تعد مدينة كوباني إحدى المدن الكردية التي حققت انتصارات عدة تمثلت بالنصر على مرتزقة داعش، كما كانت مهداً لثورة 19 تموز، فيما لازالت مساعي دولة للاحتلال التركي لليوم مستمرة للثأر والانتقام لتلك الهزيمة.
دجوار أحمد أغا
مدينة كردية على أطراف سهل سروج كان نصيبها أن تُضمّ إلى الدولة السورية حديثة التكوين والواقعة تحت الاحتلال (الانتداب) الفرنسي سنة 1920 بموجب اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية، التي قُسم الشرق الأوسط بموجبها إلى مناطق نفوذ لكل من إنكلترا وفرنسا بالدرجة الأولى وإيطاليا، وإسبانيا بدرجة أقل. هي كوباني المدينة الكردية التي تقطنها عشيرة البرازية الكردية العريقة، لكن نظام البعث وخلال سياسة التعريب، التي مارسها بحق المناطق الكردية التي تم إلحاقها بالدولة السورية، غير اسمها إلى (عين العرب) في خطوة عنصرية واضحة.
كوباني تاريخياً
صحيح أن مدينة كوباني حديثة العهد، وليست قديمة كغيرها من المدن الكردية، لكن المنطقة التي تقع فيها كوباني تُعد من أكثر الأماكن المأهولة بالسكان منذ القديم. نجد مثلاً في أقصى الجنوب بالقرب من بلدة “صريّن” يقع تل أثري على ضفاف نهر الفرات. حسب علماء آثار ومؤرخين؛ يعود تاريخ هذا التل الواقع في قرية “تل البنات” إلى2300 ـ 22450 ق م.
كما ذكرت البروفيسورة الكندية “آن بورتر” رئيسة بعثة التنقيب في التل المذكور سنة 1988 أن: “القدماء كرموا القتلى في المعركة تماما كما نفعل نحن.. لا نعرف ما إذا كان المنتصرون أو المنهزمون في هذه المعركة. لكننا نعلم أنهم نقلوا جثث الموتى من مكان آخر، ربما بعد فترة طويلة من وقوع الحادث، وقاموا بدفنها في تلة ضخمة”.
إلى جانب وجود العديد من الآثار التاريخية العريقة والتي يرجعها علماء الآثار إلى الألف العاشر قبل الميلاد في قرى (جعدة، تل عبر، تل أحمر) الواقعة على ضفاف نهر الفرات على بعد 20 كم من كوباني.
كوباني أصل التسمية
يعود اسم كوباني إلى زمن ليس بالقريب، وهو موجود قبل نشوء وتكوين الدولة السورية، التي أطلقت فيما بعد على المدينة اسم (عين العرب). هناك روايتان بخصوص الاسم، الأولى تتحدث عن اتحاد عشائر البرازية الكرد الذين قطنوا سهل سروج وامتداده خلال القرن السابع عشر حيث أطلق عليهم اسم “كوم باني” أي الاتحاد أو التجمع الأعلى” خاصة في مواجهة العشائر الأخرى التي كانت تهدد وجودهم ولا سيما اتحاد المليين بزعامة “زور تمر باشا” الذي اتّخذ من “ويران شهر” التابعة لمدينة رُها في باكور كردستان عاصمة له.
بينما تُشير الرواية الثانية إلى تاريخ الشركة الألمانية التي قامت ببناء سكة حديد القطار الممتدة من برلين إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة مروراً بإسطنبول وبغداد سنة 1900، حيث تجمع العمال الذين يعملون بالشركة في مقر ومركز الشركة التي كانت تُعرف بـ “كامباني” ومع مرور الوقت، تحولت إلى كوباني.
مهد ثورة 19 تموز
تُعدُّ قرية “علبلور” في ريف كوباني الغربي، أول قرية طالتها قدما القائد والمفكر الكردي الكبير عبد الله أوجلان وذلك في الثاني من تموز 1979 بعدما اشتم رائحة انقلاب 12 أيلول 1980 الفاشي. وهي بذلك تحظى برمزية لدى الشعب الكردي. كما أن كوباني قدّمت الكثير من الكوادر لحركة حرية كردستان منهم الشهيد قره عمر كوباني من قرية كابلك، والشهيدة عينو محو (دجلة) من قرية كور علي، وغيرهم المئات من المناضلين والثوار.
