز بها كل منتمٍ للبعثية.
وهكذا تحوَّل البلد إلى دولة الأسد وحاشيته المقربين الذين يديرون مؤسسات الدولة من الخلف لارتباطها المباشر بشخصية الأسد، حيث لم يكن شعار “إلى الأبد.. إلى الأبد” يخص الأسد لوحده بل جميع المنظومة الأمنية لحزب البعث والمخلصين له بعد إن تم تجريد عشرات الآلاف من الشعب السوري من الهوية السورية لمجرد اختلافهم كقومية، لها لغة وثقافة وجغرافية وامتداد حضاري ممتد لآلاف السنين.
إلا إن الثورة تم تحولها لحربٍ طاحنة وأزمة مستعصية بعد تحكم قوى إقليمية ودولية والاستثمار فيها ما سلب المجتمع السوري سيادته وهويته الوطنية التي كانت في أدنى مستوياتها بالأساس ليتحول نظام البعث وحكومة الأسد إلى دُمى بلا إرادة تُقاد من قبل القوى الإقليمية كإيران وروسيا اللتين حوَّلتا سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات والصفقات وحروب وكلائها التي لا ناقة للسوريين فيها ولا جمل سوى دمائهم المسفوكة دون رقيب ورادع، وعلى الطرف النقيض لم تكن ما أسمت نفسها بقوى المعارضة السورية البديل الأفضل والأمثل للنظام السوري على العكس فقد أثبتت الوقائع أنها الوجه الآخر للنظام القائم وأكثر انحطاطاً تجمع بين طياتها نزعات طائفية وعقائدية وقومية ومنطلقات سياسية يقودها رواد الكراهية والعنصرية والفساد الأخلاقي.
ضياع بوصلة الحل
يؤكد مراقبون أنه ومنذ انطلاق الثورة السوريّة لحين سقوط النظام فإن \القوى والنُخب التي قدّمت نفسها كبديلٍ عن النظام السوري حولت الثورة إلى أزمة مستعصية كونه لم يكن لديها أية برنامج وخارطة طريق تنتشل السوريون من براثن الاستغلال والدكتاتورية، ولم تمتلك أية رؤى واضحة لمستقبل الشعب السوري الذي كان يتأمل البديل الأفضل.
بل أنها لم تقدم للشعب السوري سوى المزيد من الشرخ والمزيد من التعقيد الفكري المشبع بالطائفية والإرهاب والتطرف كما عززوا من تطور الحرب لتكون مقتلة مقيتة، أفقدت الشعب السوري ونخبه الثقة المتبادلة بل حولت المجاميع المسلحة التي كان من المفترض أن تقارع نظام الحكم إلى مرتزقة مرتهنين بيد مُشغليهم للحرب في الخارج في “ليبيا وأذربيجان وغيرها من الدول التي تجتمع فيها مصالح هذه الدول” تاركين خلفهم بلد ممزق تتقاذفه أمواج التفرقة.
فإذا كان النظام السوري حوّل الوطن إلى مزرعة خاصة خلال نصف قرن، فإن كتائب ما سميت بالمعارضة السورية حوَّلت القسم الذي سيطرت عليه إلى إمارات وخصخصتها إلى ثكنات مغلقة يتقاسمها أمراؤها لتنهب وتسلب ما تبقى من قُوت الشعب، وتسرق وتبيع حتى ما يخدمه من بُنى تحتية ومعالم أثرية تدل على حضارته أو يستند عليها في مستقبله وحاضره، لتتحول الجغرافية التي تسيطر عليها هذه المجاميع الإرهابية إلى بقايا مدن واشلاء خراب.
وبحسب ما يؤكده خبراء أن ما حصل ما هو إلا نتاج حتمي بعد ارتهان من قدموا أنفسهم على أنهم نُخب المعارضة السوريّة بشقيها الإخوانية والعلمانية لدول إقليمية كتركيا وقطر المتحكمتين بقرارهما السياسي لصالح الأجندات الخاصة بهذه الدول وتحويلهم إلى انكشارية عثمانية تخوض حروب “السفربرلك” وتجنيد المغرر بهم إلى مرتزقة تحت الطلب حيث مات الكثير منهم وباتوا في غياهب النسيان وقرابين للخيالات الأردوغانية في إحياء العثمانية البائدة وميثاقها الملي.
