فيروز مخول (أديبة سورية)
“في ظلال النور”، وبكل ما تمتلكه العبارة من تضاد على المستوى اللوني والقاموسي، وبكل ما تمتلكه من ترادفية المعنى، وتكامله من حيث بيان القصدية في التعبير، حالة لغوية، تمضي فيها الشاعرة السورية ريما آل كلزلي في مكاشفة حالات الحب والشوق والفقد والنزوح، وهذه التيمة تتبدى لنا من خلال عنونة كتابها الشعري الأنيق” في ظلال النور” إذ تتقاطع الإشراقات الروحية مع المشاهد الواقعية، والذي لجأت الكاتبة إلى تقطيعه بعناوين خاصة، منفصلة الا أنه نص طويل يمنح القارئ من الوهلة الأولى ومن القراءة الأولى، حساً جمالياً، ودفئاً يروي مساحات شاسعة من التعب، ومن الظمأ الروحي، ويتموضع العمق المعرفي بكل قصيدة من قصائدها واحترامها للكلمة وللقيم الجمالية من خلال تناول الإشكالية، أو التضاد اللوني والمعنوي بين الظل والنور.
كما نستشف هسهسة اللغة ولذة النص حسب تعبير “رولان بارت” في نصوص ريما كلزلي الشعرية، التي تنطلق من تقنية التصوف والوضوح، إذ تلجأ إلى تقنية المكاشفة المباشرة والتخفي خلف غلالة من المفردات الصوفية والتي يمكن استشفافها من عنونتها للكتاب نحو مساحة أكثر شمولية، وخاصة أنها تعي تماماً قدرة الشعر في التعبير عن رؤاها وإرهاصاتها الذاتية، ليس على المستوى الفرداني فقط، وإنما تنغمس في الموضوعي والمجتمعي العام ضمن مناخات الحداثة الشعرية ،حيث التمازج بين ما هو ذاتي وموضوعي، وبين ما تتنفسه من رؤى وحب، نحو عتبة الوطن بما يضمن من تواشيح ومنبع للذاكرة الجمعية، وبما تحمل من شغف وعشق لأمكنة ومسارات حياة ونسيج متماسك من الحالة المجتمعية وتلوناتها العائلية والتي لم يغب الوطن الجريح عن المشهد الشعري لديها، حيث مفردة النزوح بكل وجع تمنحها الشاعرة مكانة عالية وتعبر عن شغفها للقيم ولفكرها وإخلاصها للعشق، من خلال غوصها الروحاني وتصوفها، وتتعاطى تجليات الحداثة التأملية لبناء خطابها الشعري الذي يضم مجموعة من المقولات والأحكام والنتائج، إذ تمنح المتلقي خميرة تجربتها في الحياة وتمضي مع صورها الشعرية على استحضار الحالة الشعرية بكل أناقة ونقاء، وتقوم بتفكيك النظرة التقليدية لكثير من الأفكار حيث حضور الخطاب الوجودي التأملي، والاعتناء بجمالية المفردة واللغة في إنتاج رموز جديدة ومنح الحيوية للصور الشعرية في إنتاج المعنى، والغوص في بنية المعنى المبنية على سبك متين ولغة عذبة تعي شروط الحداثة الشعرية على مستوى الكتابة الجديدة للشعر، حيث الفرادة والتميز والتلاعب بمستويات اللغة ومعان المفردة، التي تعتمدها صيغة كتابية ومنهجية في مكاشفات تعتمد إمكانياتها القوية وتجربتها الشخصية، وقراءتها وغوصها في تفاصيل التقنية الكتابية، ليس على مستوى البوح والصورة الشعرية فقط، وإنما بما تمتلك من طموح في الذهاب إلى ما هو خارج نصها الشعري الطافح بتلوينات وحُجب تعمل على إذكاء لهيب المعنى الداخلي، وارتقاء المبنى الصوري لجسد قصيدة أكثر زهواً وأكثر جمالية ودفئاً.
