د. طه علي أحمد
مع تسارع وتيرة الاضطراب الأمني والانسداد السياسي الذي يُخيّم على المشهد السوري، تتزايد الحاجة إلى البحث عن مخرج عقلاني ينطوي على آفاقٍ مُشرقةٍ للسوريين، فالأداء غير المتزن للسلطة الحاكمة في دمشق يعكس قدراً من الارتباك وغياب الرؤية المتماسكة لبناء الدولة في سوريا الجديدة، ذلك إن الممارسة “الأحادية” التي اعتادت عليها السلطة منذ بداية تشكُّلِها من خلال طيفٍ سياسيٍ واحد، ومُضِيِّها في إجراء ما يُعرف بـ “الحوار الوطني” بغير اكتراثٍ للتعددية والتنوع الذي يتشكل منه المجتمع السوري، وصولاً إلى التغاضي عن التدخّلات الفجَّة لقوى خارجية مثل تركيا وإسرائيل لإعادة رسم الخريطة السوريّة سياسياً وجغرافياً، إن كل ذلك – بجانب أمور أخرى – يؤكد على على وجود سلطة غير قادرة على فرض السيادة الوطنية على كافة الأراضي السوريّة، وهو يؤكد في الوقت نفسه على “استحالة” فاعلية نموذج الحكم المركزي التقليدي الذي عرفته سوريا خلال العقود الأخيرة.
بشكلٍ عام يتوافق دارسوا العلوم السياسية والاجتماعية على جوانبٍ رئيسة لقوة الدولة وقدرتها على النهوض في أعقاب الانتكاسات الكبرى، يأتي في مقدمتها 1ـ ممارسة السيادة على أراضي الدولة ومنع الصراعات، 2ـ استقلالية السياسات والقدرة على دعم القانون، 3ـ مرونة الاستجابة فيما يتصل بتقديم الخدمات والخضوع للمساءلة، وهو ما يوجب التحرر من الذهنية التقليدية وضرورة التطبيق “الجيد” لأنماط الحكم اللامركزي من أجل ضمان تماسك الدولة والحفاظ على وحدتها الترابية، وتعزيز الامتثال للقانون، وتحسين قدرة النظام السياسي ومفاصله على تقديم الخدمات للمواطنين، وتعزيز آليات المساءلة المحلية القوية جنباً إلى جنب مع الضمانات الوطنية القوية لحقوق الجميع، ومواءمة ممارسات القادة مع تطلعات ومتطلبات المواطنين المحليين، ومنع السلطات دون الوطنية من تجاهل أو قمع مكونات المجتمع المحلي بمختلف تنوعاتهم. في هذا السياق، تتجلَّى المُعضلة السوريّة في دائرةٍ مُفرغةٍ لا يتوقع لها نهاية في المدى المنظور ما لم تتحلَّ السلطة الحاكمة بالرشادة والحكمة السياسية من خلال مشروعٍ وطنيٍ يرتكز على “اللامركزية” كمبدأ ديمقراطي أصيل.
وبشكلٍ عام، تنطوي اللامركزية في الحكم على إضعاف نموذج “السيطرة من القمة” من خلال خلق مراكز جديدة للسلطة، فضلاً عن كونها تُسْهِم في تحويل السياسة من ساحةٍ وطنيةٍ من الأعلى إلى الأسفل، وتخضع لاحتكار قِلٍّة من النُخَب المحدودة إلى ساحة أوسع تضم العديد من الساحات المحلية، حيث يجد الساسةُ المحليون أنفسهم مدفوعون لمعالجة المشاكل المحلية بشكلٍ مباشر والعمل على خلق نماذج تنموية تُلَبِّي احتياجات الواقع المُعاش في أقاليم الدولة. واللامركزية بهذا المعنى تُمثّل انتقالاً من بنية قيادية هشة وعُرضة للانزلاق نحو نموذج “الدولة الفاشلة”Fragile State إلى نموذجٍ “التعدد المتكامل” Integrated Diversity للفاعلين المحليين بما يعزز المساءلة ويرفع منسوب الشرعية للنظام القائم على تعدد الفاعلين، بحسب التنوع الجغرافي وليس الإثني لأقاليم الدولة، حيث تصاغ الأجندات التنموية على أساس احتياجات الأقاليم بغض النظر عن أصولهم العرقية أو انتماءاتهم السياسية والمذهبية، لاسيما أن السلطات المحلية تعمل بالتكامل – وليس التعارض – مع السلطات المركزية ليشكل الجميع مستويات متناغمة وداعمة للنظام السياسي.
هنا يبرز التساؤل: هل يتوقع أن تلجأ السلطات السوريّة للمضي نحو الخيار اللامركزي بالمعنى المذكور سابقاً، وفي هذا السياق يبرز التحدي – أو الاختبار – الأهم الذي يواجه السلطة الراهنة في دمشق والذي يتمثل في قدرتها على التحلُّلِ من المصالح الذاتية والتخلص من النظرة الطائفية الضيقة، وإيلاء الاهتمام بالصالح العام، الأمر الذي يوجب عليهم التوجه نحو “اللامركزية” كبديلٍ أنسَب للواقع المضطرب بسوريا في الوقت الراهن.
فضلاً عما سبق، فمن غير المتصور مواجهة التحديات الأمنية الراهنة من خلال سلطةٍ مركزيةٍ عاجزةٍ عن بسط سيطرتها على كامل الأراضي السوريّة، الأمر الذي يفرض إعادة النظر في فلسفة الحكم لدى السلطة القائمة في دمشق، وهو ما تتأكد الحاجة إليه مع التطورات الأخيرة بشأن المخططات الإسرائيلية في جنوب سوريا، والتي كشفت عنها تصريحات وتوجيهات القادة الإسرئيليين بشأن تأكيد الوجود الإسرائيلي في الجنوب فضلاً عن إعادة إحياء مُخططٍ تقسيميٍ قديم لطالما تحدث عنه القادة الإسرائيليون تاريخياً بشأن إقامة “دويلة درزية” في الجنوب لخلق حاجزٍ عازلٍ يضمن أمن اسرائيل. ويتوازى ذلك – أيضاً – مع المخططات القومية الطورانية المعلنة بشكلٍ متطرف على الأراضي السوريّة. إن كل ذلك يصعب – بل يستحيل – مواجهته بدون فلسفةِ حكمٍ تستهدف تعزيز اللُّحمة الوطنية، من خلال خيارات وطنية بحتة، وهو ما يصعب تصوره أيضاً بعيداً عن النموذج اللامركزي الذي يفرض نفسه كخيارٍ استراتيجيٍ لسوريا الجديدة.