حمزة حرب
مهما كان مدى اتساع اللامركزية ومصطلحها وتطبيقاتها وصياغتها، إلا أنّ مؤسسات المركز تبقى هي المرتكز في إنفاذ وصياغة أية عمليات لامركزية، وهناك كثير من التجارب التي توضح أنّ قوّة الدولة المركزية واحترام القانون وتنفيذه، هي المفتاح الأساسي للذهاب إلى لا مركزية ناجحة تحقق بناءً لهوية وطنية وديمقراطية مستمرة.
التنظيم الإداري بات من الضرورة بمكان بحيث لا يمكن الاستغناء عنه في الدولة الحديثة، من أجل أن تنهض بمهامها ووظائفها بشكل تستطيع معه تحقيق الأهداف والبرامج والخطط المعتمدة؛ ولا يتحقق ذلك إلا من خلال تنظيم الجهاز الإداري للدولة بشكل يسمح بتعدد شخوصها الإدارية، وهيكلتها، لبيان مهامها واختصاصاتها على وجه التحديد، وكيفية ممارسة هذه الاختصاصات.
سورية المركزية
على مر التاريخ لم تكن المركزية السياسية والإدارية لكل البلدان حاملاً أميناً أو ناجحاً للمشروع الوطني وهذا كان مبيناً في دول أوروبا من ألمانيا النازية إلى إيطاليا الموسولينية وغيرها فهذه الحكومات الشمولية الإقصائية المركزية المتصلبة لم تجلب لبلدانها إلا الويلات والحروب القائمة على العقيدة أو العرق أو الدين وهذه التجارب كمثلها من التجارب المركزية الفاشلة التي قادت إلى تدمير الدول التي تبنتها أيضا ومنها سوريا.
بدأت المركزية في هذه التجارب برفع شعارات وطنية عامة شاملة، وأخذت تُمارس الشمولية السياسية والأيديولوجية مع قمع الهويات الثقافية والاجتماعية والسياسية الصغرى بدلاً من الاعتراف بها وتنميتها وتطوير مضامينها بروح المشروع الوطني، حتى انتهى بها المطاف عندما فشلت اقتصاديا وسياسياً إلى الاستعانة بمكونات ما قبل الدولة المناطقية والطائفية وإعادة بعث وتعبئة تلك الهويات المقموعة لدعم مشروعها المركزي القمعي.
والمركزية في الأحوال كلها ليست المركز الجغرافي الذي تتمرس فيه مركزية الحكم وتحكم منه، فهذا المركز غالباً ما يتعرض هو نفسه لكل مساوئ المركزية الحاكمة حيث يجبر على خوض صراعاتها ومعاركها القمعية ضد أجزاء البلاد الأخرى.
وهذا أشبه بما حدث في سوريا حيث يتم توجيه الحاكم على أنه هو المستهدف من أي إصلاحات لنظام الحكم، كما تعمل هذه المركزية في لحظات التحول التاريخي على ممارسة سلوك انقسامي مخادع تعمل بموجبه على تعبئة جزء من المجتمع في مواجهة الجزء الآخر لتبدو المسألة وكأن المركزية الحاكمة بتوجهاتها المناطقية والطائفية قد توحدت مع هذا المركز بكتلته البشرية المتنوعة وهو ما يجب أن يفهم بعناية في مجرى الصراع ضد هذه المركزية المقيتة.
فاعتمدت المركزية التي حكمت سوريا سنواتٍ طويلة على أن تكون أنشطة الدولة وسلطة اتخاذ القرارات بها متركزة في يد السلطة المركزية، سواء كان فرداً أو هيئة تنفيذية وعليه يمكن تعريف المركزية الإدارية بأنها: “حصر مختلف مظاهر الوظيفة الإدارية في الدولة وتركيزها بشكل موحد مع أنشطتها في قبضة الحكومة وتابعيها في العاصمة أو في المحافظات مع خضوعهم جميعا للرقابة الرئاسية التي تمارسها السلطة المركزية”. وقد تتضح المركزية في عدة جوانب منها الجانب الاقتصادي أو القانوني أوفي الجانب الإداري، ويتبين لنا مما سبق أن مفهوم المركزية الإدارية يشتمل على عدة عناصر مكونة له.
كما كرست مفهوم التبعية وهذا المفهوم يعبر عن سلطة استعمال قوة الأمر والنهي، من أعلى طرف الرئيس الإداري المباشر والمختص وواجب الطاعة والخضوع، والتبعية من طرف المرؤوس المباشر للرئيس الإداري المباشر إذ يجب على المرؤوسين في الوحدات الإدارية الأدنى من السلم الإداري التقيد بالتعليمات والتوجيهات الصادرة من الرؤساء الذين يشغلون المراتب العليا بترتيب السلم الإداري وإلا تعدُّ تصرفاتهم تفتقر إلى المشروعية وتصبح عرضة للإلغاء أو السحب والتعديل وبالتالي المساءلة وهو بحد ذاته ما لا يتماشى مع قيم ومبادئ الديمقراطية القائلة بضرورة إدارة الجماعات المحلية شأنهم العام عن طريق مجالس منتخبة من بينهم. وهذا ما عمل عليه النظام السابق والذي أسفر في نهاية المطاف إلى سحق روح المثابرة والإبداع لدى القائمين المحليين على تسيير أعمال الوحدات الإدارية في مناطقهم، ذلك أن مهمتهم تتركز في تلقي التعليمات الصادرة من السلطة المركزية، بدون أي مشاركة منهم في صنع القرار، بالإضافة إلى بُعدِ متخذ القرار عن الأماكن المراد تطبيق القرار فيها، لذلك غالبا ما تأتي القرارات غير منسجمة مع طبيعة المشكلات المطروحة.