ثورة الـ 19 من تموز.. منارة وثورة حقيقية
في خِضم سطوع مؤشرات المسار الخاطئ الذي اتخذته القوى التي قدمت نفسها على أنها البديل عن النظام السابق المستبد اتخذت شعوب شمال وشرق سوريا مسلك “الخط الثالث” المُغاير للفشلين في قيادة المنطقة “النظام والمعارضة” وقدمت شعوب المنطقة خارطة طريقٍ واضحة قائمة على أخوّة الشعوب والتعايش المشترك.
هذا المنهج الذي تقدمت به شعوب شمال وشرق سوريا جاء على أعقاب رياح التغيير ضد نظام وسلطة الدولة القومية التي أثبتت فشلها في تكوين دولة ديمقراطية قوية بشعبها ودستورها الديمقراطي اتجاهاً آخر غيّر الاتجاه الذي عرفته سوريا والشعب السوري مع بدايات اشتعال فتيل الأزمة والصراع في سوريا.
ذاك الاتجاه الذي خطط له البعض ممن وضعوا تلك الآمال والمطالب شعاراً لسمسرتهم وبازاراتهم ورهاناتهم على كرسي العرش القومومي الاستبدادي لكنهم لم يجلبوا سوى الكوارث، وحرباً أهلية بين مكونات البلد الواحد، وفتحوا الأبواب على مصراعيها أمام كل الغزاة والمستعمرين الذين عرفتهم سوريا على مر التاريخ.
وهذا النهج جاء تلبيةً لما يأمل به الغالبية العظمى من الشعب السوري في أن يعيشوا بسلام لكن أصحاب الشعارات الطائفية والذين حسبوا أنفسهم أنهم وضعوا كل السوريين في كفة ميزانهم وميزان مشغليهم ووقعوا في شِرك نفاقهم وارتزاقهم. كان لمكونات شمال وشرق سوريا عموماً من كرد وعرب وسريان وباقي المكونات نظرة أخرى لِما يجري في سوريا وعموم المنطقة، لذا لم ينجّروا خلف الواهيين ومتلهفي السلطة الذين أغرقهم المال السياسي.
فكان الـ 19 تموز عام 2012، هو تاريخ انطلاق شرارة تغيير مفاجئ لم يتوقعه الكثيرون وغيّر من موازينهم السياسية والاستراتيجية على الأرض، من كوباني انطلق الخط الثالث للتحول والتغيير الثوري في سوريا، بالرغم من كل التحديات استطاعت هذه الثورة قيادةً وشعباً تجاوز كل المراحل التي مرت بها الأزمة والصراع في سوريا.
كما تم وصفها بالمسار التصحيحي للثورة السوريّة، حيث حملت على عاتقها نهجاً وطنياً وخارطة طريق واضحة المعالم مبنيةً على أفق الحل السوري السوري وهو ما لم يكن محل ترحيب للدول المستفيدة من الواقع السوري المتردي والمتحكمين بمصير وقرار من أسموا أنفسهم بالمعارضة.
حيث وأفرزت هذه الثورة نتائج على الصعد السياسية والاجتماعية والعسكرية والإدارية، وجنبت نسبة كبيرة من الشعب السوري من القتل والتشريد، كذلك حافظت على النسيج الاجتماعي السوري من التفتت والتمزيق وخلال فترة قصيرة تمكن أبناء الشمال السوري من فرض خطهم الثالث بقوة وعزيمة على الساحة السورية المتأزمة وتمكنوا من بناء إدارة ذاتية شارك فيها كل القوى السياسية والمجتمعية وبنوا أساس قوة عسكرية قضت على أخطر التنظيمات الإرهابية في العالم.
وبدون أدنى شك هذه الإنجازات الكبيرة والانتصارات دفعت أعداء الشعوب لحياكة المزيد من المؤامرات وإطلاق المزيد من التهديدات، حيث وبعد سبعة أعوام تقوم الدولة التركية بحشد قواتها على حدود مناطق شمال وشرق سوريا التي تعتبر المناطق الآمنة الوحيدة في سوريا، وتنم هذه التهديدات عن ذهنية عدائية ضد كل شعوب المنطقة.
لتتوج فيما بعد وتحديداً في كانون الأول من عام 2014 بإعلان الإدارة الذاتية الديمقراطية وقوامها ثلاث مقاطعات هي “الجزيرة، كوباني وعفرين”، اختارت كل منطقة هيكليتها الإدارية وفق أنظمة الإدارة المعتمدة في العالم التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبُنيت في سياق هذه الإدارات، مؤسسات خدمية وثقافية وأمنية وتربوية وإدارية ومدنية واجتماعية تكفّلت هذه الإدارات بعد أن أبصرت النور بعملية إدارة المنطقة التي شهدت فيما بعد نهضة من كل الجوانب.