إن الشاعرة ريما كلزلي لا تطرح نفسها كشاعرة فقط، ولا تكتب من أجل أن توثق انفعالاتها، وإنما تذهب نحو الشعر لأنه المنفذ الحقيقي للبوح ولبناء الفكر، وتقديم رؤية وفلسفة عن الحياة والعشق والموت والوجع والغربة والفقدان، فتنسج نصوصاً طافحة بالفرح والآمال، تصور الظلال برومانسية طاغية، وتظهر الجانب الحقيقي من عمق النفس البشرية، تجتاز عتبات وحشة الليل نحو وضوح الضوء، وحقيقة الأحلام، فالأمل مفردة حقيقية تجوب براري قلبها، كما يجوب الضوء عمق نصوصها الشعرية، فالأنوار تومض في كل قصيدة من قصائدها تمنحها جرعة عالية من الحب والفكر، تلك الومضات الرومانسية المترعة بالصوفية والألم، تقود القارئ نحو كوات الضوء وتنسج الظلال بخيوط من نور، تضيء الطريق أمام الأرواح المرهقة، التي تسبح في فضاءات نصوصها بخيوط مزركشة من الفرح والأمل، رغم مسحة الحزن التي اكتست ملامح نصوصها الطاعنة بالألم، والتي منحتها جرعة عالية من الدفء، واستطاعت أن تقدم نموذجاً مختلفاً من الشعر أمتاز برهافته وقوته معاً بكل جودة وثبات، نصوص بكل رومانسية وبكل مقدرة إبداعية رصينة تكاملت في رهافة مشاعرها وحسن ألفاظها وإمكاناتها في دعوة صور شعرية غاية في الجمال، وبلغة شفافة وقوة سبك تقدم نفسها متسلحة بثقة عالية وموهبة متميزة، وتشكل إضافة حقيقة لإنجازات المرأة الشاعرة، إذ تؤكد الشاعرة ريما آل كلزلي على انتمائها لعالم المرأة، حيث تكثف لغتها في هذا الاتجاه فنجد شخصيات تاريخية ورموز أنثوية وموازيات من الياقوت والحجر الكريم والعطر وعناصر أسطورية وحكائية، حيث الأنوثة تعلن عن ذاتها باعتداد ومن دون تبذل، وتقف بثبات وثقة مستندة إلى قدرات الشاعرة الإبداعية المفعمة بالقيم الإنسانية العليا، وتأثيرات الرمزية والرومانسية واضحة في متن النصوص، من خلال وهج لغتها ورغبتها التجديدية في تجديد بنية الحداثة الشعرية وإعادة التوهج والحيوية لدور الشعر في الحياة، تنفخ في لغة الشعر وتعلن الحدود الفاصلة بين رداءة الشعر وجودته ،كما تعلن انتهاء حالة التسطح (الحداثوي) الذي أصاب الشعر نتيجة محاولات كتابية استسهلت الشعر ولغته وخاصة خلال العقد الأخير من هذا القرن.
فالمجموعة الشعرية “في ظلال النور” تعلن بدء العودة إلى الرومانسية الثورية نهجاً، وإلى دفء اللغة، والتركيز على مخاطبة الرؤى والنفس والإخلاص لقيم الحب والجمال الروحي التي تعد حجر الزاوية في رؤية صحيحة للحياة وللعائلة فتصوغ صور فنية جميلة معبرة عن الحالة التي تطمح أن تصل إلى المتلقي بكل شفافية، وتشكل المجموعة إضافة حقيقية لتجربة الأديبة والشاعرة السورية ريما آل كلزلي
الشعر حياة وكينونة مستمرة، فالحياة لا تنتهي عند الفقد بل تستمر وتتخطى العقبات رغم كل الصراعات، والشعر أداة ثورية قادر على مخاطبة العقل والوجدان، فالشعر بكل زخمه وقوته وخيالاته وخرافاته وأساطيره وصوره الشعرية التي تهيمن عاليا في فضاءات الروح ينتمي في نهاية المطاف إلى العقل والواقع، وهذا ما ذهبت إليه الشاعرة في حياكة ملحمتها الشعرية، التي توزعت مضامينها ما بين روحها كامرأة وشاعرة ومفكرة، وكوطن ومجتمع يفيض بينابيع عشقها لبيتها، ووطنها، وللحدود التي اتسعت أملاً وبحراً أوسع من الألم.
ريما آل كلزلي في مجموعتها الشعرية سيدة متشحة بالصبر طافحة بالأمل والحلم، كتاباتها تحاكي فكرة التصوف، استخدمت بعض الرموز والمفاهيم الصوفية، حيث ارتدت ظلالاً حسية متخيلة، وراقصت حبال النور عبر صور شعرية إيقاعية، ارتبطت بموسيقا داخلية عميقة، استندت إلى أثواب لغوية قشيبة تلونت بوهج الفكرة ودفء مشاعرها، وتبقى اللغة الشعرية الصادقة محاكاة حقيقية للنفس البشرية ودرباً لاكتشاف اللذة وحقيقة الرغبة تحت شمس الله وهذه الأرض الطاعنة بالحزن والخراب… هذه الأرض الطاعنة بالعشق والوجد والولادات الجديدة…أيضاً… وأيضا.