No Result
View All Result
المشاهدات 57
الشدادي/ حسام الدخيل ـ
اعتمد العرب قديماً على مراقبة السماء والنجوم وحركة الرياح وتقلبات الطقس لوضع تقويمٍ زراعي ومناخي دقيق، انطلاقاً من حاجتهم الملحة لتنظيم حياتهم اليومية وزراعتهم، ولم يكن فصل الشتاء مجرد موسم للأمطار، بل فترةٌ زمنية مُقسمة بدقة إلى مراحل، لكل منها اسمٌ ورمزٌ وحكاية، وتُعد أربعينية الشتاء (المربعانية) وخمسينيته أشهر هذه التقسيمات، حيث ارتبطت بتوقيتات الزراعة ورعي المواشي وتخزين المؤن، فضلاً عن حكاياتٍ شعبية تشرح أسماء أيامها، مثل “سعد الذابح” و”سعد بلع”. فما قصة هذه التقسيمات؟ وكيف فسر العرب أسباب تسمياتها؟
أربعينية الشتاء.. 40 يوماً من الصقيع والأساطير
تبدأ المربعانية فلكياً في 22 كانون الأول (الانقلاب الشتوي)، وتنتهي في 31 كانون الثاني، وتُعرف بأنها أقسى فترات السنة برودةً، خصوصاً في المناطق الصحراوية. وقسمها العرب قديماً إلى مرحلتين رئيسيتين:
1ـ الليالي البيضاء: ذروة البرد والعواصف، وتشمل أول 20 يوماً من المربعانية (25 كانون الأول ـ 13 كانون الثاني)، وتنقسم إلى قسمين:
– الكوالح (25 كانون الأول ـ الثالث من كانون الثاني)، ويُشتق الاسم من “الكَلْح” أي شدة البرد، حيث تهب رياحٌ شمالية جافة، وتزداد العواصف الرملية.
– الطوالح (من الرابع حتى13كانون الثاني)، وتبدأ الأمطار الغزيرة، وتُسمى “طوالح” لأن الماء “يطْلُح” (يُظهر) النباتات المختبئة تحت الأرض.
2ـ الليالي السوداء: استعدادٌ لانحسار البرد، وتمتد من 14 كانون الثاني حتى الثاني من شباط، وتنقسم إلى:
– الموالح (14–23كانون الثاني)، نسبة إلى “المُلْح”، أي ملوحة الأرض بسبب قلة الأمطار، حيث تبدأ التربة بفقدان خصوبتها مؤقتاً.
– الصوالح (24 كانون الثاني حتى الثاني من شباط)، وتعود التسمية إلى “الصَّلاح”، أي تحسن الأحوال تدريجياً مع زيادة فرص هطول الأمطار.
وحسب حكاية شعبية، يروى أن العرب كانوا يخشون “الليالي البيضاء” لشدة بردها، فكانوا يقولون: “إذا طلعت الكوالح، فالزم الدفا والحوائج”، بينما ارتبطت الليالي السوداء ببدء الاستعداد لزراعة المحاصيل التي تتحمل البرد مثل الشعير.
خمسينية الشتاء.. رحلة من الذبح إلى الانبعاث
وبعد انتهاء الأربعينية، تدخل “الخمسينية” (50 يوماً من 31 كانون الثاني إلى 21 آذار)، والتي قُسِّمت إلى أربع فترات تُعرف بـ “السعودات”، نسبة إلى نجمة “سعد السعود” في الفلك العربي، والتي تظهر في هذه الفترة، ولكل “سعد” حكاية تبرر اسمه:
أـ سعد الذابح (31 كانون الثاني–12شباط):
– الحكاية: تروي الأسطورة أن راعياً يُدعى “سعد” خرج بغنمه في برد المربعانية رغم تحذيرات والده، فلما اشتدت العاصفة، ذبح ناقته واحتمى بأحشائها الدافئة، فسُميت الفترة باسمه.
– الطقس: ذروة الصقيع، حيث تتجمد المياه، وتقول الأمثال: “سعد ذابح، ما يقطر ماء ولا يابح” (لا يتحرك شيء).
