دلبرين بطال
منذ تقسيم كردستان بين الدول الأربع، عانى كرد سوريا ـ مثل باقي أجزاء كردستان ـ من التهميش الاقتصادي الممنهج الذي فرضته الأنظمة القومية الحاكمة، ومع هيمنة الرأسمالية كنظامٍ اقتصادي عالمي، زادت الفجوة بين المراكز الاقتصادية والمناطق التي تم تهميشها عمدًا، حيث لم تكن السياسات الاقتصادية في سوريا بمعزلٍ عن التوجهات الرأسمالية التي تعزز المركزية وتهمّش الأطراف.
في ظلِّ هذا الواقع، تعرضت المناطق الكرديّة في سوريا لعقودٍ من الإقصاء الاقتصادي، حيث حُرمت من المشاريع التنموية الكبرى، وتم فرض قيود مشددة على القطاعات الحيوية، مثل الزراعة والصناعة، مما أدى إلى بقاء الاقتصاد الكردي في حالةٍ من الركود والتبعية للمدن الكبرى، دون وجود فرص حقيقية للنمو، ورغم غنى هذه المناطق بالموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز، فإن هذه الثروات لم تُستخدم لتنمية المجتمعات المحلية، بل تم استغلالها لخدمة النظام المركزي، في حين بَقِيَ السكان الأصليون يعانون من البطالة وانعدام البنية التحتية الأساسية.
الرأسمالية وسياسات التهميش في سوريا
خلال حكم البعث، اتبعت الدولة سياسة اقتصادية مركزية قائمة على الهيمنة على الموارد، وحرمان المناطق ذات الأغلبية الكردية من الاستثمارات الاستراتيجية. كان الهدف الأساسي من هذه السياسة ليس فقط السيطرة الاقتصادية، بل أيضًا فرض هيمنة سياسية عبر تجريد السكان من أي أدوات تمكنهم من تحقيق استقلال اقتصادي.
الرأسمالية، التي كان من المفترض أن توفر فرصًا للنمو، لم تكن سوى أداة لتعزيز هذه التبعية، حيث تم تركيز الاستثمارات في المدن الكبرى، بينما بقيت المناطق الكردية خارج خطط التنمية. كما أن تزايد نفوذ الشركات الخاصة بعد تبني السياسات النيوليبرالية في العقدين الأخيرين من حكم النظام لم يغيّر شيئًا في وضع المناطق الكردية، إذ استمرت هذه الشركات في استغلال الموارد دون أي التزام بالتنمية المحلية.
محاولات بناء نموذج اقتصادي بديل
مع اندلاع الأزمة السوريّة وظهور الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، التي عملت على البحث عن نموذج اقتصادي مختلف يتيح لهم تجاوز التهميش الذي فرضه النظام المركزي. اعتمدت الإدارة الذاتية على نموذج الاقتصاد المجتمعي، الذي يقوم على مبدأ التعاونيات وتقاسم الموارد، بدلًا من النظام الرأسمالي القائم على الربح الفردي.
يهدف هذا النموذج إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتعزيز الإنتاج المحلي، وتقليل الاعتماد على الأسواق الخارجية التي تتحكم فيها القوى الإقليمية. كما يسعى إلى كسر الاحتكار الرأسمالي، الذي كان دائمًا وسيلة للهيمنة السياسية والاقتصادية، عبر إنشاء مشاريع تعاونية تُدار من قبل المجتمعات المحلية.
التحديات والمستقبل
رغم الجهود المبذولة في بناء نموذج اقتصادي مختلف، فإن التحديات لا تزال كبيرة. فالرأسمالية، كنظامٍ مهيمن عالميًا، لا تسمح بسهولة بظهور نماذج اقتصادية بديلة، خاصة في المناطق التي لا تحظى بدعمٍ دولي. كما أن الحصار الاقتصادي المفروض على شمال وشرق سوريا يعيق تطوير هذا النموذج، حيث تعتمد المنطقة على تجارة محدودة في ظل قيود مشددة من قبل الدول المجاورة.
في المقابل، فإن استمرار المقاومة الاقتصادية، وتعزيز النموذج المجتمعي، وتوسيع المشاريع التعاونية، يمكن أن يُشكل بديلًا حقيقيًا عن التبعية للنظام الرأسمالي. الكرد في سوريا، الذين عانوا طويلًا من سياسات التهميش، أمام فرصة تاريخية لإثبات أن التنمية لا تحتاج بالضرورة إلى أن تمر عبر بوابة الاحتكارات الرأسمالية، بل يمكن أن تكون قائمة على العدالة الاجتماعية وتقاسم الموارد بما يخدم مصلحة الجميع.
ختاماً أن الرأسمالية لم تكن يومًا حليفًا للشعوب التي تسعى للتحرر، بل كانت على الدوام أداة تستخدمها الأنظمة المركزية لفرض سيطرتها الاقتصادية والسياسية.
كرد سوريا، الذين واجهوا هذه السياسات لعقود، بدأوا في بناء نموذج بديل، رغم التحديات والعقبات. مستقبل هذا النموذج يعتمد على مدى قدرة المجتمعات المحلية على الصمود، ومدى إمكانية خلق اقتصاد مستقل بعيد عن التبعية للأسواق التي تتحكم بها القوى الكبرى. في النهاية، المعركة الاقتصادية هي جزء من معركة التحرر، ولا يمكن الفصل بينهما بأي شكل من الأشكال.