شاركت كوباني مثل غيرها من مدن روج آفا في انتفاضة قامشلو سنة 2004 وثارت على نظام البعث، حيث أخرجت الجماهير عناصر الأجهزة الأمنية من المدينة، لكن النظام استقدم تعزيزات فيما بعد واعتقل المئات من الشبان لا زال قسم منهم إلى الآن مخفياً. أما الأمر الذي دفع كوباني إلى الواجهة، كان انطلاق ثورة شعوب روج آفا وشمال وشرق سوريا منها بتاريخ 19 تموز 2012 والمقاومة الأسطورية التي خاضها أبناء وبنات المدينة ومقاتلو الحرية ضد أعتى تنظيم إرهابي “داعش”.
بداية هجوم “داعش”
أواسط أيلول وتحديداً 13 أيلول 2014 وبعد أن سيطر على الرقة والموصل وتوسع في انتشاره على الأراضي السورية والعراقية واتخذ الرقة عاصمة لدولته المزعومة، توجهت جحافل مرتزقة داعش نحو كوباني التي كان قد تم الإعلان عنها كمقاطعة للإدارة الذاتية بتاريخ 27 كانون الثاني 2014.
زحفت العربات المصفحة والسيارات المحملة بالآلاف من المرتزقة وبرفقتها المدافع والدبابات باتجاه كوباني، حيث احتلت مئات القرى في طريقها لأن وحدات حماية الشعب وحماية المرأة لم يكونوا قد جهزوا أنفسهم لمواجهة التنظيم وبهذه الأعداد الكبيرة. بعد نحو ثلاثة أسابيع وصل المرتزقة إلى مشارف كوباني، فكانت البداية في (تل مشتى نور) مع “آرين ميركان” التي أعطت العدو درساً قاسياً وكبدته خسائر كبيرة.
المقاومة الأسطورية
من يريد التعرف على مقاومة كوباني عليه التعرّف على مقاومة قرية “سرزوري” ويبحث فيها، فالتطورات التي حدثت بعد ذلك قائمة عليها، كان داعش يشن هجمات ضارية هناك، فلم يكونوا يتوقعون هكذا مقاومة من هذه الأرض وأبنائها، لقد أرعبت هذه المقاومة العدو. بعد احتلال تل مشتى نور، دخلت جحافل المرتزقة إلى الأحياء الشرقية من كوباني لتبدأ بالهجمات الوحشية على المنطقة، وترد عليهم وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة وغيرهم من المشاركين في مقاومة كوباني، لتسطر ملاحم أسطورية أدهشت العالم بأسره. 134 يوماً من المعارك الشرسة خاضها مقاتلو الحرية تحت قيادة (زهرة، كلهات، فيصل أبو ليلى، ماسيرو، موسى هردم، وغيرهم من القادة الشهداء منهم والأحياء) تكلّلت بالانتصار ودحر الإرهابين المرتزقة وتحرير المدينة. حاول العدو جاهداً السيطرة على معبر “مرشد بينار” الحدودي، لكنه لم يستطع بفضل المقاومة العظيمة التي كان يخوضها أبناء وبنات كوباني ومعهم مقاتلو الحرية.
حشد أردوغان دباباته ومدافعه على حدود كوباني منتظراً لحظة إعلان سقوطها، بعد أن سيطرت ربيبته “داعش” على أكثر من 90 % من المدينة، وقد صرح عدة مرات بأن “كوباني ستسقط” لكنها لم تسقط وأصبحت قلعة الصمود ولقبها العالم بـ “ستالينغراد الجديدة”. المقاومة تحولت إلى هجوم مضاد لتحرير المدينة في 18 كانون الأول 2014 وأصبحت مقاومة (الكفاح من أجل الحرية) شعار للمرحلة التالية التي استمرت إلى أن تم تحرير كوباني بالكامل في 26 كانون الثاني 2015 حيث أصبحت نقطة البداية لنهاية التنظيم الإرهابي “داعش”.
مقاومة بالإرادة
نتيجة لضغط الجماهير الشعبية الكردية والرأي العام العالمي، واحتدام المعارك الغير متكافئة خاصة من ناحية الأسلحة الثقيلة التي امتلكتها مرتزقة داعش بعد استلائها على مستودعات جيش حكومة دمشق في الرقة والجيش العراقي في الموصل، فيما المحاربون في وحدات حماية المرأة YPJ ووحدات حماية الشعب YPG لم يكن لديهم سوى البنادق الآلية وبعض قذائف (الأر بي جي) أي الأسلحة الفردية والخفيفة.
