بدرخان نوري
تؤكدُ كلِّ التصريحات عن مسؤولي إدارة هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطيّة إنَّ أقنية الحوار بينهما مفتوحة، وإن نتائج اللقاء بينهما كانت إيجابيّة، وأنّ لجان مشتركة ستواصل التنسيق، وهناك اتفاقٌ أساسيّ على وحدة سوريا، إلا أنّ الاحتلال التركيّ يعمل على عرقلة التواصل عبر العدوان المستمر، وتفخيخ مسار الحوار السوريّ عبر إعلامه وأذرعه العسكريّة والإعلاميّة وإيقاد الفتنة.
تلاعب بالترجمة
نقلت وسائل إعلام سوريّة وعربيّة بينها الجزيرة، نص المقابلة التي أجرتها قناة a Haber التركيّة مع قائد إدارة هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، الخميس 23/1/2025، والتي تلاعبت القناة التركيّة في ترجمتها من العربيّة وأوردت مصطلحات وتوصيفات لم يذكرها الشرع.
وجرت ترجمة المقابلة بصورة فوريّة للتركية، وفيما كان واضحاً حرص الشرع على ذكر اسم “قوات سوريا الديمقراطيّة” تعمّد مذيعا القناة التركيّة استخدام اختصار (YPG-PKK) لتوصيف قوات سوريا الديمقراطيّة، واستخدم المترجم الفوريّ اختصار (YPG-PKK)، واختزلت القناة التركيّة في الملخص أجوبة أحمد الشرع، بصورةٍ أساءت للمعنى المراد، وتجاهلت اسم قوات سوريا الديمقراطيّة التي تحظى بتقدير العالم وتعمل ضمن تحالفٍ دوليّ لمكافحة الإرهاب.
وأشار الشرع إلى احتماليّة محدودة ومشروطة، لطلب المساعدة من تركيا، فيما يتعلق بإدارة السجون والمخيمات التي يقطن فيها مرتزقة “داعش” وعوائلهم في شمال وشرق سوريا، وحصر استقدام بعض الخبرات من تركيا، إن دعت الحاجة وتسلمت دمشق إدارة السجون والمخيمات، ولكن جاء في الترجمة على لسان الشرع: “يمكننا أن نطلب الدعم من تركيا في الحرب ضد داعش”، وبذلك قُلبت الاحتماليّة المحدودة إلى إمكانيّة مفتوحة!
ونظراً لحساسيّة اللقاء في ظرفيته ومضمونه فإنّ ما حدث يتجاوز حدودَ خرقِ المهنيّةِ الإعلاميّة ليكون تضليلاً إعلاميّاً مقصوداً يوافق الأجندة السياسيّة التركيّة، ومع آليةِ الترجمة الفوريّة غطت اللغة التركيّة اللقاء، واعتُمد ما نشرته وسائل الإعلام التركيّة.
تتصفُ كلُّ التصريحات التي أدلى بها أحمد الشرع بالحذرِ، وفي المقابلة لم يستخدم إطلاقاً توصيفي “مكافحة الإرهاب” و“المليشيات الانفصالية” في المقابلة، إلا أنّ وسائل الإعلام نقلت صيغة مغايرة بينها ادعاء إنّ الشرع قال: “سوريا مستعدة للتعاون مع تركيا في مكافحة الإرهاب بمناطق المليشيات الانفصالية.
وفيما تجنب الشرع ذكر اسم حزب العمال نقلت وسائل إعلام عربيّة، ادعاءً بأنّه قال: “تنظيما حزب العمال الكردستانيّ ووحدات حماية الشعب لم يستجيبا لدعوات تسليم السلاح”، والحقيقة أنّه قال: “جميع الأطراف التي شاركت في الثورة السوريّة انضمت إلى وزارة الدفاع، وبقي موضوع قسد في شمال وشرق سوريا، ونحن اخترنا التفاوض والحوار بيننا وبينهم تجنباً لسفك الدماء وقلنا إنّ هناك قواعد أساسيّة للتواصل مع قسد للوصول إلى حلٍّ بين الدولة السوريّة وقسد، وأشار الشرع إلى أنّ المجتمع الكردي كالمجتمع العربيّ تعرّض إلى ظلم في ظل النظام السابق،(…) وسيكون له حق المواطنة، وقلت لهم بالحرف حقهم كحقي في البلد، ثم ذكرنا لهم أنّ أيّ عملية تهجير حصلت على أي أحد في سوريا بما فيها بعض الكُرد الذين نزحوا من أراضيهم خلال الأربع عشرة سنة الماضية، هؤلاء سيعودون آمنين سالمين دون قيد أو شرط، حتى لو لم نتفق على أي بند من البنود التي بين الدولة وبين قسد.
