د. محمد العرب
بعد أكثر من عقدٍ من الصراع، تقف سوريا اليوم على مفترق طرق بين أملٍ في استعادة الحياة او استمرار دوامة المعاناة، انتهت حقبة من الحرب الدموية مع أكثر حزب إجرامي دموي في التاريخ، لكن لا يزال المستقبل ضبابياً، تتجاذبه مصالح القوى الكبرى وتحكمه توازنات الداخل الممزق بين الولاءات والتطلعات المتباينة، فهل تتجه سوريا نحو التعافي والاستقرار، أم إن البلاد ستظل عالقة في مستنقع النفوذ الأجنبي والصراعات المستترة؟ وما هو موقع الكرد في المعادلة السوريّة، في ظل المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية؟ مع كل المحاولات الدبلوماسية لإرساء حلٍّ سياسي، يظل الواقع السوري أعقد مما يبدو، فالنظام الجديد يواجه أزمات اقتصادية خانقة، وعزلة دوليّة جزئية، وغياب رؤية واضحة لإعادة الإعمار والتزامات كثيرة وجبال من الديون.
على الضفة الأخرى تظل مناطق الشمال السوري تحت نفوذ قوى إقليمية ودوليّة، ما يجعل من فكرة الدولة الموحدة أمراً صعب التحقق في المدى القريب، فسيناريوهات المستقبل تتأرجح بين احتمالات متباينة.
السيناريو الأكثر تفاؤلاً يتطلب توافقاً سياسياً داخلياً ودعماً إقليمياً ودولياً، مع انفتاح الإدارة الجديدة على حلول وسطية تُشرك جميع الأطراف في رسم ملامح المرحلة المقبلة. في هذا المسار، يمكن أن تبدأ إعادة الإعمار، ويعود جزء من اللاجئين تدريجياً، وتنطلق عجلة الاقتصاد، لكن هذا السيناريو يصطدم بواقع إن القوى المسيطرة على المشهد لم تُظهر بعد استعداداً حقيقياً لتقديم تنازلات جوهرية، أما السيناريو الآخر، فهو استمرار الوضع الحالي: دولة ضعيفة بمؤسسات متهالكة، تعتمد على الحلفاء لضمان بقائها، مع استمرار العقوبات الغربية، وتراجع الخدمات الأساسية، وغياب أي حلٍّ جذري يضع حداً للانقسام السياسي في هذا السيناريو، ستظل سوريا مسرحاً للتجاذبات بين الدول الإقليمية والدولية، فيما يعاني المواطن السوري من تدهور مستوى المعيشة، دون بارقة أمل حقيقية في التغيير.
الخيار الأسوأ يكمن في تفاقم الانقسامات الداخلية وتصاعد التوترات بين القوى المسيطرة على الشمال والجنوب والمدن الكبرى، مما قد يقود إلى مواجهة جديدة أو إعادة إنتاج للصراع بصيغة أخرى، كحروب الوكالة أو انفجارات أمنية متكررة تغذيها الظروف الاقتصادية والسياسية المتدهورة وغياب الأمن، وهذا السيناريو قد يفتح الباب أمام مزيد من التدخّلات الخارجية، خصوصاً مع استمرار المنافسة بين روسيا وإيران من جهة، وتركيا وأمريكا من جهة أخرى، على النفوذ داخل سوريا ناهيك عن آراء التيارات المختلفة المتباينة في لبنان والعراق والآمال الأردنية بالتعافي وإغلاق مخيمات السوريين إلى الأبد.
أما القضية الكُرديّة، فهي تظل واحدة من أكثر الملفات تعقيداً في المشهد السوري، فالكرد الذين يشكلون جزءاً رئيسياً من النسيج الاجتماعي السوري، وجدوا أنفسهم في معادلة حساسة بين مطالب الحكم الذاتي، ورفض دمشق أو مماطلتها، وضغوط أنقرة، منذ اندلاع الصراع، حاول الكرد خلق واقع سياسي جديد عبر الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، لكن هذا المشروع لا يزال محاطاً بتحديات كبيرة.
