بدرخان نوري
كثيرةٌ هي الوعودُ التي أعطاها مسؤولو “حكومة تصريف الأعمال” السوريّة، منذ سقوط النظام السوريّ في 8/12/2024، إلا أنّها حتى اليوم لم تُترجم إلى واقعٍ فعليّ، وإذا كان الوضع الأمنيّ اختباراً مهماً أمام الحكومة الحاليّة فإنّ الوعودَ بتحسين الواقعِ المعيشيّ هو اختبارٌ لا يقلُّ أهميةً، وهو معيارُ ثقةِ الأهالي، التي فشل النظام السوريّ في كسبها، ولا يشفع للحكومة الحالية “إدارة هيئة تحرير الشام” توصيفها بأنّها مؤقتة، فالحلّ الاقتصاديّ يبدأ من الحوار الوطنيّ لتؤكد السلطات الحالية أنّها مع الأهالي في مركبٍ واحدٍ غير منفصلةٍ عنهم أو متجاهلةً لمعاناتهم.
معدل تضخم مروّع
ووفقاً لتقرير مؤشرات التضخم الذي نشره مصرف سوريا المركزيّ في 12/2/2025 بلغ معدل التضخم العام في سوريا خلال عام 2024 إبّان حكم النظام البائد ما مقداره 57%، وهو أعلى من معدلات التضخم في تركيا ولبنان.
وانكمش الاقتصاد السوريّ بنسبة 85% خلال نحو 14 عاماً من الأزمة السوريّة، وتراجع الناتج المحليّ الإجماليّ من 67.5 مليار دولار عام 2011 إلى 8.98 مليار دولار فقط في عام 2023، بحسب تقديرات البنك الدوليّ. كما تدهورت قيمة الليرة السوريّة بشكلٍ كبير، من نحو 45 ــ 54 ليرة للدولار لتتجاوز 13 ألف ليرة عام 2023، ما أدى لارتفاع التضخم إلى 140% مقابل 4.8% في 2011، ودفع 96% من السوريين تحت خط الفقر من نحو 47.7% فقط في 2009، بحسب بيانات البنك الدوليّ.
قال وزير الاقتصاد بحكومة تصريف الأعمال باسل عبد الحنان -للجزيرة نت- في 26/12/2024، إن حكومته تواجه تحديات ضخمة بعد أن ترك النظام السابق دولة منهارة في جميع القطاعات، وعلى رأسها القطاع الاقتصاديّ، في جميع المجالات التي تُعدُّ هي الأساس في بناء الدولة وقوتها.
وتقول الأمم المتحدة: “إنّ 17 مليون سوريّ، بينهم 5.5 ملايين نازح داخل البلاد، يحتاجون إلى مساعدات إنسانيّة هذا العام، في مقابل 15.3 مليوناً احتاجوا لهذه المساعدات في عام “023”. وبحسب النشرة السنويّة لأسعار المستهلك الصادرة عن المركز السوريّ لبحوث السياسات، شهدت سوريا خلال 2023 تضخماً جامحاً إذ زادت الأسعار بأكثر من 400% مقارنةً بالأسعار في 2022، التي كانت مرتفعة بالأصل بـ 185% عما كانت عليه في 2021.
رغم تحسّن سعر صرف الليرة السوريّة وارتفاعها أمام الدولار الأمريكيّ إضافةً إلى تخفيض الرسوم الجمركيّة على البضائع المستوردة لم تشهد أسعار السلع في الأسواق المحلية انخفاضاً ملموساً، وتتعمق الأزمة المعيشيّة مع رفعِ “إدارة هيئة تحرير الشام” الدعم عن الخبز والمحروقات، وزيادة سعر ربطة الخبز إلى 4 آلاف ليرة وتجاوز سعر أسطوانة الغاز المنزليّ 200 ألف ليرة، كما ارتفعت أسعار المواصلات العامة متأثرةً بارتفاع أسعار المحروقات.
وعد زيادة الرواتب
قال وزير الماليّة في إدارة هيئة تحرير الشام محمد أبازيد في 5/1/2025، إنّ الحكومة ستزيد رواتب العديد من عاملي القطاع العام 400% الشهر المقبل بعد استكمال إعادة الهيكلة الإداريّة للوزارات لتعزيز الكفاءة والمساءلة، وقدّر أبازيد كلفة زيادة الرواتب بما يربو على 1.65 تريليون ليرة سورية (127 مليون دولار) وستُموّل من خزانة الدولة الحالية، ومساعدات إقليميّة واستثمارات جديدة، ومن خلال الجهود الرامية إلى فكِّ تجميد الأصول السوريّة الموجودة حالياً بالخارج.