مطلب أنّ يكون السلاح بيد الدولة، وعدم السماح إطلاقاً بوجوده خارج سلطتها، يتوافق مع موقف قسد، والتي أبدت موافقتها بالانضمام للجيش السوريّ القادم، وبذلك يكون سلاحها بتصرف الدولة السوريّة الواحدة.
وكان القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي قد صرّح الأحد 19/1/2025، بأنّ نتائج الاجتماعات التي تجريها إدارة هيئة تحرير الشام مع الفصائل لا تعني قواته، وأشار عبدي إلى أن “قسد” لم تكن جزءاً من الاجتماع مع الفصائل، ولم تتم دعوتها للاجتماعات التي يجريها رئيس أحمد الشرع ووزير الدفاع السوريّ مرهف أبو قصرة مع قادة الفصائل لدمجها في جيشٍ سوريّ موحّد.
وأضاف عبدي، في لقاء تلفزيونيّ مع قناة “العربية”، “قسد” تريد أن تكون جزءاً من جيش سوريا في المستقبل لكن ضمن كتلة عسكريّة، منوهاً إلى رفضِ فكرةِ وجود جيشين في سوريا.
تنسيقٌ وليس مواجهات
روّجت العديد من مواقع التواصل وأقنية التلغرام خبر اشتباكات وقعت الخميس بين قوات إدارة العمليات العسكريّة ومقاتلي قسد قرب آبار النفط جنوب مدينة الطبقة أفضت إلى سيطرة إدارة العمليات العسكريّة على عددٍ من آبار النفط.
ولكن بيان المركز الإعلاميّ لقوّات سوريا الديمقراطيّة الخميس نفى الخبر وأكد أنّه لا صحة لوقوع اشتباكات أو توتر بين الطرفين في حقل الزملة في بادية الرصافة كما روّجت لها منصات تُدار من تركيا، وأضافت أنّ قنوات التواصل الميدانيّة مع دمشق مفتوحة بشكلٍ مكثّف والمواقف موحّدة بخصوص تغليب الحوار وتطوير الحلول في أيّ قضية ميدانيّة أو سياسيّة.
وشدد القائد العام للواء الشمال الديمقراطيّ المنضوي في قوات سوريا الديمقراطية، أبو عمر الإدلبي، على التنسيق العالي مع إدارة العمليات العسكريّة في منطقة دير الزور بإشراف التحالف الدوليّ، وقال الإدلبي، في تصريح لنورث برس، الجمعة، “في إطار تعزيز التنسيق بيننا، عقدنا اجتماعاً في منطقة الرصافةً وضمّ هذا الاجتماع قواتنا وقوات التحالف وإدارة العمليات وبعد الاجتماع تمركزت إدارة العمليات العسكريّة في هذه المنطقة”، وأشار إلى أنّ هذا الانتشار في سياق ملء الفراغ الأمنيّ بعد سقوط النظام السوريّ، والذي يستغله “داعش” لشن هجمات على مناطق سيطرة قسد.
وأكد مدير المركز الإعلاميّ لقوات سوريا الديمقراطية، فرهاد شامي، الخميس، أنّهم ماضين في الحوارِ مع الإدارة السوريّة الجديدة وتكثيفه في الفترة المقبلة ليكونوا سنداً قوياً لأحلام وطموحات السوريّين بإعادة بناء سوريا وتخليصها من الأخطار الكثيرة”، وأضاف: “ليس من مصلحة السوريّين أن يكون هناك توتر بين قواتنا وهيئة تحرير الشام”، مشيراً إلى أنّ الإعلام التركي “يحاول خلق توتر مزيف بين قواتنا والهيئة”.
حربٌ وقودها الحقد
يجب ألا نخلط بين المُسميات، “فجر الحرية” كانت عدواناً مستقلاً كليّاً في قراره وأهدافه عن عملية “ردع العدوان”، التي دخلت مدينة حلب، في أقل من يوم، في ظروف معلومة، ولم يبدر من الأهالي أيّ موقف رفض، وكان حجم القوة العسكريّة محدوداً جداً بالنسبة لمدينةٍ بحجمِ حلب، وخلال 11 يوماً فقط دخلت دمشق المدينة التي لها ثقل سياسيّ وعسكريّ استثنائيّ.
“فجر الحرية” كانت عدواناً بقرار تركيّ، وكذلك ولاؤها وتسليحها وتحظى بتغطية ناريّة تركيّة، واستغلتِ الظرفَ الدوليّ والإقليميّ، بعدما اطلعت أنقرة على آخر مستجدات القرار الدوليّ وآخره اجتماع الدوحة الذي عُقِد عشيّة سقوط النظام، وبدأت العدوان في منطقة الشهباء فهجّرت أهالي عفرين للمرة الثانية وأبعدتهم عن عفرين بعدما عاشوا نحو 7 سنوات على مشارفها على أمل العودة إليها.
