بدرخان نوري
منذ أكثر من قرن وتحديداً اتفاقية لوزان 1923 تعاقبت العديد من الحكومات على السلطات بخلفيات علمانيّة ودينيّة، إلا أنّ العِداء للكرد كان القاسم المشترك بينها كلها، وفيما كانت كلّ مبادرات السلام كرديّة، كان الانقلاب على السلام وسياسة القمع والاضطهاد والاعتقال سِمات ثابتة في سياسة أنقرة، ولذلك فإنّ من السطحية بمكان تصديق أنّ دولت بهجلي شريك أردوغان في السلطة وداعمه انقلب إلى داعية سلام، وفي توقيت الدعوة تكمن القطبة المخفيّة، والتي تتمحور حول مستقبل أردوغان السياسيّ.
تمديد عمر أردوغان السياسي
دعا دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القوميّة أبرز الأحزاب اليمينيّة المتطرفة، وحليف حزب العدالة والتنمية الحاكم. في خطاب أمام البرلمان التركي يوم 22/10/2024 إلى دعوة القائد عبد الله أوجلان للحديث في البرلمان، وفي خطوةٍ سابقةٍ قام بمصافحةِ نواب حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، مطلع الشهر الماضي. وبعد يوم واحد من اقتراح بهجلي غير المسبوق، سمحت السلطات التركيّة لعائلة القائد أوجلان بزيارته في إيمرالي بعد 43 شهراً من العزلة الكاملة ومنع اللقاء حتى بمحاميه.
ولكن يسود الاعتقاد بأنّ أوضاع السياسة التركيّة الداخلية، هي السبب الأساسي في مقترح بهجلي الأخير لحلّ القضية الكردية، وأنّ السعي لإبقاء أردوغان في السلطة لفترة رئاسيّة مقبلة ما 2028، هو المحرك الرئيسيّ لهذه الخطوة، أملاً باستدراج قبول كرديّ، والظهور بمظهر صنع السلام.
وقد أقرَّ دولت بهجلي بصحة الادعاءات المثارة بأنّ دعوته للإفراج عن القائد أوجلان، تتضمن في طياتها “تمريرَ تعديلٍ دستوريّ يمهّد الطريقَ لإعادةِ انتخابِ أردوغان”. وأوضح بهجلي في اجتماع الكتلة البرلمانيّة لحزبه أنه متمسك بدعوته، وطالب بتعديلِ الدستور لإعادةِ انتخابِ أردوغان لفترة رئاسيّة أخرى، وقال: “إنَّه تم توجيه ضربة قاسية لوحش التضخم وبلوغ الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ لتركيا ذروته ألن يكون الخيار الصائب والطبيعيّ إعادة انتخاب أردوغان؟ هل سنبحث عن مرشح ضمن صفوف الشعب الجمهوريّ مع تبقي أربع سنوات؟ وأكّد بهجلي في 5/11/2024، تمسكه بأردوغان وأنّه حسب زعمه “الخيار الوحيد بالنسبة للشعب التركيّ” وقال “ينبغي اتخاذ الترتيبات اللازمة لانتخابه لولاية أخرى”.
ما طالب به بهجلي من إعادة انتخاب أردوغان لفترة رئاسيّة إضافية ليس أمراً جديداً، إذ سبق كشف عن موقفه هذا قبل ثلاثة أسابيع من الانتخابات البلديّة والتي يفترض أن تكون الأخيرة لأردوغان بموجب الصلاحية القانونيّة، وقال في اجتماع لحزبه عُقِد في 17/3/2024: “لا يمكنك الرحيل وتركنا بمفردنا. تحالف الجمهور يساندك”.
