بناز سليمان
في الثاني عشر من آذار 2004، انطلقت من مدينة قامشلو أول صرخة جماهيرية هزت عرش الخوف والاستبداد في سوريا، انتفاضة كتبت بدماء الشهداء الكرد الذين واجهوا آلة القمع البعثية بصدور عارية، معلنين أن كرامة الإنسان لا تساوم، وأن الظلم لن يدوم.
وبعد عقدين من تلك اللحظة التاريخية، نستذكر اليوم كيف كانت شجاعة أبناء قامشلو شرارةً أضاءت الطريق لثورة آذار 2011، وكيف أن دروس الماضي تلهم حاضرنا لبناء مستقبل حر لكل السوريين.
ولم تكن انتفاضة قامشلو مجرد احتجاج عفوي، بل كانت ثورة حقيقية ضد سياسات التهميش والإقصاء والتعريب، التي مارسها النظام البعثي البائد بحق الكرد والسوريين عموماً.
فقد حوّل النظام السوري الملاعب الرياضية إلى ساحات قتال، واستخدم الرصاص الحي لقمع المتظاهرين، فسالت دماء الأحرار على دروب الحرية والكرامة، تلك الدماء التي لم تنطفئ، بل توهجت ومنحت السوريين الأحرار بريق أمل وفتحت لهم نوافذ الأمل في جدران الخوف والعتمة.
ولم تذهب تضحيات شهداء 2004 سدى، فالسوريون الذين خرجوا في 2011 حملوا الشعارات نفسها “حرية، كرامة، عدالة”.
وقد كانت انتفاضة قامشلو أول فصلٍ في سردية الثورة السورية، حيث أثبت الشعب أن مفردة الخوف لن تكون فعالة للأبد، وأن قاموس البطولة طافح بالانتصارات والتضحية من أجل حرية الشعوب.
فالشهداء الذين ارتقوا إلى مصاف البطولة قبل 21 عاماً زرعوا بدمائهم بذرة الوعي، التي نَمَتْ في قلوب جيل الثورة، والتي امتدت من قامشلو مدينة الحب والكرامة إلى عموم سوريا، وتحولت تلك المأثرة إلى هتافات في شوارع درعا ودمشق وحمص لاحقا في ربيع 2011.
فذكرى انتفاضة قامشلو ليست ذكرى للشعب الكردي فحسب، بل ذكرى سورية جامعة، ففي تلك الأيام المشتعلة، وقف الكرد ضد القمع، مثلما فعلوا في 2011، واستمروا بمحاربة الظلم وإزالة ركام أعوام طويلة من الظلم والقهر.
واليوم، نستذكر هذه الذكرى، ونحن على أعتاب مرحلة جديدة من بناء سوريا جديدة، سوريا حرة، تعددية، ديمقراطية، مدركين بأنه لا حرية لشعب دون آخر، ولا عدالة بدون اعترافٍ بحقوق الشعوب كافة، وإن وحدة السوريين في مواجهة النظام الديكتاتوري كانت الضمانة الوحيدة لسوريا الحرة، وذلك التكاتف بين السوريين في الوطن السوري والذي يتسع للجميع قادر على دحر الطائفية المقيتة والتفرد بالسلطة، وبناء مستقبل أجمل للسوريين وسوريا.
فشهداء انتفاضة 12 آذار لم يكونوا أرقاماً في التقارير الإعلامية، بل أصبحوا رموزاً للبطولة، لقد علّمونا أن المقاومة السلمية قادرة على بناء العدالة وكتابة التاريخ، وإن الحق قوة أقوى من أعتى الأسلحة، وها هي سوريا اليوم ورغم الدمار تُكمل المسيرة، فالثورة لم تنتهِ، بل تستمر لاستعادة العافية لسوريا، ونفض الغبار عنها، سوريا التي لن تكون إلا لأهلها وشعبها بمختلف شعوبها من “عرب وكرد وسريان” وغيرهم في هذه الأرض المقدسة.
وفي الذكرى الحادية والعشرين لانتفاضة قامشلو، ندعو أبناء سوريا عرباً وكرداً وسرياناً إلى استحضار روح الوحدة الوطنية، والعمل على الهوية الوطنية الجامعة، وإحياء ذكرى الشهداء بتوثيق قصصهم في المناهج التعليمية والإعلام، ودعم العدالة الانتقالية التي تحقق محاسبة المجرمين وتعويض الضحايا، ورفض أي مشروعٍ طائفي يُهدد نسيج الوطن، فإذا كانت قامشلو 2004، قد حطّمت جدار الخوف، فإن مهمتنا اليوم هي ألا نسمح بإعادة بناء جدران أخرى، ولنعمل معاً على كتابة مستقبلٍ البلاد، وان نعمل معاً من أجل عقد اجتماعي ودستور حقيقي، يضمن حرية وكرامة الوطن والمواطن، وأن يكون الهدف الأساسي إعادة إعمار سوريا، من خلال مشاركة أبنائها، والعمل معاً بكل وفاء لدماء الشهداء وجهد الثوار، وسائر أبناء الشعب السوري من أجل مستقبل أفضل لأبنائنا وأجيالنا القادمة.