مستقبل الكُرد في سوريا يعتمد على قدرتهم على تحقيق توازن بين البقاء ضمن وحدة الدولة السوريّة وضمان حقوقهم السياسية والإدارية. أي محاولة لفرض تسوية بالقوة قد تشعل توترات جديدة، في حين إن الحوار الجاد بين الأطراف قد يقود إلى حلٍّ أكثر استدامة، ومع ذلك، فإن المصالح الدولية المتشابكة تجعل من هذا السيناريو معقداً، حيث تلعب الولايات المتحدة دوراً في دعم قوات سوريا الديمقراطية، بينما تُصِرُّ تركيا على محاربتها تحت ذريعة محاربة الإرهاب.
على المدى القريب، قد يستمر الكرد في إدارة مناطقهم بحكم الأمر الواقع، لكن التحديات ستزداد مع تصاعد الضغوط من دمشق وأنقرة، فضلاً عن احتمالية تغير الموقف الأمريكي في أي لحظة، ما قد يترك الإدارة الذاتية في موقفٍ صعب.
حتى في أفضل السيناريوهات، هناك تحديات كبرى تهدد استقرار سوريا أبرزها الأزمة الاقتصادية المتفاقمة: العقوبات، تدمير البنية التحتية، وغياب الاستثمارات مما يُعيق أي محاولة حقيقية للنهوض بالاقتصاد، وهناك ملف إعادة الإعمار حيث تحتاج سوريا إلى مئات المليارات لإعادة الإعمار، لكن غياب التوافق السياسي والضمانات القانونية يمنع تدفق الاستثمارات الدولية، كما أن ملف اللاجئين وعودة ملايين اللاجئين تتطلب بيئة مستقرة ومؤهّلة، وهو أمر بعيد المنال حالياً، ما يُصعب الأمور التدخلات الخارجية والنفوذ الروسي والإيراني والتركي والأمريكي يجعل من سوريا ساحة صراع مستمر، حيث يتم التعامل معها كورقة ضغط في ملفات إقليمية ودولية، وكذلك غياب المشروع الوطني الشامل حتى اللحظة حيث لا يوجد توافق على نموذج سياسي جديد يُعيد بناء الدولة السوريّة بشكلٍ مستدام، مع ضمان مشاركة جميع المكونات.
شخصياً أعتقد أن التحدي الأكبر أمام السوريين هو تجاوز مرحلة الاستقطاب الداخلي، والبحث عن حلول لا تستند إلى منطق الغالب والمغلوب، بل إلى رؤية تُعيد بناء الثقة بين مختلف المكونات. سوريا بحاجةٍ إلى مشروع وطني جديد يُعيد تعريف الدولة بعيداً عن إرث الصراع وجرائم البعث المقبور، ويؤسس لاستقرار مُستدام لا يقوم فقط على القوة العسكرية، بل على اقتصاد متين ومصالحة حقيقية.
الكُرد أيضاً أمام لحظة تاريخية، فإما أن يكونوا جزءاً من تسوية وطنية تحفظ حقوقهم، أو أن يجدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع الدولة السوريّة وتركيا، ما قد يجعلهم في موقف دفاعي صعب.
في النهاية، يبقى مستقبل سوريا مرهوناً بقدرتها على تحقيق توازن سياسي داخلي، واستعادة السيادة الوطنية بعيداً عن النفوذ الأجنبي، وتأمين اقتصاد مُستدام يوفر لسكانها الحياة الكريمة، حتى ذلك الحين، ستبقى سوريا في مرحلة انتقالية طويلة، قد تحمل فرصاً، لكنها بالتأكيد لن تكون خالية من التحديات والمخاطر.
والسؤال الجوهري يظل: هل القوى المؤثرة، داخلياً وخارجياً، لديها الإرادة الكافية لتحقيق ذلك؟ أم أن سوريا ستبقى في دائرة الحسابات الجيوسياسية، رهينة لمعادلات تتغير ببطء، دون أن تغيّر من واقع الناس شيئاً؟ في النهاية، وحده الزمن كفيل بالإجابة.