الحقيقة أنّ كل المديح لمبادرة بهجلي متعمدٌ، وبخاصةٍ أنّه معروف بعدائه الشديد للكرد، وكان شاهداً وشريكاً في سياسة القمع والتضييق والعدوان على الكرد داخل تركيا وخارجها، والقضية الكرديّة ليست مستجدة بل لها جذورها العميقة والبعيدة، والسؤال: لماذا لم يتقدم بهجلي بمبادرة سلام قبل اليوم؟ والإجابة تتعلق بالتوقيت السياسيّ، والنظام السياسيّ والاقتصاديّ المأزوم واستباق المتغير الأمريكيّ ليحصد أردوغان عوائد مبادرة مجانية، دون إجراءات فاعلة، ولكن الحقيقة الأعمق أنّ بهجلي يسعى لتحقيق هدف عجزت حكومة العدالة والتنمية عن تحقيقه بالعدوان، ذلك لأنّ مبادرته تفتقر للتوازن، والإقرار الحكوميّ بممارسة الاضطهاد والقمع طيلة عقود، ولتظهر على أنّها داعية سلام، وأنّها احتوت سلميّاً ما تدّعي أنّه “إرهاب”.
وفي ظل الادعاءات حول “مفاوضات السلام”، التزم أردوغان الصمت تجاه الأمر لفترة طويلة، ثم جاء قرار إقالة رؤساء البلديات وتعيين وصاة بدلاً عنهم، وليعمد بهجلي إلى دعوته، للإيهام بوجود خلاف في الرؤى والمواقف بين شريكي تحالف الجمهور، إلا أنّ لا تخرج عن إطار تكامل الأدوار، وبحسب مراقبين؛ فإنّ حراك بهجلي المتسارع كشف بوضوح ارتباك التحالف الحاكم.
تجدّد العدوان التركيّ
سرعان ما ذاب الثلج عن مبادرة بهجلي بعد يوم واحد فقط من تصريحاته، مع بدء الاحتلال التركي شن هجمات جوية موسّعة وعلى مدى أربعة أيام متتالية بدءاً من ليل الأربعاء 23/10/2024. مستهدفاً البنية التحتية ومحطات الكهرباء والنفط ومرافق خدميّة وطبيّة ومنشآت حيوية في إقليم شمال وشرق سوريا وحتى منازل الأهالي، واُرتكبت مجزرة في تل رفعت.
فيما جدد رئيس دولة الاحتلال التركيّ أردوغان الأحد 10/11/2024، التهديد بشنِّ عدوان جديد في سوريا، وقال: إنّ بلاده ستُكمِل في الفترة المقبلة ما وصفه بـ”الحلقات الناقصة للحزام الأمنيّ على حدودها مع سوريا”. وجاء حديث أروغان خلال كلمة في إحياء ذكرى وفاة مؤسس الجمهورية التركيّة مصطفى كمال أتاتورك، وأضاف: “أحبطنا بقدر كبير محاولة تطويق بلادنا من حدودها الجنوبيّة من خلال العمليات التي نفذناها والمناطق الآمنة التي أنشأناها”، وفق تعبيره.
تهديد أردوغان في التوقيت الحالي مجرد فقاعة إعلاميّة، إذ جاء في الزمن بدل الضائع من عمر الإدارة الأمريكيّة وفوز دونالد ترامب بالرئاسة، والحقيقة أنّ الحكومة التركيّة مرتبكة في المرحلة الحالية، وهي ليست متيقنة من أبعاد سياسة ترامب في هذه ولايته القادمة، وبخاصة أنّ أنهى ولايته السابقة بفرض عقوبات على إدارة الصناعات الدفاعيّة التركيّة في 14/12/2020، بموجب قانون مكافحة أعداء أمريكا (قانون كاتسا CAATSA).
التفاف على الدستور بحسب المواد المتعلقة بالرئاسة في الدستور التركيّ المعدل والذي دخل حيّز التنفيذ عام 2018، فإنّه لا يجوز انتخاب أيّ شخص رئيسًا أكثر من دورتين، وبذلك فإنّ إعادة انتخاب أردوغان لرئاسة ثالثة يتطلب تعديلاً للمادة 101 في الدستور لتكون على مقاسه، إلا أنّ التعديل الدستوريّ المباشر يفترض موافقة 60% من البرلمان، 400 نائباً من أصل 600، أو عبر استفتاء بموافقة 360 نائباً، والعدد الحالي لمقاعد حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القوميّة في البرلمان لا يكفي لإجراء تعديل دستوريّ (321 نائباً، فيما لا يُحتسب صوت رئيس البرلمان نعمان قورتولموش، وفي المشهد الحالي، لا يُتوقع أن تدعم أحزاب المعارضة تعديلاً يمهّد الطريق لأردوغان للترشح مرةً أخرى.
