الشهباء/ فريدة عمر – أكد الخبير في شؤون الشرق الأوسط، وسياسات الهوية، الدكتور طه علي أحمد، أن استمرار اعتقال المفكر عبد الله أوجلان، وفرض العقوبات الانضباطية بحقه، جاءا لسد الطريق أمام حل أزمات الشرق الأوسط، وحمل، المنظمات الدولية والحقوقية المعنية مسؤولية الانتهاكات التي تحدث في إمرالي.
بعد انقطاع دام ثلاثة وأربعين شهراً، التقى النائب عن حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، عمر أوجلان، القائد عبد الله أوجلان، وذلك في الثالث والعشرين من تشرين الأول المنصرم، وفي الأثناء، مددت الدولة التركية المحتلة، ما سميت بالعقوبات الانضباطية، بمنع الزيارات عنه مدة ثلاثة أشهر أخرى، ومن ثم قررت تمدديها لمدة ستة أشهر أخرى، دون ورود أية معلومات عن أسبابها.
وأثار ذلك، ردود أفعال شعبية غاضبة من الشعب الكردي، وعموم شعوب المنطقة، المؤمنة بفلسفة القائد عبد الله أوجلان، وأيضاً من العديد من السياسيين والحقوقيين والشخصيات.
فإلى ماذا تهدف الدولة التركية بسياستها هذه، وما مدى تواطؤ المجتمع الدولي، والمنظمات المعنية، كاللجنة الأوروبية لمناهضة التعذيب وغيرها، بالتزامها الصمت، هذه الأسئلة الهامة وغيرها، كانت محور حوار خاص لصحيفتنا، مع الخبير في شؤون الشرق الأوسط، وسياسات الهوية، الدكتور طه علي أحمد، وقد جاء الحوار على الشكل التالي:
ـ اعتقال القائد عبد الله أوجلان، يستكمل عامه السادس والعشرين، وحسب القانون، يحق له الاستفادة من قانون “حق الأمل”، برأيكم لماذا يتم عرقلة ذلك؟
إن المؤامرة التي أدت لاعتقال السيد عبد الله أوجلان، منذ بدايتها ترتبط برؤية النخبة القومية المتطرفة المهيمنة على الدولة التركية، منذ تأسيسها عام 1923، فالمتأمل في مسيرته، سواءً في شقها الحركي ممثلاً في مسيرته النضالية قبل تأسيس حزب العمال الكردستاني، أو حتى بعد تأسيس الحزب، أو في شقها الفكري المتمثل في أطروحاته النقدية للحداثة الرأسمالية، والدولة القومية، في أوروبا والشرق الأوسط، المتأمل في هذه المسيرة، يكشف مدى جدية وخطورة تأثير السيد عبد الله أوجلان، على الوعي القومي لدى الكرد؛ لأنه أسهم في نقل القضية الكردية من إطارها العشائري، المتمثل في مجموعات متنازعة يسعى كل منها لترسيخ سلطته في نطاق عشيرته وقبيلته إلى مستوى يتماشى مع واقع القرن العشرين. لكن؛ بصيغة ديمقراطية تقوم على الوعي الذاتي للشعوب، وليس بمجرد جعل الشعوب وسيلة للحشد من أجل ترسيخ السلطة.
من هنا يأتي إدراك السلطات التركية، لتأثير السيد عبد الله أوجلان العميق، وهو ما يفسر تجاهل الحقوق القانونية له سواء على المستوى الإجرائي، المتمثل في لوائح السجون المتعارف عليها في القانون التركي، وما تكفله من حقوق قانونية، أو على المستوى الإنساني المتلائم مع الحالة الشخصية والصحية له، لأنه بلغ السبعين عاماً، وهو بأمس الحاجة للرعاية الصحية.