وقال أبازيد لوكالة رويترز إنّ هذه هي “الخطوة الأولى باتجاه الحل الإسعافيّ للواقع الاقتصاديّ في سوريا”، مضيفاً أنَّ رواتب عاملي القطاع العام عن الشهر الماضي ستُصرف هذا الأسبوع.
ونقلت وكالة نورث برس” عن مصدر بوزارة المالية بحكومة المرحلة الانتقالية في سوريا، الاثنين 3/2/2025، أنّه لا توجد زيادة رواتب لشهر شباط الجاري، وأضاف أنَّ زيادة الـ 400% التي صرحت عنها وزارة المالية لن تطبق هذا الشهر وسيتقاضى العاملون رواتبهم القديمة، ولكن المصدر لم يوضح أسباب عدم صرف الزيادة.
ونقلت وكالة “سانا” عن وزير الماليّة في وقتٍ سابق، أنَّ الزيادة كان من المقرر صرفها مطلع كانون الثاني الماضي، ولكن فوجئت الحكومة بأنَّ أعدادَ العاملين المسجلين في الجهات العامة أكبر بكثير من الأعدادِ الفعليّة على أرض الواقع، إضافةً للخلل بالقوائم الماليّة.
رغم أنَّ زيادة الرواتب بنسبة 400% خطوة إيجابيّة، فإنّها لن تكون كافية لسد احتياجات ملايين السوريين الذين يقبعون تحت خط الفقر، ويعاني أكثر من 90% من السكان من انعدام الأمن الغذائيّ.
بعد نحو شهرين من سقوط النظام وتصريحات “حكومة تصريف الأعمال”، لم تُترجم الوعود إلى أفعالٍ فيما يتصل بزيادة رواتب عاملي القطاع العام، والتي باتت ضرورة مُلحّة بعد رفع الدعمِ الحكوميّ عن بعض المواد الأساسيّة مثل الخبز والغاز والمشتقات النفطيّة، ما شكّل عبئاً إضافيّاً على فئةٍ كبيرةٍ من السوريين من ذوي الدخلِ المحدودِ.
تسريح ثلث العاملين
قال وزير المالية محمد أبازيد: إنّ هناك أسماء وهميّة لأشخاص يتقاضون رواتبهم من المنزل دون أن يسجلوا دواماً فعليّاً في مديرياتهم نتيجة “اتباع النظام السابق سياسة الواسطات والمحسوبيات”، وأوضح في تصريحات لوكالة “رويترز” نهاية الشهر الماضي أنّ هناك 400 ألف اسم “شبح” في سجلات العاملين بالدولة، وإزالتهم من شأنها أن توفر مواردَ كبيرةً للدولةِ. مؤكداً أنَّ حجمَ الفساد كان أكبر مما توقعته “الحكومة الجديدة”، وأوضح أبازيد أنّ 900 ألف فقط من أصل 1.3 مليون عامل يتقاضون رواتب من الحكومة يأتون إلى العملِ بالفعلِ والسؤال هل عدد الأشباح الذين يتقاضون رواتب دون التزام بالعمل حقيقيّ، المسألة تحتاج إلى كثيرٍ من الشفافيّة، وبدونها يبقى التسريح تعسفيّاً.
تقول إدارة هيئة تحرير الشام إنّها تعمل على إجراء إصلاحاتٍ جذريّةٍ لاقتصادِ البلاد المُنهك، وتشمل خططاً لتسريح ثلثِ عاملي القطاع العام، وخصخصة شركات مملوكة للدولة كانت تهيمن على الاقتصاد خلال حكم النظام السابق.
وتمت بالفعل أولى عمليات تسريح للعاملين بعد أسابيع فقط من الإطاحة بالنظام، وتحدث خمسة وزراء في الحكومة الجديدة لوكالة “رويترز”، عن النطاق الواسع للخطط الرامية إلى تقليص عدد عاملي القطاع العام مثل تسريح عدد كبير من “الموظفين الأشباح”، وهم من كانوا يتقاضون رواتب مقابل عمل قليل أو لا يقومون بأيّ عملٍ.
