دجوار أحمد آغا
أكثر من 80 عاماً يحملها على كتفيه، ويسير في مقدمة المسيرة غير عابئ بثقلها، يمشي حثيث الخطا وكأنه شاب في مقتبل العمر، لم يتوانَ لحظة واحدة عن المشاركة في مراسم الشهداء، ولا في المسيرات الاحتجاجية ولا خيم الاعتصام، منذ اللحظة الأولى لانطلاقة شرارة ثورة روج آفا في التاسع عشر من تموز 2012 ولغاية استشهاده، إنه عميد الشهداء “يوسف كلو”، سليل العائلة الوطنية العريقة التي ساهمت الى حد كبير في مسيرة حركة حرية كردستان منذ بداية دخولها إلى مناطق روج آفا.
فالعم يوسف كلو بذاته حكاية، يحب أن يرويها الآباء والأمهات لأبنائهم، ليتعرّفوا على حقيقة مفهوم الوطنية، هذه الشخصية القوية، والتي استطاعت رغم الصدمات المتتالية، الحفاظ على رباطة الجأش والتوازن في إدارة أمور العائلة، مع ميلان واضح باتجاه المصلحة العامة على حساب المصلحة الشخصية، ففي الذكرى الثالثة لاستشهاده ننحني إجلالاً وإكباراً لشهداء الحرية والديمقراطية والسلام بشكل عام، ولشخصه العظيم بشكل خاص.
النشأة والبدايات
تمهيداً لإحداث تغير ديمغرافي في باكور كردستان؛ عمدت السلطات التركية إلى تهجير الكثير من العائلات الوطنية، التي كانت تُشارك في الثورات إلى مناطق روج آفا الواقعة تحت الانتداب الفرنسي، ومن هؤلاء العوائل كانت عائلة “كلو”، التي كانت تقطن منطقة أومريان.
فالعم يوسف كلو الذي ولد في أواخر ثلاثينات القرن الماضي في قرية “جعلي” بالقرب من مدينة نصيبين في باكور كردستان، اضطر إلى التهجير إلى روج آفا برفقة والده (محمد إبراهيم) فاستقر بهم المقام في قرية “توبز”، فدخل العم يوسف إلى المدرسة الابتدائية في قرية “سادان”، وبعد انتقال المدرسة إلى قرية “دودان”، لم يُكّمل تعليمه، بل التحق بالدروس الدينية في قرية “جولدارا” على يد الملا شيخموس عبد الله، وهناك تأثر بعالم الدين المعروف والمشهور في المنطقة (سيداي حجي موسى) الذي كان العم يوسف يستشيره في الكثير من الأمور.
النضال السياسي
وعند قدوم العم يوسف مع والده إلى روج آفا، وبعد تركه الدراسة، ساعد والده في الأعمال الزراعية، وبعد انتقال العائلة إلى حي “الهلالية” بمدينة قامشلو، تعرف على الحركة السياسية التي كانت تسير بزعامة الحزب الشيوعي، من خلال شخصيات مثل “نوري فرحان محوتزة” و”سيداي جكرخوين”، حيث شارك العم يوسف في الأنشطة والفعاليات التي كان يقوم بها الشيوعيون، لتنوير المجتمع وتحريره من سيطرة رجال الدين، واستبداد السلطة وتسلط الإقطاع المتخلف.
وبعدها، انضم العم يوسف إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني عن طريق “محمود نيو، وسيداي كلش” وغيرهم، وأصبح خلال فترة قصيرة مسؤول اللجنة الفرعية للحزب في قامشلو، وخلال الانشقاق الذي حصل عام 1965 وبروز كتلتي اليمين واليسار، انضم العم يوسف إلى نيار اليسار وبقي فيه إلى أن قدم كوادر حركة حرية كردستان عام 1980.
التعرف على حركة الحرية
ومع بداية الثمانينات ونزول الرعيل الأول من قادة الحركة إلى روج آفا، تعرف العم يوسف عليهم، الذين عرفوا باسم “الطلبة”، فقد فتح لهم ذراعيه، بيته، وقلبه وعقله، كان دوماً يقول “إن هؤلاء من كنّا ننتظرهم”، تعرّف عليهم عن قرب، تناقش معهم وحاورهم ساعات طويلة وشاهد كيف يتصرفون في حياتهم، وكيف يحترمون البيوت، التي فتح أصحابها أبوابها لهم. وبعد انطلاق قفزة 15 آب 1984 بأربع سنوات، التحق ابنه الشهيد “نور الدين كلو” والد (المناضلين ريزان، ريبر، وعكيد كلو، والشهيد مظلوم كلو)، بالكفاح المسلح في جبال كردستان، والذي استشهد عقب التحاقه بثلاث سنوات. وفتحت شهادة نور الدين كلو، الطريق أمام شبان وشابات العائلة، للانضمام إلى صفوف الحركة، وخلال مراسيم استشهاده، قرر العديد من أفراد العائلة الالتحاق بصفوف حركة حرية كردستان وخوض الكفاح المسلح، نذكر منهم “الشهيد مصطفى كلو الابن البكر للعم يوسف، والشهيد صبري كلو، الشهيد عيسى كلو” والعشرات غيرهم.