ولأنّ سبيلَ التعديلِ الدستوريّ غير ممكن، فإنّ الطريقة الثانية لإعادة ترشيح أردوغان هي إجراء انتخاباتٍ برلمانيّة مبكرة، وهي أسهل نسبيّاً من التعديل الدستوري. ووفق المادة 116 من الدستور التركي المتعلق “بتجديد انتخاب البرلمان ورئيس الجمهورية” ولذلك بادر رئيس حزب الشعب الجمهوريّ، أوزغور أوزال، لدعوة أردوغان بأن يكون تشرين الثاني 2025 الموعد النهائي لإجراء انتخابات مبكرة. وبحسب أوزغور فالانتخابات التي ستجرى قبل بضعة أشهر من انتخابات 2028 تعني “تمديد الحياة السياسيّة لأردوغان”.
وانتخب أردوغان رئيسا لأول مرة عام 2014 في تصويتٍ شعبي بموجب دستور النظام البرلمانيّ، ورغم اعتراضات القانونيين وأحزاب المعارضة، ترشح أردوغان مرةً أخرى في انتخابات عام 2023 على أساسِ أنَّ الرئاسة الأولى غير مشمولة بالدستور والذي لا مفعول رجعيّ له، واُنتخب مرتين في ظل الدستور المعدل في ظل النظام الرئاسيّ. وسيبقى حتى عام 2028، ما لم تُجرَ انتخابات مبكرة.
دعوى قضائيّة
ونقلت صحيفة زمان في 7/11/2024، أنّ السلطات التركية فتحت تحقيقاً بحق رئيس حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب، تونجر باكيرهان، بسبب خطاب ألقاه في 4/11/2024. وقال فيه: “لا وصايتهم ولا سياساتهم الظالمة ولا أكاذيبهم ولا حيلهم ستجعل الشعب التركي والكردي يرضخ. نقول مثلما قال الشيخ رضا (لن تستطيعوا إرضاخنا). لا أكاذيب ستمكنكم من إرضاخ الكرد لا في ماردين ولا في أي مكان بالجغرافيا الكردية. أيها الأوغاد الوقحون، أنتم تقومون بتعيين الوصاة في الولايات الثلاثة، هذا يعني أن سياستهم للوصاية لم تُلقِ مردوداً لدى الكرد وأنكم تنكرون سياستكم بالانتخابات، والآن تحاولون انتزاع هذه الأماكن التي خسرتموها في الانتخابات بالاستناد على الحيل والأكاذيب”.
وأعلنتِ الداخليّة التركيّة أنّه تم بدء الإجراء على خلفيّة العبارات التي تضمنتها كلمة باكيرهان عقب عزل رؤساء بلديات ماردين وباتمان وخلفتي، وأشارت الوزارة أيضاً إلى بدء إجراء قانونيّ للسبب نفسه بحق رئيس شعبة الحزب في ميردين، محمد مهدي تونج.
العنف علامة عداء تجاه الكُرد
في 8/11/2024، أدلى المتحدثان باسم لجنة القانون وحقوق الإنسان في حزب المساواة وديمقراطية الشعوب DEM Partî، سيفدا جيليك أوزبنجول، وأوزتورك دوغان ببيانٍ نقلته وكالة فرات للأنباء. وجاء في البيان: “إنّ الشعب يحتج بطريقة ديمقراطيّة ضد انقلاب الوكيل في ميردين وإيله وخلفتي للحصول على إرادته. ومنذ اليوم الأول، تستخدم القوات الأمنيّة العنف ضد المحتجين، وأثناء مداهمة المنازل واعتقال العديد من المواطنين”. وأوضح البيان أنَّ العنف بحق المحتجين محظور بموجب القانون الوطنيّ والدوليّ ويعتبر جريمة ضد الإنسانيّة. واعتبر بيان الحزب العنفَ الذي تمارسه أمن السلطات في تركيا بمثابة علامة العداء تجاه الشعب الكرديّ. وطالب البيان إطلاق سراح المواطنين المحتجين فوراً والبدء الفوري باتخاذ الإجراءات القانونية ضد أفراد الأمن والمسؤولين الذين استخدموا العنف.