ثمة إشكالٍ قانونيّ يبرزُ في الإجراءاتِ الإداريّةِ الموسّعة المتعلقة بتقليصِ أعداد عاملي القطاع العام فقد تم تطبيقها بطرق عدة في كلّ مؤسسة حكوميّة من خلال إدارتها الجديدة بعد أمر من الوزير المعني بالمؤسسة، فيما يؤكد باحثون اقتصاديّون وأكاديميون أنّه بحسب قانون العاملين في الدولة، فإنّ قرار الفصل يأتي من رئيس مجلس الوزراء (وليس من الوزير المعني) ويكون بناءً على اقتراح لجنة مؤلفة من وزير العدل، ووزير الشؤون الاجتماعيّة والعمل، ورئيس الجهاز المركزي للرقابة الماليّة، باعتبار أنّ القرارات تصدر بموجب القانون.
الإشكالُ يأخذُ بعداً أكثر عمقاً مع وقفِ صرف رواتب عشراتِ آلاف المتقاعدين، وبخاصةٍ في سلك الأمن وقطاع الجيش، وشملت متقاعدين قدامى قبل آذار 2011، وكان ردُّ المصارف الحكوميّة أنّ صرفَ الرواتب يحتاجُ إلى دراسةٍ، الأمر الذي تمَّ تفسيره بأنّه عملية فرز شاملة للمجتمعِ السوريّ وفق نتائجِ الأزمة، ووصولِ طرفٍ سياسيّ معين إلى السلطةِ.
أزمة المحروقات
تستمر أزمة أسطوانات الغاز المنزليّ في مختلف المناطق السوريّة، في ظل الظروف الجويّة الباردة والحاجة الماسة للمحروقات، ويأمل السوريون نهاية قريبة لأزمةِ المحروقات استناداً لوعود “إدارة هيئة تحرير الشام” بتخفيف الأعباء، ومواجهة أزمة النقص الحاد في مادة الغاز، والمشتقات النفطيّة.
في 2/12/2024، وصلت إلى مصب النفط في الشركة السوريّة لنقل النفط بمدينة بانياس، أول ناقلة تحمل على متنها الغاز المنزلي، بعد سقوط النظام السوريّ، وفي 1/2/2025 الإعلان عن وصول ناقلة الغاز الثانية، وتحمل على متنها 4600 طن من الغاز المنزليّ، ورغم ذلك لم يكن هناك أي نتائج ملموسة لتستمر الأزمة. وقال وزير النفط والثروة المعدنيّة غياث دياب، في لقاء أجراه مع شبكة “CNBC عربيّة”، في 12/1/2025: إنَّ استيراد مواد المحروقات سيكون متاحاً لجميع الجهات الدوليّة والشركات والدول، دون حصر استيرادها بالحكومة فقط، موضحاً أنّ حكومة دمشق بدأت بالتعامل مع القطاع الخاص في هذا السياق. وأعلنت وزارة النفط السوريّة، الأحد 27/1/2025، عن مناقصة توريد غاز منزليّ، بمواصفات وشروط محددة، فيما أعلنت في 20/1/20285 عن مناقصات علنيّة لاستجرار النفط ومشتقاته.
انخفض إنتاج النفط في سوريا من نحو 385 ألف برميل يومياً عام 2011، وبعد نشوب الأزمة السورية انخفض إنتاج النفط ليصل إلى نحو 15 ألف برميل يومياً في 2015، بحسب بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكيّة، وفي 2023، بلغ إنتاج سوريا من النفط والسوائل 40 ألف برميل يومياً، وفقاً لتقديرات أوردتها صحيفة الشرق الأوسط، وتوقفت الشركات العالمية العاملة في مجال الاستكشاف والتنقيب عن العمل، كما امتنعت المؤسسات الدوليّة عن تقديم أيّ تمويل.
أما فيما يخص الغاز، فكانت سوريا تنتج 30 مليون م3 يومياً قبل 2011، وانخفض الإنتاج إلى 10 ملايين م3، عام 2023 وهو لا يلبي احتياجات سوريا لتشغيل محطات الكهرباء البالغة 18 مليون م3 يوميّاً.
أزمة كهرباء حادة
تستمر معاناة السوريين اليوميّة جراء انقطاع الكهرباء لمدة ساعات، وبلغت ساعات التقينين أقصى الحدود، بانقطاع لمدة 22 ساعة باليوم في مدينة حلب، وسط وعود حكوميّة بتحسين تغذية التيار الكهربائيّ وتخفيف حدةِ الأزمة التي تفاقمت خلال فترة النظام البائد، ويمثل الحصول على الكهرباء أهم الأولويات لدى السوريين، في ظل تعرّض القطاع إلى دمار وأضرار جسيمة على مدار سنوات الأزمة السورية، ما أدى إلى عجز توفير الاحتياجات الفعليّة للبلاد بما يصل إلى 80%. ويعتمد السوريون في معظم المناطق على الكهرباء من المولدات وفق نظام الأمبير، ويصل معدل الاشتراك الأسبوعي لاستجرار أمبير واحد إلى 50 ألف ليرة سوريّة في مدينة حلب بتغذية لا تتجاوز ست ساعات، فيما تتجاوز 90 ألف وفق نظام التغذية لمدة 12 ساعة باليوم.
