د. طه علي أحمد
ترفع السلطةُ القائمةُ في دمشق رايةَ “الحوار الوطني” سبيلا لبناء سوريا، الأمر الذي يبدو وجيهاً ومواكباً لمتطلبات المرحلةِ الانتقالية التي يعيشها السوريون. غير أن التطورات الأخيرة تثير القلق بشأن مدى جدية مزاعم الحوار، التي تبديها السلطة في دمشق، لاسيما مع فشل الأخيرة في إقناع بعض من مكونات المجتمع مثل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وغيرها للمشاركة في هذا الحوار الذي تقوده مع عددٍ من القوى التي تدور في فَلَكِها، وهو ما ينعكس بالضرورة على مصداقية هذه الجهود.
إن الأصلَ في “الحوار الوطني” هو الاعتراف المتبادل والتكافؤ بين أطرافه، لاسيما وإن كان الهدف هو التوافق على مصلحة الدولة ومصيرها في لحظات تاريخية حاسمة أشد ما تحتاجه هو تبنِّي سياسةٍ حقيقيةٍ لتحقيق ما يُعرف بـ “الاندماج الوطني”، والذي يُعَبِّر عن حالةٍ مجتمعيةٍ تتقدم فيها الولاءات الوطنية على ما دونها من ولاءات فرعية بالمجتمع، ويمكن ترجمتها – بشكلٍ ما – في تعبير المواطنة وعاء ديمقراطي جامع للتعددية والمساواة. وفي هذه الحالة يتقدم الولاء للوطن السوري على أي ولاءٍ طائفي أو مذهبي؛ فالمواطن سواء كان عربيا أو كرديا أو درزيا… إلخ إنما هو سوريٌ في المقام الأول، بما لا يتعارض مع انتمائه العرقي أياً كان. لكن؛ ذلك يظل مرهونا بتحقيق حالةٍ من الرضا المجتمع التي يُعبَّر عنها بـ “العدالة الاجتماعية”؛ تلك التي يتمتع خلالها المواطن بحقوقه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية… إلخ في إطارٍ من المساواة بين مكونات المجتمع.
ومع تصدُّرِ هذه الإشكالية للمشهد العام في الدول، التي اجتاحتها الحِراكات الثورية فيما يعرف بـ “ربيع الشعوب”، بَرَزت إشكاليةُ “الاندماج الوطني” حقيقة ودافعاً رئيساً لهذه الحِراكات، وما ترتب عليها من عدم استقرارٍ أمني وسياسي، وكانت أبرز الحقائق التي كشفت عن نفسها خلال هذه الأحداث هي “فشل الدولة القومية التي شكَّلت الوحدة السياسية الحاكمة لشعوب الشرق الأوسط في تبني مشروعات وطنية تنشد العدالة الاجتماعية والاندماج الوطني بشكلٍ حقيقي بعيداً عن الشعارات والخطابات الشعبوية”.
بعبارةٍ أخرى، فشلت النظم السياسية الحاكمة في أداء مهامها ووظائفها الرئيسة المُتعارف عليها بين دارسي العلوم الاجتماعية والسياسية، والتي تتقدمها “الوظيفة الاستخراجية” المَعنية باستخراج موارد المجتمع، ثم “الوظيفة التوزيعية” المناط بها إعادة توزيع الموارد المُستَخرجة بشكلٍ متوازٍ اجتماعياً بما يحقق العدالة الاجتماعية بين المواطنين في سائر أنحاء وأقاليم الدولة. فعلى سبيل المثال، يُتوَقَّع أن يتم التعامل مع خريطة المشروعات التنموية في سوريا على أساس مشروعات مخصصة لاحتياجات الشمال أو الجنوب السوري، وليس كمشروعات مُخَصَّصةٍ للكرد أو العرب، أو حتى للسنة والشيعة، وهكذا يكون الجميع في المُحَصِّلة النهائية سوريين تحكمهم الجغرافيا، وليست الهويات الفرعية مادام الأصل هو “المواطنة”. وبذلك تتشكَّل سوريا الجديدة على أساس ذهنيةٍ تشاركيةٍ قائمةٍ على الاعتراف المتبادل وحصول المواطنين – جميعهم – على كافة حقوقهم بشكلٍ عادل، لتتحقق الإشباعات الوطنية بما يضمن الالتحام بين الجميع، وهو جوهر الاندماج الوطني الذي يُعَدُّ الاخفاق في تحقيقه دافعاً رئيساً لما شهدته سوريا، وغيرها من دول المنطقة على مدار السنوات العشر الأخيرة.
وبالعودة للحوارِ الوطني – المزعوم – فما لم تتحقق لدى القائمين عليه الجدية اللازمة لضمان شروط الاندماج الوطني والتعامل مع مكونات المجتمع على أنهم سوريين في المقام الأول، وليس فرقاء سياسيين، ستكون الخسائر الأكبر هي انهيار السلام المجتمعي، وانزلاق البلاد في متاهات لا متناهية من “البؤس”.