ـ تفرض السلطات التركية، بين الحين والآخر، ما تسميها العقوبات الانضباطية على القائد عبد الله أوجلان، تحت ذرائع عدة، إلى ماذا يهدفون، وما تقييمكم السياسة التي تتبع في إيمرالي؟
الهدف مما تعتبره السلطات التركية “عقوبات انضباطية”، يكمن في مساعي السلطات لتجميد أية مساعٍ سياسية، لتسوية الأزمة التي تتورط فيها الدولة التركية، سواء على المستوى الاقتصادي أو حتى الأمني، كون المؤسسة العسكرية التركية عاجزة عن حسم أهدافها المزعومة تجاه حزب العمال الكردستاني، رغم ضخامة وقدم هذه المؤسسة.
وبالتالي، فإن تكرار هذه العقوبات الانضباطية المزعومة، يعكس عجز السلطات التركية، وفشلها في إيجاد مخرج جاد للتعامل مع القضية الكردية من جهة، كما تخشى المؤسسة القومية التركية، من استعادة الأطروحات الفكرية للسيد عبد الله أوجلان والتي انتشرت عبر كتاباته العديدة.
بجانب ذلك، تتهرب السلطات التركية من حالة التسوية التي يضعها السيد عبد الله أوجلان للحلول، عندما يعرض إمكانية تسوية الأزمة التركية في إطار ديمقراطي، كما كشفت البنود العشرة التي تضمنها “بيان نوروز” عام 2013، وهو ما يضع الدولة التركية في مأزق، ويكشف ما تمارسه من “ازدواجية المعايير”، إذ ترفض تسوية القضية الكردية من خلال الطرح الديمقراطي الأوجلاني، في حين تسعى السلطات لترويج نموذج ديمقراطي غير حقيقي.
ـ هنالك غياب تام، لدور الجهات المعنية، وعلى وجه الخصوص اللجنة الأوربية لمناهضة التعذيب، في ملف إيمرالي، كيف تفسرون ازدواجية المعايير هذه؟
في الحقيقة، لا يتوقع أية استجابة حقيقية من جانب ما يعرف بـ “لجان حقوق الإنسان”، سواء كانت اللجنة الأوروبية لمناهضة التعذيب، أو هيومان رايتس ووتش، أو فريدوم هاوس، أو غيرها، إذ تكشف ممارسة مثل هذه اللجان والمبادرات عن وقوعها تحت التأثير السياسي الغربي، الذي يعمل في إطار أجنداته، فهذه المؤسسات تعمل في إطار الدولة القومية وما يعرف بـ “الحداثة الرأسمالية”، التي لطالما انتقدتها أطروحات المفكر عبد الله أوجلان في أعماله الفكرية.
كما أن هذه اللجان المزعومة لا يخفى عليها ملف إمرالي منذ بدايته، ولم تتناوله بجدية، وهو ما يؤكد حقيقة أن هذه اللجان، ما هي إلا كيانات سياسة تعمل لصالح أجندات الدول الأوروبية، وهي ضالعة في المقام الأول في المؤامرة الدولية، باعتقال السيد عبد الله أوجلان قبل 26 عاما من خلال أجهزة استخباراتها التي تعاونت مع المخابرات التركية.
ـ مجلس أوروبا طالب لجنة مناهضة التعذيب وتركيا بإصدار تقارير حول إمرالي للرأي العام خلال مدة أقصاها عام، بما تصفون هذا الموقف الأوروبي؟
الموقف الأوروبي العام يغلب عليه التضارب، سواء على مستوى ملف إمرالي، أو حتى القضية الكردية، فأوروبا هي التي ساهمت في بقاء الكرد من دون وطن حتى الآن، حينما عارضت حقهم في إقامة دولة خاصة بهم في مطلع القرن العشرين، وساعدوا الأتراك على نسف معاهدة سيفر، ورسخوا لمعاهدة لوزان، وعلى مدار المائة عام الأخيرة، الأوروبيون يتحملون مسؤولية كافة أزمات الشرق الأوسط، بما فيها القضية الكردية، كما أنهم لم يعترضوا يوما على الانتهاكات التركية المتكررة بحق الكرد في سوريا وغيرها.