“فجر الحرية” هي مكافأة تركيّة نتيجة آلاف الانتهاكات التي اُرتكبت في عفرين من حوادث قتل واختطاف وانتزاع الأملاك بالقوة وفرض التتريك وتغيير ديمغرافيّ، وحجم الانتهاكات التي وقعت خلال 24 ساعة من السيطرة على مدينة منبج وحدها مروّع وكبير.
الذاكرة السوريّة ضحلة جداً، وقد نسوا أو تجاهلوا أنّ الآلاف ممن أُدرجت أسماؤهم في لوائح المؤسسات الأمنيّة التابعة للنظام هربوا إلى مناطق الإدارة الذاتيّة، بما فيها حيي الأشرفية والشيخ مقصود في مدينة حلب!
الحرب ضد الكُرد في سوريا، لا مبرر لها، مع وجود أقنية حوار مفتوحة ونتائج إيجابيّة للقاءات، ولكن أنقرة تضغط بقوة لمنع الحوار السوريّ لكسب الوقت على أمل تحقيق إنجاز ميدانيّ ومنع الإدارة الذاتيّة من حضور مؤتمر الحوار الوطنيّ المزمع عقده في شباط القادم بعد التأجيل، أنقرة أرادت عقد صفقة مع النظام على حساب الكرد في سوريا، ثم بقدرة قادر انقلبت وركبت الموجة في أكبر عملية “تكويع”، وما زالت تهدد بمزيد من العمليات العسكريّة ودفن الكرد، وحرب أنقرة ضد الكرد تستمدُّ وقودها من الأحقادِ والدوافع العنصريّة، وفكر قديم ترسّخ على مدى عقود.
اليوم بلغ الضجيجُ الإعلاميّ وخطابُ الكراهية من قبل الموالين لأنقرة ضد الكرد أقصى حدٍّ، لدرجةِ أنّ معظم السوريّين يتجاهلون القصفَ التركيّ اليوميّ لمناطق سوريّة، ولا نجدُ مطالبةً سوريّةً بإنهاءِ الاحتلالِ التركيّ، بل مباركة وتهليلاً بكلّ قذيفة تركيّة تقتلُ كرديّاً، وصمتُ السوريّين اليوم لا يختلفُ عن الظروفِ التي تزامنت مع أحداث عام 2004، عندما استنفرت قواتُ النظام ومؤسساته الأمنيّة واجتاحت عشرات القرى والبلدات الكرديّة، فقتلت واعتقلت الكردَ على الهوية وتم توجيه اتهاماتٍ صوريّة لهم.
بسقوط النظام أصبحت الظروف مهيأة لعودة مئات الآلاف إلى مناطقهم الأصليّة وبخاصةٍ الذين تم ترحيلهم بالقوة إلى عفرين، لكن الفصائل المشتركة في عدوان “فجر الحرية” تمنع عودتهم وتهددهم!
مطلب في غياب الدستور
اليوم ترتفع الأصوات مطالبةً قسد بحلِّ نفسها وتسليم سلاحها والانضمام أفراداً للجيش السوريّ القادم، أي في وقتٍ يقصفُ جيش الاحتلال التركيّ بالطائراتِ والمدفعية وتشنُّ فصائل المرتزقة بأنقرة الهجومَ على قسد، ويُوصف ذلك بأنّه “مطلبٌ وطنيّ”.
المطلبُ الوطنيّ، يُفترض استيفاءَ كامل شروط الشرعيّة، والبلادُ في فراغ دستوريّ بعد سقوط النظام، ومصدر الشرعية الدستور الذي تتطلب صياغته وقتاً، وإن قيل الشرعيّةُ مصدرها الشعبُ، فحتى اليوم لم نتجاوزِ الأزمة، ولم يجتمع ممثلو الشعبِ للتوافق على أيّةِ صيغةٍ، والموجود حالياً هم قوى عسكريّة، والقضية تتعلق بالضمانات، ما هي ضمانات عودة أهالي عفرين وسري كانيه إلى قراهم؟ ما ضمانة صياغة دستور يستجيب لمطالب كلّ السوريّين.
مطلب حلّ “قسد” تركيّ، ويفترض أن توقفَ أنقرة عدوانها بالكامل، وتتعهد بجدولٍ زمنيّ لانسحابها ثم تقول لقسد: انتهت المخاطرُ ومبررات حملكم للسلاح، وهي المناورة السياسيّة نفسها التي تتبعها أنقرة حالياً مع الكرد في تركيا.