– الزراعة: يُمنع الزراعة في هذه الفترة، وتُخصص لتجهيز الأراضي.
ب ـ سعد بلع (12–24شباط):
– التسمية: لأن الأرض “تبتلع” مياه الأمطار بسرعة بعد عطش المربعانية.
– الطقس: تزداد الأمطار، وتنمو الأعشاب البرية.
– المثل الشعبي: “بسعد بلع، بتشرب النخلة وشجر الرمّان ربع”، إشارة إلى بدء امتصاص الأشجار للماء.
ج. سعد السعود (25شباط ـ الثامن من آذار):
– التسمية: نسبة إلى نجمة “سعد السعود” التي تظهر في السماء، وتُعتبر علامة على الحظ السعيد.
– الطقس: تبدأ درجات الحرارة بالارتفاع تدريجياً، وتُزرع المحاصيل الصيفية مثل البطيخ.
– المثل: “سعد السعود، يدوب الصّيف ويروح”.
د. سعد الخبايا (التاسع –21آذار)
– الحكاية: تُشير إلى خروج الزواحف (“الخبايا”) من جحورها، وبدء تزهير النباتات.
– الطقس: اعتدال الجو، وبدء موسم جمع الأعشاب الطبية.
– المثل: “إذا طلع سعد الخبايا، كِلْ كلابك ولا تنام”، تحذيراً من انتشار الأفاعي.
فصولٌ مصغرة داخل الشتاء المستقرضات والحسو
ولم تقتصر دقة العرب على تقسيمات الأربعين والخمسين، بل أضافوا فتراتٍ فرعية تعكس تفاصيل المناخ:
المستقرضات (أيام العجوز):
– التوقيت: سبعة أيام بين شباط وآذار (25 شباط ـ الثالث من آذار).
– التسمية: لأن شباط “يستقرض” أياماً من مارس ليكتمل البرد.
– الحكاية: يُقال إن امرأة عجوز سخرت من تقلبات الجو، فقرر شباط أن يُعاقبها بإطالة البرد.
– المثل: “المستقرضات، يقطع اليد يلي ما تتغطى”.
-
الأيام الحسوم (11–18 آذار):
– التسمية: من “الحَسْم” أي القطع، لأن الرياح الشديدة “تحسم” (تقتلع) الأشجار.
– الطقس: عواصف ترابية وارتفاع مفاجئ في الحرارة أحياناً.
ج. سقوط الجمرات:
وتشمل ثلاث مراحل:
– جمرة الهواء (20 شباط): بدء دفء الهواء.
– جمرة الماء (27 شباط): ارتفاع حرارة المياه الجوفية.
– جمرة التراب (السادس من آذار): دفء التربة، إيذاناً ببدء الزراعة.
-
4. حكمة التقسيمات علم الفلك وواقع الزراعة:
لم تكن هذه التقسيمات مجرد خرافات، بل نتاج قرون من المراقبة: النجوم: ارتبطت الفترات بظهور نجوم معينة، مثل “الثريا” و”الجوزاء”.
– الزراعة: حدد العرب مواعيد زراعة القمح والشعير بناءً على “السعودات”.
– الرعي: في “سعد الذابح” يُمنع الرعي لشدة البرد، بينما يُسمح به في “سعد السعود”.
تراثٌ مناخي يستحق الحفظ
ورغم تطور الأرصاد الجوية، لا تزال هذه التقسيمات جزءاً من الذاكرة الجمعية في البوادي العربية، حيث تُستخدم لتوقع الأحوال المناخية، وهي ليست مجرد تقويم، بل رمزٌ لعبقرية الإنسان القديم في تحويل تحديات الطبيعة إلى نظامٍ للحياة. ولعل إحياء هذه المعرفة اليوم يساهم في فهم أفضل للتكيف مع التغيرات المناخية، مستفيدين من حكمة الأجداد الذين حوّلوا صقيع الشتاء إلى قصصٍ تروى.
No Result
View All Result