قال المدير العام للمؤسسة العامة لنقل وتوزيع الكهرباء المهندس، خالد أبو دي، في تصريح صحفيّ، بتاريخ 7/1/2025، إن سفينتين لتوليد الكهرباء من تركيا وقطر قادمتين إلى سوريا تولّدان 800 ميغاواط وهو ما يعادل نصف ما يتم توليده حالياً في سوريا، الأمر الذي سيزيد حصة المواطن من الكهرباء بنسبة 50% تقريباً. وأكّد أنّ العمل جارٍ حالياً لتأمين خطوط نقل لاستقبال التيار الكهربائيّ من مكان رسو السفينتين، إذ ستُمَدّ خطوط نقل كهرباء من موقع السفن قُبالة سواحل سوريا إلى أقرب محطة تحويل لتُوَصَّل على الشبكة الكهربائية، وبعد شهر من الإعلان عن تحرك سفينتي توليد الكهرباء نحو سوريا، لم يرِد أيّ خبر عن وصولهما، ما طرح السؤال حول المسألة وحقيقة الخبر، لينفي مدير المؤسسة العامة لنقل وتوزيع الكهرباء خالد أبو دي، بنهاية كانون الأول 2024، وجود موعد محدد لوصول سفينتي توليد الكهرباء من قطر وتركيا وتشغيلهما وربطهما بالشبكة، وعدم وجود تأكيد رسمي قطريّ أو تركيّ بشأن ذلك.
وقال وزير الطاقة والموارد الطبيعيّة التركيّ ألب أرسلان بيرقدار، في مقابلة مع قناة “سي إن إن تورك”، في 31/12/2024 إنّ تركيا بلاده توفر لسوريا نحو 210 ميغاواط من الكهرباء يومياً من خلال 7 نقاط مختلفة، وأضاف، أنّ تركيا تخطط لزيادة إمدادات الكهرباء إلى سوريا بنحو 500 ميغاواط خلال الأشهر الـ6 المقبلة إلى محافظة حلب.
أعلن وزير الطاقة الأردنيّ الدكتور صالح الخرابشة في 3/1/2025، استعداد بلاده لتوصيل الكهرباء والغاز الطبيعي إلى سوريا، وتقديم كل الدعم الممكن، وأكد جاهزية خط الربط الكهربائي من الجانب الأردني، لتصدير الكهرباء، وأن هناك فرقاً فنية أردنية ستبدأ من اليوم تقييم وضع الشبكة الخاصة بالجانب السوري، وفي حال إكمال ذلك، فإن الأردن سيكون جاهزاً لتصدير 250 ميغاواط يومياً، إلى جانب استعداده لتصدير الغاز عبر خط الغاز العربي.
يقدر الإنتاج الحالي من الكهرباء حالياً 1200ــ1300 ميغا وات، وقبل عام 2011، كان حجم إنتاج الكهرباء في سوريا نحو 6 آلاف ميغاواط، من أصل نحو 9 آلاف ميغاواط تحتاجها، وخلال سنوات الأزمة السوريّة دُمرت 15 من أصل 39 محطة للكهرباء بالكامل، وتضررت 10 محطات جزئيّاً، وتعطل أكثر من نصف البنية التحتية للكهرباء وخطوط النقل في البلاد، وتُقدّر الأضرار التي لحقت بقطاع الكهرباء السوريّ بنحو 40 مليار دولار هي تكاليف مباشرة، و80 مليار دولار من التكاليف غير المباشرة.
يعتمد إنتاج الكهرباء في سوريا بشكلٍ شبه كلّي بنسبة 94% على الطاقة التقليدية (الغاز الطبيعي والمشتقات النفطية)، ومع تراجع إنتاج النفط في سوريا، انخفض إنتاج الكهرباء وكان من المزمع تأهيل محطات توليد الكهرباء في سوريا بالاعتماد على روسيا إيران.
مازال السوريون على ذمةِ الانتظار لتحقيق الوعود المبذولة، فيما السلطاتُ الحالية أمام اختبارٍ حقيقيّ للوفاءِ بتلك الوعود، لتؤكد أنّ الثورة شملت كلَّ نواحي الحياة ولم تكن مجرد تبديلٍ في السلطةِ فقط.