محاولات إعادة تعويم الحكم الشمولي في سوريا
بعد أن فشلت الأنظمة الدولية والإقليمية في إعادة إحياء النظام السابق ورئيسه بشار الأسد إلى الحياة حيث عملت روسيا وإيران إلى جانب دولة الاحتلال التركي التي استماتة للقاء أردوغان ببشار بالإضافة إلى بعض الأنظمة العربية من خلال دعمه بما يحقق لها المزيد من النفوذ بالملف السوري الذي يتدخل به الجميع، وبما ينعكس على سياستها الخارجية بالملفات الأخرى بالمنطقة.
ورغم الحرب الشعواء التي قادها النظام على شعبه تسببت بمقتل مئات آلاف الأشخاص، وأرقام هائلة من الجرحى والمعتقلين والنازحين والمشردين والجوعى، وخراب البلد، وانهيار الاقتصاد، وتحويل السوريين إلى لاجئين على أبواب الأمم المتحدة وعطايا الدول، إلا أن هذه العوامل لم تثنِ هذه الأنظمة إلى اتباع مصالحها الضيقة في محاولات إعادة الأسد إلى حضن المجتمعين الإقليمي والعربي وفي الآونة الأخيرة كان العمل جارياً لتعويمه دولياً.
ولو قدر لهذا أن يتحقق لكنا أمام حكمٍ شموليٍ متجدد لسنواتٍ طويلة ومع ذلك نجح السوريون من خلال تمسكهم بضرورة الحل السوري – السوري وبالاحتجاجات السلمية وأخرى عسكرية في إنهاك النظام المنهك أصلاً نتاج الضغوط الاقتصادية من جانب وفقدانه الشرعية حتى داخل حاضنته الاجتماعية من جانب آخر لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير تلك العملية العسكرية التي أطلقتها هيئة تحرير الشام المدرجة على قوائم الإرهاب العالمية.
لكن يرى خبراء أن هذه الحركات ومع وصولها إلى السلطة لم تتمكن بعد من تحقيق تطلعات السوريين بالانتقال من عقلية المجموعات المسلحة إلى عقلية الدولة الجامعة التي تضم السوريين وعلى الرغم من أن المدة الزمنية التي وضعتها هيئة تحرير الشام لنفسها هي قصيرة نسبياً قدرت بثلاثة أشهر لكنها لم تخطُ خطوة واحدة إلى الأمام باتجاه الحل السوري – السوري وهذا ما يؤخذ عليها في تشكيلتها الحكومية ذات اللون الواحد والطابع الواحد وحجم الذهنية الشمولية التي تحكم بها.
وهذا أيضاً ما كشفت عنه شخصيات سورية معارضة عن وجود تخبط لدى هيئة تحرير الشام بقيادة الجولاني في التعاطي مع المرحلة الدقيقة التي تعيشها سوريا خلال هذه الفترة، سواء الإعلان عن تأجيل المؤتمر الوطني إلى أجل غير مسمى أو تعيين الشخصيات المقربة من أبو محمد الجولاني في هيئة تحرير الشام بمناصب سيادية وتنفيذية في البلاد ومعظمهم يحملون جنسيات أجنبية.
ورأت هذه الشخصيات إلى إنه من الضروري بمكان وكان الأجدى بهيئة تحرير الشام كي تحظى بقبول السوريين أن تعمل على تفعيل بنود القرار الأممي 2254 القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقالي والذهاب إلى مؤتمر وطني جامع بمشاركة السوريين في أقرب وقت ممكن، ما يفضي إلى تكليف لجنة صياغة مسودة دستور تضم ممثلين عن أطياف الشعب السوري، مهمتها كتابة دستور يضمن حقوق الطوائف والإثنيات في سوريا والاستفتاء الشعبي عليه في أقرب وقت ممكن، ما يمهد الطريق أمام الحياة السياسية التعددية الحرة التي تلبي تطلعات السوريين بإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشرافٍ أممي.
فالشعب السوري اليوم بعد أن انتهت نشوة الفرح بإسقاط نظام الحكم والاستبداد وإنهاء حقبة النظام الشمولي يرفض أي محاولات لفرض أي فصيل لرؤيته للحل من دون توافق بين القوى الوطنية السورية، ويشدد على أهمية تشكيل حكومة انتقالية تكون ولايتها من 18 شهراً إلى 24 شهراً على أن تتولى المسئولية مع مطلع آذار المقبل، مؤكدين رفضهم مبدأ تمكين مجموعة أو جهة واحدة لمفاصل الدولة السورية بعد سقوط نظام الأسد وأن تحكم بالآليات التي حكم بها الأسد.