فيما لم يتوقف الكرد في أجزاء أخرى من كردستان للانضمام إلى المقاومة العظيمة في كوباني، كما البيشمركة وغيرهم من أنباء الشعب الكردي وساندوا أخوتهم الكرد ليكبدوا مرتزقة داعش خسائر كبيرة، خاصة مع تكتيكات حرب الشوارع التي كانوا يخوضونها. إلى جانب الغارات الجوية التي كان يقوم بها التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب ضد مواقع مرتزقة داعش.
اليوم العالمي للتضامن مع كوباني
كان لمقاومة كوباني صدى واسع في مختلف أرجاء العالم، فقد خرجت الجماهير الشعبية في أكثر من 93 بلداً حول العالم معبرة عن غضبها وسخطها لما يجري في كوباني من هجوم وحشي همجي من جانب مرتزقة “داعش” بينما دول وحكومات العالم واقفة تتفرج على هذه المجازر الوحشية، وهذا التدمير الممنهج.
شعوب العالم خرجت إلى الشوارع مندّدة بالصمت العالمي، من اليابان إلى الأرجنتين، ومن روسيا والنرويج إلى جنوب أفريقيا وأستراليا. احتجاجات عارمة شهدتها مختلف دول العالم دعت فيها حكومات دولها إلى التحرك والضغط من أجل تقديم الدعم والمساندة للمقاتلين الذين كانوا يقاتلون في الأمتار الأخيرة من المدينة على الحدود التركية.
تم إعلان اليوم الأول من تشرين الثاني من كل عام، يوماً عالمياً للتضامن مع كوباني، حيث خرجت مظاهرات كبيرة منددة بالصمت التركي ودعمها المباشر مرتزقة “داعش”. توجهت المظاهرات والمسيرات التي جرت في المدن الكبرى في العواصم الأوروبية والدول صاحبة القرار وأمام السفارات التركية حول العالم، وكذلك في المطارات والميادين الكبرى الأمر الذي دفع بالمجتمع الدولي إلى إنشاء تحالف لمحاربة الإرهاب، حيث قامت الدول المشاركة فيه بقيادة الولايات المتحدة الأميركية إلى شن غارات جوية عديدة على مواقع المرتزقة والإرهابيين بالإضافة إلى إلقاء بعض المساعدات من الأسلحة والذخيرة لوحدات حماية الشعب من خلال الطائرات. أصبح هذا اليوم، يوماً عالمياً للتضامن مع كوباني.
استمرار الاعتداءات التركية
ما تزال تركيا تسعى إلى الانتقام لهزيمة ربيبتها “داعش” في كوباني، وعلى الرغم من مرور تسع سنوات على انتصار مقاومة كوباني، إلا أن تركيا ما تزال تريد احتلال كوباني من أجل الثأر لهزيمة “داعش” فيها. لقد كشفت هذه المقاومة حقيقة المخطط التركي في عموم سوريا وليس فقط في روج آفا وإقليم شمال وشرق سوريا. الخطة التركية كانت تتمثل في جعل مرتزقة “داعش” تسيطر على طول الحدود السورية التركية، لكن عند هزيمهم، قامت بنفسها بتطبيق هذه الخطة من خلال هجماتها الاحتلالية داخل الأراضي السورية، فاحتلت إعزاز، وجرابلس، والباب، ثم عفرين، وبعدها سري كانيه، وكريه سبي/ تل أبيض.
وما تزال تقوم بشكل شبه يومي بقصف كوباني وأريافها في تحد واضح للمجتمع الدولي الذي اعتبر كوباني “أيقونة المقاومة العالمية” في مواجهة “داعش”. وقد شاهدنا منذ عدة أيام كيف قامت الطائرات الحربية والمسيرات والمدافع التركية بقصف وسط ومركز مدينة كوباني (الفرن الآلي، مركز الطاقة) بشكل وحشي وهمجي يدل على مدى الحقد والكره الذي يكنّه لهذه المدينة البطلة وأهلها المقاومين الشرفاء.
وبسبب كل ما ذكر، تحتل كوباني مكانة كبيرة في قلوب الكردستانيين والعالم، فهي أولى المدن التي زارها القائد عبد الله أوجلان عندما عبر إلى روج آفا، وهي المدينة التي انطلقت منها ثورة روج آفا، والمدينة التي هزمت لأول مرة مرتزقة داعش هزيمة ساحقة، وقد تحولت بفضل كل ذلك إلى رمز للكرد وللإنسانية.