إلى جانب ذلك، مسار العلاقات الأوروبية – التركية، يكشف التواطؤ الأوروبي مع تركيا بحق واحدة من الدول الأعضاء في الاتحاد، وهي قبرص، التي تحتلها تركيا منذ 1974، وقد تم توقيع عقوبات على أنقرة في 2020 نتيجة للانتهاكات التركية بحق السيادة القبرصية في شرق المتوسط، وكذلك تمرير أسلحة للقوى الراديكالية في ليبيا وغيرها، وهو ما تجاهله الأتراك نتيجة لوجود تفاهمات قائمة على المصالح بين تركيا والدول الأوروبية، وملف إمرالي، يتورط فيه الأوروبيون منذ بدايته. بطبيعة الحال من غير المتوقع، أن تكتسب التقارير الحقوقية الأوروبية أية درجة من الجدية، ما دام الأمر يخضع لإطار المصالح في المقام الأول.
ـ هنالك مطالبات للكرد وأصدقائهم، في كردستان والعالم، بإطلاق سراح القائد عبد الله أوجلان، والحملة العالمية التي أطلقت العام المنصرم ولا تزال مستمرة بمختلف فعالياتها تؤكد ذلك، برأيكم ما مدى أهمية الاستجابة لهذه المطالب؟
إن المكسب الأهم من استمرار الكرد وأصدقائهم في المطالبة بإطلاق سراح السيد عبد الله أوجلان، يكمن في جعل قضيته مطروحة بشكل مستمر، هناك تقدم كبير في قضيته والحديث عن حقوقه، وأطروحاته الفكرية موضع نقاش خلال السنوات الأخيرة، وذلك بفضل الحملات التي أقيمت حول العالم.
كما أن استمرار هذه الحملات، يكشف المزاعم التركية وادعاءاتها، بشأن بناء نموذج ديمقراطي يخالف الواقع، فكيف لدولة ديمقراطية تشهد ما تفعله السلطات التركية في ملف إمرالي، والديمقراطية الغربية تنكشف أمام هذا الملف، وتؤكد ما ذهب إليه السيد عبد الله أوجلان في أطروحاته الناقدة للرأسمالية العالمية وديمقراطيتها وحداثتها المزعومة.
ـ تركيا تنفذ بكل وسائلها حروباً ممنهجة ضد الكرد، وتندرج جميعها ضمن جرائم حرب حسب الاتفاقيات والمواثيق الدولية، هل بإمكانكم التحدث عن دور المجتمع الدولي في هذا الإطار؟
لا بد بداية أن نميز بين مستويين، الأول هو المستوى الرسمي، الذي يتشكل من الحكومات الرسمية للدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، والتي تحكمها في المقام الأول منظومة المصالح، وهيكل القوة العالمي، وبالتالي تأخذ هذه الحكومات مواقفها تجاه القضايا الدولية، وحتى الإقليمية في ضوء معادلات القوة والمصلحة، فالأوروبيون الذين انتفضوا للدفاع عن الشعب الليبي مثلا ضد ما أسموه بالديكتاتور معمر القذافي، قاموا من أجل المصالح الاقتصادية كالثروات النفطية الليبية، وتأمين دولهم من خطر الهجرة غير الشرعية من أفريقيا عبر البحر المتوسط، وهم أنفسهم يتغاضون عما يتعرض له الكرد في سوريا من حروب وإبادة جماعية من جانب الجيش التركي.
وهناك أيضا المستوى غير الرسمي، الذي يتمثل في الضمير العالمي المعبر عن مواقف الشعوب حول العالم، والشعوب بطبيعة الحال يؤثر فيها الضمير الإنساني، وقد رأينا ذلك في الموقف الشعبي الداعم لحق الكرد، وكذلك حق الشعب الفلسطيني، وهذا الموقف لاحظناه من خلال المظاهرات المنتشرة حول العالم أخيرا.