سوريا الحديثة ومطالب اللامركزية
فبينما يرى قطاع عريض من السوريين في اللامركزية الحل الوحيد لتحقيق طموحاتهم، وهو ما يسعون إليه في تقرير شكل الدولة المستقبلية، حيث الدولة المركزية تتهالك، وقد فقدت سيطرتها على الكثير من أرجائها لذلك باتت الدعوة جادة إلى خطة بعيدة المدى للامركزية الإدارية أو السياسية أو أي شكل ممكن أن يتوافق عليه السوريون فيما بينهم.
لذا يرى مراقبون أنه ينبغي تصميم الوسائل المؤسساتية لتعزيز تلك المبادئ والاتفاق عليها وينبغي معاملة تطلعات الشعوب السورية باعتبارها تطلعات مشروعة، لأنهم يرون أن خيار اللا مركزية خياراً مناسباً للحالة السورية، ولكن سيتعين على السوريين أن يخوضوا مفاوضات مبنية على اعتبارات ومصالح عملية، وليس فقط على أسس التطلعات القائمة على أساس الهوية القومية إنما على أسس التعايش المشترك.
بينما تبقى مصطلح اللامركزية هي نقطة تباينت حولها آراء فقهاء الإدارة في تحديد تعريف جامع للامركزية الإدارية، وأداتها الإدارة المحلية ولكن يمكن القول بتحققها باعتبار إنه ثمة مصالح محلية ينبغي ترك مباشرتها والإشراف عليها لمن يهمه الأمر منها، حتى تتفرغ السلطة المركزية لمصالح أخرى ذات طابع عام تهم الدولة ككل.
فمثلا إذا كانت الدولة تهيمن على المرافق ذات الأهمية الكبرى كمرافق الأمن والدفاع والقضاء والمواصلات في التراب الوطني فإن المرافق المحلية كالنقل الداخلي وتوزيع المياه والكهرباء، وكل الشؤون البلدية الخدماتية يفترض تركها لمن يستفيدون منها مباشرة، فهم أدرى باحتياجهم إليها وأقدر على تسييرها فضلا، عما في ذلك من تخفيف عبء إدارتها عن كاهل السلطة المركزية.
تسعى اللامركزية الإدارية ومن خلال أداتها الإدارة المحلية، إلى إسناد المصالح المحلية إلى من يهمهم الأمر، وذلك لإشباع احتياجاتهم المحلية بأنفسهم، ولما كان من المستحيل على أبناء المجتمع المحلي أن يقوموا بهذه المهمة بأنفسهم مباشرة، فإن المُشَرِّعَ قد جعل تولية هذه المصالح إلى من ينتخبونه نيابة عنهم، ومن ثم كان الانتخاب هو الطريقة الأساسية التي يتم عن طريقها تكوين المجالس المعبرة عن إرادة الشخص المعنوي العام في المحافظة.
إن استقلال المجالس المحلية ليس منحة من الحكومة المركزية، وإنما هو مقرر من المُشَرِّع ويخضع لمقتضيات القانون، ولا يراد بذلك الاستقلال الفصل المطلق بين المصالح المحلية والسلطة المركزية. كما لا يراد بذلك الاستقلال جعل كل جماعة محلية في معزل عن الأخرى، وإنما ثمة صلة تربط تلك المجالس أو الوحدات الإدارية مع بعضها في إطار مبدأ التعاون والتكامل والتعايش، لأنها تؤلف في الواقع جزءا من جماعة أوسع نطاقا، وهي المجتمع الوطني∙
ونخلص مما تقدم أن للامركزية الإدارية جانبين، جانب سياسي وجانب قانوني، فالجانب القانوني يتمثل في توزيع الوظيفة الإدارية للدولة بين السلطة المركزية والمحليات، أما الجانب السياسي فيتمثل فيما تقوم عليه اللامركزية الإدارية من توسيع لمفهوم الديمقراطية، فتنتقل سلطة التقرير النهائي من الدولة إلى هيئات محلية منتخبة من طرف الشعب لتحمل مسؤوليتها في الإدارة. وهكذا فإن تطبيق اللامركزية يحقق مزايا جيدة حال توفر ظروف تطبيقها، هي لن تخلق أي عوامل تؤثر سلباً على وحدة البلاد وتماسكها لأنها أداة رئيسية لإدارة الدولة الحديثة وتحقيق أهدافها بأسلوب حضاري وديمقراطي.
وإن اللامركزية الإدارية يمكن أن تكون مؤثرة وفاعلة وملبية أكثر لاحتياجات الجهويات المحلية إذا ما توسع نطاق صلاحياتها أولا لتأخذ مسمى جديدًا “اللامركزية الإدارية الموسعة”، وذلك عن طريق إعطاء المرؤوسين سلطات واسعة، بينما في الوقت نفسه تفرض الرقابة من الحكومة المركزية على أنشطة معينة، تساعد على تأكيد نظام قابل للتطبيق وأكثر استجابة لتحقيق تطلعات السوريين.