د. طه علي أحمد
لا يخلو عملٌ ثوريٌ في التاريخ من قوى ثوريةٍ مضادةٍ يقودُها المتضررون من التغيير المصاحب لتلك الحالة الثورية، تلك هي سُنَّة التاريخ؛ فالمقاومة كقدرٍ محتومٍ لطالما تحدث عنه المفكر عبد الله أوجلان في مشروعه الفلسفي تضرب بجذورها في عُمق التاريخ الإنساني منذ انتقاله إلى حالة “المجتمع الطبيعي” المرتكز على القيم النابعة من المكانة المركزية للمرأة، والتي تتنوع بين الحكمة والرحمة والقوة أيضاً، ومن الطبيعي أن تبرز قوى مضادة تسعى لتأمين وضعٍ لها وتأسيس مجتمع تضمن خلاله الهيمنة والسيطرةَ على مقاديره، وهو المنطق الذي حمل في طياته بذور هيمنة السلطة الأبوية كنهجٍ مُمتد منذ “العصر النيوليتي” حتى يومنا هذا.
وفي سوريا، ومع استمرار حالة الثورة لأكثر من عشر سنوات حتى سقوط نظام “البعث” في الثامن من كانون الأول الماضي، كان من الطبيعي أن لا تغيب قوى الثورةِ المضادة لطموحات الحالمين بعصرٍ جديد تسوده قيم الديمقراطية والتعايش المشترك، وهي الحالةُ التي أطلَّت برأسها في كافة التجارب الثورية التي شهدها الشرق الأوسط على مدار العقود الأخيرة لتؤكد حقيقةً مفادُها أن “الثورةَ المضادة قدرٌ محتوم”.
وفي هذه الأجواء، من المتوقع أن يتشبَّث الخاسرون من سقوط النظام ببقاءهم على قيد الحياة والفاعلية، وهو ما راق للسلطة الحاكمة في دمشق ومن والاها سياسياً وإعلامياً (محلياً وإقليمياً) بتسميتهم بـ “فلول النظام”. إن ظاهرة “الفلول” الملازمة لسقوط أنظمة الحكم حقيقة لا مِراءَ فيها، في حين تتمثل “الفريضةُ الواجبة” آنذاك في وجود سلطةٍ حاكمةٍ ذات ذهنيةٍ واعيةٍ رشيدةٍ تتحرك في إطار “مشروع وطني حقيقي” تُعلي ممارستُها من قيمة “المواطنة” على أية انتماءاتٍ فرعيةٍ طائفيةٍ أو مذهبية.
غير أن التطورات الأخيرة في المشهد السوري قد كشفت عن توظيفٍ سياسيٍ وطائفيٍ ملحوظ من جانب السلطة لإبراز “فلول النظام” كفاعلٍ رئيسٍ يتحمّل مسؤولية أوزار وخطايا المرحلة الانتقالية، وتَنَصُّلها – أي السلطة – من أية مسؤولية تاريخية فيما يتصل بالانتهاكات التي تمارسها الدولة التركية سياسياً وعسكرياً بحق سيادة سوريا في شمالها وشرقها، وكذلك الانتهاكات الإسرائيلية بالجنوب، وأخيراً – وليس آخراً – الانتهاكات التي ترتقي لمستوى “الإبادة” التي يتعرض لها أبناء الساحل السوري، وتحديداً ممن ينتمون لـ “الطائفة العلوية”، من جانب عناصر أمنية تابعة للسلطة في دمشق تحت زعم مطاردة “فلول النظام”. ففي حين تفيد التقارير بمقتل نحو 300 مسلح من الجانبين (حكوميين وغير حكوميين) لكن الحصيلة الإجمالية – وفقاً لأحدث التقارير – تفيد بمقتل نحو 800 شخصاً من المدنيين العلويين وهو ما يجعلنا بصدد “إبادة” تتعرض لها العديد من القرى التي شهدت عمليات قتل ونهب وحرق مثل ريف جبلة وريف بانياس وغيرها تحت غطاء طائفي عبَّرت عنه الدعوة التي انطلقت عبر المساجد وبمفردات ذات دلالة مثل “النفير العام” و”حَي على الجهاد”، إن كل ذلك وغيره يبرز ملامح النهج العام الذي تمارسه السلطة بحق شعوب أصيلة في المجتمع السوري مثل “العلويين” ومن قبلهم “الكرد” المستباحين أمام الآلة العسكرية المدعومة من تركيا، وكذلك الحال بالنسبة للشعب الدرزي في الجنوب أمام المخططات الإسرائيلية في السويداء ذات الخبرة السلبية والأليمة التي عاشها أبناء المنطقة مع هجمات داعش في عامي 2018 – 2019، والتي راح ضحيتها المئات من أبناء المنطقة، ورغم مزاعم النفي التي تقدمها السلطة للتبرؤ من الممارسات المرصودة (بالفيديو والمتداولة عبر الفضاء الإلكتروني) لعناصر أمنية تابعة لها على مدار الأيام الأخيرة واعتبارها حالات فردية، إلا أن السَمْتَ العام للغة الخطاب المستخدمة في كافة هذه المشاهد إنما يؤشِّر على تبنّي السلطة العامة لهذه الممارسات ودعمها لاعتبارات طائفية أو أيديولوجية، بما يُكَرِّس لفصلٍ جديدٍ من رواية الاستبداد التي قُدِّرَ للسوريين العيش في أتونها، تقوده أشد وأخطر أشكال الثورة المضادة المتمثلة في “الذهنية الطائفية” للسلطة الحاكمة.
التطورات الأخيرة إذن تفتح الآفاق لتوفر كافة شروط “البيئة الحاضنة” لخلق نموذج “الدولة الفاشلة” التي لا تخدم سوى مخططات التقسيم التي ترتكز عليها مشروعات قومية متطرفة تتناغم فيما بينها، وإن بدت متنافسة في ظاهرها، مثل المشروع الطوراني (التركي) والفارسي (الإيراني) والصهيوني (الإسرائيلي والغربي).