ورغم الحروب الدموية، التي يقودها الأتراك بحق الكرد، إلا أن أخطر ما في ذلك هو مساعيها لتتريك المنطقة، لطمس الهوية الكردية واستبدالها بمظاهر تركية، وقد رأينا ذلك بوضوح في الإجراءات الأمنية والإدارية، وحتى الثقافية، التي تمارسها في المناطق التي يحتلونها مثل عفرين وكري سبي وسري كانيه وغيرها.
وكذلك ما يعرف بـ “نموذج حلب” الذي يزعم فيه الرئيس التركي أردوغان، برغبته في إعادة اللاجئين وإقامة مشاريع اقتصادية في مناطق ريف حلب، وأجزاء من شمال وشرق سوريا، في حين يكمن الهدف الأساس من هذه الخطة لإقامة كيان تركي على الأراضي السورية، بعد تفريغها من الوجود الكردي سواء، بشرياً أو ثقافياً، وهو ما يدركه الكرد جيداً، ودأبوا على مقاومته سواء بالأساليب الثقافية من خلال الحفاظ على هويتهم الكردية، أو حتى بالسبل العسكرية التي أثبتت فاعليتها حتى الآن.
أمام كل ذلك، يقف المجتمع الدولي (الرسمي) متغافلا عن كل ما يحدث، حفاظاً على اعتبارات المصالح والتفاهمات مع الجانب التركي، الأمر الذي يؤكد على ازدواجية المعايير التي لطالما اتسمت بها السياسة الأوروبية تجاه القضية الكردية تاريخيا.
ـ يشهد الشرق الأوسط صراعاً على الأوجه كافة، وهناك العديد من الرؤى، التي ترى المشروع الديمقراطي مفتاح الحل، ما رأيكم بذلك؟
بالفعل الشرق الأوسط يعيش في عمق الأزمة التي يعيشها النظام العالمي، وسواء فيما يخص القضية الكردية، أو القضية الفلسطينية، وحل القضيتين، من الركائز الأساسية للأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، ومن هنا لا بد من ضرورة البحث عن حلول لتجاوز حالة الصراع في المنطقة.
ورغم تعدد الرؤى والاجتهادات في هذا الصدد، يقف المشروع الديمقراطي، كأحد الأطروحات الجادة التي تخاطب الشعوب بشكل مباشر، أكثر من كونها تعول على الحكومات التي لا تحكمها إلا اعتبارات المصالح بعيدا عن النماذج الأيديولوجية المزعومة.
كما أن المشروع الديمقراطي الذي يقدمه السيد عبد الله أوجلان، في إطار “الأمة الديمقراطية”، يقوم بالأساس على ذهنية تؤمن بضرورة العيش المشترك، وفاعلية الحل الديمقراطي كسبيل أوحد، لتجاوز أزمات الإنسانية جمعاء، وليس الشرق الأوسط فحسب، وعليه، فإن الرهان هنا يكون على نشر الوعي بين الشعوب بأهمية تبني هذا الفكر المتحرر من قيود القومية العرقية والدينية واللغوية وغيرها.
والباحث في عمق مشروع الأمة الديمقراطية، يجد مدى اتساعه ليشمل قضايا إنسانية عامة، مثل رد الاعتبار للمرأة، والحفاظ على البيئة، ومناهضة الاستغلال الرأسمالي في إطار “شبه الاستقلال الاقتصادي”، ونبذ العنف والتطرف، ودعم العيش المشترك بين الشعوب، وخلق أمة تتأسس على كل ذلك، بعيدا عن الحدود القومية التي أوجدتها الدولة القومية لصالح هيمنة نخبة محددة على حساب المجتمعات.
وبالتالي، يتعين إفساح المجال لنموذج الأمة الديمقراطية، كي يجد طريقه للنور، وتسليط الضوء عليه حتى تتفهمه الشعوب والنخب والدارسين حول العالم، لاسيما وأن ثمة تجربة واعدة في إقليم شمال وشرق سوريا، قامت على أساس هذا النموذج، وقد أثبتت هذه التجربة قدرتها على الصمود رغم التحديات الداخلية والخارجية.