وبعيداً عن النقيضين “المعارضة والنظام” المتشابهين في الذهنية والمتفقين في الغاية التي لم تجلب سوى الدمار والخراب والتهجير للشعب السوري واستباحة أرض سوريا، فقد تمايزت مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا عن النظام والمعارضة معاً، بتقديمها نموذجاً للحل الأفضل والأمثل.
سوريا ما بعد سقوط النظام
أربعة عشر عاماً مرت على الثورة السورية التي تكللت بإسقاط النظام المستبد بإرادة شعبية ودولية لكن لم يتم تقديم البديل الذي يحقق للسوريين عدالتهم الضائعة التي بحثوا عنها وحكم المرحلة الانتقالية الإقصاء والتهميش وما يشهده الساحل السوري من حربٍ طائفية مقيتة هو نتاج حتمي للأفكار التي بُنيت عليها الفصائل التي اعتلت سدة الحكم في البلاد.
فما من شك أن تاريخ ثورات الشعوب ضد أنظمة الاستبداد والفساد يؤكد أن نجاحها يتحقق بإسقاط النظام وإقامة بديل عنه يحقق العدل ويضمن الحرية والكرامة وبهذا المعنى فإن الثورة السورية قد قطعت معظم الطريق بتجاوز مرحلة الهدم وبات البحث عن سبل البناء، لكن هذا البناء لا يرتكز إلى خارطة طريقٍ وأسس واضحة لبناء الثقة بين الأطراف السوريّة.
ورغم أهمية المرحلة الأولى بمعاناتها ومآسيها وجراحاتها وما خلفته من آثار فإن تحديات مرحلة البناء ستكون أكثر صعوبة وتعقيداً ولا تعويل فيها إلا على وعي الشعب السوري بكل مكوناته السياسية والعرقية والطائفية ونضج قياداته من كل الأجيال والمراحل الذين طحنتهم الحرب الضروس طيلة السنوات المنصرمة.
إلا أن جزء من سوريا كانت له التجربة الناجحة التي أثبتت جدارتها ولها القدرة على انتشال البلاد لو تم تعميمها وهي تجربة شمال وشرق سوريا بمرتكزاتها الثلاثة الإدارية والسياسية والعسكرية وباتت نموذجاً مقبولاً وسط حالة التشرذم والانقسام الحاصلة بعد سقوط النظام وما خلّفه من تركة ثقيلة.
إن تسلسل الأحداث واستذكارها اليوم يفضي بالضرورة إلى حقيقة لا يمكن القفز عليها وهي أن الثورة السورية من سلالة الثورات العربية في موجتها الأولى والتي عبّرت بوضوح عن مدى رغبة شعوب المنطقة في الحرية لذا فإنه من الواجب بمكان تحقيق رغبة الشعوب أو الوقوع في بوتقة الثورة المضادة إن لم تقدم البديل المناسب عن النظام المستبد.
فعلى الرغم من كل السلبيات التي اعتلت المشهد القائم وأحداث الساحل السوري التي عكرت صفو إسقاط النظام إلا إن الاتفاق الذي تم الإعلان عنه في العاشر من آذار بين القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي ممثلاً عن شمال وشرق سوريا ورئيس سلطة دمشق أحمد الشرع ممثلاً لقيادة المرحلة الانتقالية تُعلّق عليه آمال في إمكانية تغيير السلوك القائم في البلاد.
بعد هذا الاتفاق الذي كان بمثابة بريق أمل للسوريين بجميع المكونات في الحصول على حقوقهم المشروعة في سوريا الجديدة، أعلنت اللجنة المكلفة بكتابة الدستور عن مسودة الدستور والذي لاقى رفضاً قاطعاً وعدّته جميع الشعوب ذهنية إقصائية وعنصرية، أعادت ذهنية السلطة السابقة، وكأن الثورة سوف تُعيد نفسها.
والسوريون اليوم ينظرون إلى أن تُساهم أسس ثورة الـ 19من تموز في تصحيح مسار الثورة السوريّة بوسمها الثورة الناجحة داخل الثورة السوريّة على أمل أن تكون طوق النجاة وأن تقدّم النموذج السليم الذي يُلبي تطلعات السوريين بكل مكوناتهم وأعراقهم وأديانهم.