أفيندار مصطفى
في مسرح الألم السوري، يتكرر المشهد ذاته وإن تبدّلت الوجوه والأدوار. الدماء تُسفَك، والأرض تئن، والعالم يكتفي بالتعبير عن “قلقه”. من وراء شاشات أنيقة، وفي قاعات الاجتماعات الباردة، تُدار الأزمات بكلمات منمّقة عن حقوق الإنسان، فيما الحقيقة تكمن في العيون الزائغة لأمٍّ تحتضن جسد طفلها المسجّى على قارعة الطريق، وفي أنين الجرحى الذين لا صوت لهم إلا الصمت المدويّ للإنسانية.
بين الماضي والحاضر: هل يُعيد التاريخ نفسه؟
حين وطأت قدما حافظ الأسد عرش السلطة، لم يكن صعوده مجرد تبدّل في الوجوه، بل كان بداية مرحلة من البطش الممنهج، حيث اختُزلت البلاد في سلطة الفرد وأُعيد تشكيل المجتمع وفقاً لمعادلات الخوف والطاعة. كانت مدينة حماة شاهدة على أبشع الفصول، حيث جُعلت مثالًا يُروى عن ثمن التمرّد، يوم اجتاحتها آلة القمع بوحشية خلّفت الآلاف تحت الركام، وكُتِب حينها أن الحاكم قد “استتب له الأمر”.
اليوم، وبعد عقود من الدماء، تعيد المأساة إنتاج نفسها بأسماء مختلفة. من كان يُقتل في الأمس أصبح قاتلاً في اليوم، ومن كان مُلاحَقًا صار الملاحِق، وكأن العدالة لم تكن سوى بندقية تنتقل من كتفٍ إلى آخر. المشاهد تتكرر ولكن الضحايا يتبدلون، فمن مذابح السنوات الماضية بحق السُنّة، إلى مشاهد القتل الوحشي بحق العلويين اليوم، يبدو أن ميزان الانتقام يحكم المشهد أكثر من ميزان العدالة. أهي لعنة الأرض التي ابتُلعت من قبلهم، أم أن دوامة الثأر لا تعرف إلا الدوران؟
في هذا السياق، تقول عائشة الدبس، وهي تُراقب بحر الدماء المتدفّق: “بشار الأسد ارتكب مجازر بحق المدنيين”
لا يمكن بناء دولة على الثأر، ولا يمكن أن تستمر سوريا إذا كان كل طرف يريد الانتقام لما حدث له. هذا سيؤدي فقط إلى مزيدٍ من القتل والمذابح، ولن يكون هناك منتصر، بل الجميع خاسرون.
هذه الكلمات تختصر مأساة سوريا اليوم، حيث يتحوّل الضحايا إلى جلادين، والدم يُراد له أن يُمحى بمزيدٍ من الدم، فالانتقام لم يكن يومًا طريقًا للعدالة، بل هو استمرارٌ للظلم بثوبٍ آخر. كيف يمكن الحديث عن سوريا مدنيّة إن كان القتل لا يزال هو الحكم الفاصل بين الأطراف؟ كيف يُمكن لأمة أن تقوم من بين الأنقاض إذا كان الماضي هو الذي يقودها إلى مستقبلها؟
أين العدالة الانتقالية؟
في خضم هذه الفوضى، يتردد مصطلح “العدالة الانتقالية”، ولكن أي عدالة يمكن أن تتحقق حين يُبنَى المستقبل فوق جثث الماضي دون محاسبة؟ العدالة ليست مجرد محاكمات لمن سقطوا، ولا بيانات جوفاء تُتلى في مجلس الأمن، بل هي المصارحة الحقيقية مع الذات ومع التاريخ، هي أن تتوقف الدوائر المفرغة من العنف، وأن يُكسَر سيف الانتقام الذي يقطع الطريق على الأجيال القادمة.
أما الغرب، فهو كعادته، يُتقن الوقوف على حافة المشهد، يرفع حاجبيه قلقًا، ثم يمد يده لمن يحقق مصالحه. القلق الغربي لم يمنع طائراته من قصف بعض المناطق، ولم يحُل دون ترك سوريا ساحة مفتوحة للميليشيات والمخابرات الدولية، ولم يمنح السوريين أكثر من الفتات على طاولات اللجوء.
سوريا المدنيّة… الحلم المنكسر