في سوريا اليوم مشهد عسكريّ مُعقّد ولا يمكن لقوةٍ عسكريّةٍ أو جهة سياسيّة أيّاً كانت حصر الحالة الوطنيّة بنفسها، وتقول إنّها وحدها حائزة على الشرعيّة، وتنكرها على غيرها قبل الحوار والتوافق وصياغة الدستور.
السؤال المطروح هل ستحلُّ فصائل المرتزقة المرتبطة بأنقرة نفسها وتسلّم سلاحها؟ وما هي مرجعية هذه الفصائل، التي لم تدخل بعد في قوام وزارة الدفاع، وتحولُ أنقرة دون حلها، وتسعى لضمِّ بعضها للجيش القادم وتحويل البقية إلى قوى أمنيّة في مناطق الكرد تختطف الناس وتفرض الإتاوات.
قسد قوة عسكريّة ومعلومٌ في العالمِ كله أنّ العسكريّ يحضرُ إلى طاولةِ التفاوض مصطحباً سلاحه، ليناقش موضوع السلاح خلال التفاوض، ولا يجوز أن يكون نزع السلاح شرطاً يسبقُ التفاوضِ، ونذكر أنّه عندما فاوض عمر المختار السلطات الإيطاليّة لم يسلم سلاحه، وهل من الوطنيّة تسليم السلاح مع استمرار العدوان الذي ينتهك السيادة الوطنيّة؟
أيُّ خط ثوريّ؟
الفصائل المنضوية في إطار “فجر الحرية” تتبع شكليّاً وزارة الدفاع ما تسمّى “الحكومة المؤقتة”، وقد التزمت طيلة سبع سنوات بوقف إطلاق النار ضد مواقع النظام، وشاركت فقط في قتال الكُرد، وبخاصةٍ تلك الفصائل التي أُنشئت عام 2016. فكانت الثورة بالنسبة لها مجرد شعارات ارتكبت باسمها آلاف الانتهاكات بحق السوريّين. يعد لقاءُ بوتين ــ أردوغان في سان بطرسبرغ في 9/8/2016 مفصليّاً، إذ تعهد أردوغان بوقف الجبهات ضد جيش النظام، وكانت أولى نتائج الاتفاق احتلال جرابلس في 24/8/2016، وإعلان حلب خالية من المسلحين في 22/12/2016، وفق تسوية صيغتها حلب مقابل الباب.
وتبنّت هذه الفصائل أجندة أنقرة السياسيّة، داخل سوريا وخارجها بقتال المرتزقة في ليبيا وأذربيجان، وفي حالةٍ وحيدةٍ لإطلاق معركة ضد قوات النظام اُعتقِل وحوكِم القياديّ الذي اتخذ القرار.
في 5/7/2018 اقتحم عبد الرحمن المحيمد (أبو خولة موحسن) مع عناصره بلدة تادف، جنوب مدينة الباب، وسيطروا عليها بالكامل، بعد ساعات من اقتحامها، نصرةً لدرعا وحمّل المحيمد في مقطع مصوّر من سماهم “بعض القادة الخونة”، مسؤولية الانسحاب من بلدة (تادف) بعد ساعات من السيطرة عليها، وبعد المعركة شكّل “تجمع شهداء الشرقية”، وتمت مطالبته بحل الفصيل وتسليم سلاحه، وفي 18/11/2018 اُستهدف في مدينة عفرين حيث يسكن، باسم “حملة السلام” لمحاربة الفساد، ليهرب على إثرها إلى إدلب، وعند عودته سراً لزيارة أهله اعتقلته الاستخبارات التركيّة في 28/5/2019، وصدر بحقه حكم بالسجن لمدة حمس سنوات، بتهمة تشكيل عصابة أشرار.
باحتلال عفرين في 18/3/2018 وتهجير أهلها نُقلت إليها كلّ فصائل الغوطة وحواضنها الاجتماعيّة، وبذلك أضحت مناطق شمال سوريا جيوباً تركيّة، وتنازعت الفصائل فيما بينها باستمرار بسبب الخلاف على مناطق النفوذ وعمليات الاستيلاءِ على أملاك الأهالي والسرقات وأعمال وطرق التهريب، وبذلك فقدت أيّ ارتباط بهدفِ إسقاط النظام، وعندما دعت أنقرة النظام السوريّ للمصالحة كانت تعتقد أنّ تجميد الجبهات سيشفع لها، ولكن النظام كان يتطلع إلى مكسب سياسيّ بعد سنوات يعيد فيه الاعتبار لنفسه، ويرمم شعبيته.