حملة اعتقالات واسعة
ذكر موقع زمان التركيّ المعارض أنّ عدد المعتقلين على خلفيّة الاحتجاجات على عزل عُمد البلديات الكرديّة بلغ 253 شخصاً، بحسب إعلان وزارة الداخليّة التركيّة. والتي ذكرت أنواعاً من الاتهامات الموجهة للمعتقلين منها: الانتماء إلى تنظيم إرهابيّ مسلح، وعمل دعاية لتنظيم إرهابيّ، ومعارضة قانون الاجتماعات والمظاهرات رقم 2911 ومقاومة الضابط المسؤول). وتشكّل هذه الاتهامات أنماطاً معهودة دأبت حكومة العدالة والتنمية توجيهها لكلِ معارضٍ لسياستها.
وفي أول يوم للاحتجاجات اعتقلت السلطات التركيّة 75 مُحتجاً في ولاية باتمان، وأفادت وكالة فرات للأنباء الجمعة 8/11/20241، بأنّ خمسة مواطنين اُعتقلوا في مدينة ميردين، وسادسٌ في مدينة آمد، بعد مداهمة الأمن التركيّ لمنازل المدنيين، وأشارت الوكالة إلى تعرّض أحد المعتقلين، ويدعى “محمد أتيش” للضرب المبرح بعد مهاجمته من قبل عشرات عناصر الأمن.
وفجر الخميس 7/11/2024 تعرضت العديد من المنازل في إزمير، لعمليات مداهمة نفذتها السلطات التركيّة واعتقلت ممثل لحزب الأقاليم الديمقراطي DBP في منطقة إيجه أصلان كزل، وعضو مجلس الحزب التابع لحزب الشعوب الديمقراطي HDP آيدن جتين كايا، والرئيس المشترك لجمعيات أبحاث الثقافة واللغة في أفستا رمضان كايكسز، والرئيس المشترك لحزب المساواة وديمقراطية الشعوب في ناحية منمن أكرم كاراكوج، والإداريين السابقين لجمعية دعم ومساندة أسر السجناء والمعتقلين في إيجه سلمى ألتان وهدية تكين وعصمت آكدمير. وبحسب السلطات الأمنيّة فالتهمة الموجهة للمعتقلين هي “عضوية التنظيم” ونقل المعتقلون إلى مديرية الأمن في مدينة أزمير. فيما تم تحديد سريّة الملف لمدة 24 ساعة للمحامين.
تصاعد وتيرة الاحتجاجات
في 4/11/2024، أصدرت وزارة الداخلية التركيّة قراراً غير مبرر بعزل كلٍّ من رئيس بلدية ماردين أحمد تورك ورئيس بلدية باتمان كلستان سونوك ورئيس بلدية خلفتي محمد كارايلان. وكانت قد عزلت في وقتٍ سابق رئيس بلدية أسنيورت بمدينة إسطنبول أحمد أوز.
وفور صدور قرار إقالة رؤساء البلديات شهدت مدن ومناطق باكور كردستان وإسطنبول احتجاجات عارمة منددة بما وُصف بذهنيّة الوصاية، ومؤكدةً أنّ هذه الأساليب لن تنجح في قمع إرادة الشعب الكرديّ. وفي محاولة لخنق الأصوات وقمع المعارضة أصدرت وزارة الداخلية التركيّة في 6/1/2024 قراراً حظرت بموجبه التظاهر لمدة عشرة أيام في ميردين وباطمان وأورفا وشرناخ، ولمدة ثلاثة أيام في آمد.