اللقاء مع القائد
وبعد أن تعرّف العم يوسف على العديد من قادة حركة حرية كردستان، حان الوقت لأن يلتقي مع القائد والمفكر وفيلسوف العصر “عبد الله أوجلان”، حيث التقى معه عام 1986 في العاصمة السورية دمشق، ومن ثم تتالت اللقاءات بينهما، وقد تعرض العم يوسف وعائلته إلى الكثير من المضايقات والملاحقة من حكومة دمشق، بسبب مواقفه المؤيدة لحقوق الشعب الكردي ونضاله المستمر من أجل تحقيقها. فالعم يوسف كان مناضلاً كردياً وطنياً من الطراز الرفيع، لم يبخل يوماً بالعطاء والمشاركة والدعم لنضال الكرد منذ أيام القاضي محمد مروراً بمصطفى البرزاني وعبد الرحمن قاسملو وصولاً الى ثورة حزب العمال الكردستاني بقيادة المفكر والقائد الكبير عبد الله أوجلان.
نضاله وكفاحه
وبدأ نضال وكفاح العم يوسف كلو، منذ اللحظة الأولى التي علم بأنه كردي ومحروم من حقوقه المشروعة، وأن وطنه محتل من دول عدة دول لتتقاسمه فيما بينها، وشارك في نشاطات الحزب الشيوعي في البداية كما ذكرنا سابقاً، ومن ثم انخرط في صفوف البارتي الديمقراطي وبعدها إلى اليسار الكردي واستقر به المقام في حركة حرية كردستان حتى لحظة استشهاده.
ويُعدّ العم يوسف من الشخصيات المؤثرة في المؤتمر التأسيسي لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD عام 2003، كما أنه ساهم إلى حد كبير في انتفاضة قامشلو في 12 آذار 2004 وعمل على تأسيس مرحلة جديدة لكفاح الكرد في روج آفا. شارك بقوة في ثورة روج آفا التي انطلقت في 19 تموز 2012 من كوباني. كان له دور بارز ومهم في تأسيس لجان الصلح، التي لعبت دوراً مهماً جداً في إنهاء خلافات العوائل والأسر، من جذورها بعيداً عن محاكم الدولة وسماسرتها.
الاستهداف والاستشهاد
وفي صبيحة يوم التاسع من تشرين الثاني 2021، وعند خروجه برفقة حفيديه مظلوم نورالدين كلو، ومحمد محمود كلو بالسيارة وأمام منزله في حي الهلالية، قامت مسيّرة تركية بقصف السيارة، أدى الى استشهاد الثلاثة، وقد ارتفع عقب هذا الاستهداف، عدد شهداء عائلة كلو الوطنية الى 15 شهيداً خمسة منهم في جبال كردستان بينما البقية في روج آفا.
وصدق العم يوسف كلو حينما قال: “إننا مستعدّون لتقديم الشهداء في سبيل حرية الشعب الكردي واستقلال كردستان، ولو كان لدي خمسون ولداً، فأنا مستعدّ للتضحية بهم في سبيل تحرير شبر واحد من كردستان”، وزاد على هذا الوعد والعهد الذي قطعوا على نفسه، بأن انضم بنفسه إلى قافلة شهداء الحرية والسلام.
تمثال العم يوسف كلو
وحين الدخول إلى مدينة قامشلو من جهة الغرب (طريق عامودا)، وقبل الدخول إليها، هناك دوار كبير ينتصب فيه تمثال للعم الشهيد رافعاً شارة النصر، تم تسمية هذا الدوار بدوار “الشهيد يوسف كلو”، وهو من تصميم الفنان التشكيلي والنحّات “أمين عبدو” بمشاركة اثنين من رفاقه، حيث باشروا العمل فيه بتاريخ السادس من كانون الثاني 2022 واستمروا لمدة ستة أشهر بالتمام والكمال.
وأكد الفنان عبدو: “التقينا أنا والشهيد “يوسف كلو”، سويا لعدة مرات، عندما كنا نعمل مع حركة حرية كردستان، فقد كنا نسكن في الحي ذاته، وكنا نعرف بعضنا البعض، وتعمقت علاقتنا خلال عملنا مع حركة حرية كردستان، حيث كانت شخصية الشهيد يوسف كلو، حقيقية وقيادية، لم يكن يقبل بالظلم، وكان مخلصاً لقضية شعبه المضطهد”.
ونوه: “حقيقةً كان لمشاعري الصادقة تجاه الشهيد “يوسف كلو”، ووفائي له دوراً رئيسياً في إقدامي على نحت تمثال له، فليس بالأمر السهل أن تنحت تمثالاً لشخصية وطنية كشخصية العم يوسف كلو”.
رواية Qelen “المهر”
إن شخصية وتاريخ ونضال وكفاح العم يوسف كلو، يحتاج إلى مجلدات لإيفائه حقه، وقد عبّر الكاتب والمثقف الكردي عبود مقصو عن ذلك من خلال المباشرة بكتابة رواية تحت عنوان QELEN، أي المهر بعد استشهاد العم يوسف مباشرة.
فالرواية تُسلّط الضوء على حياة العم يوسف ونضاله ووطنيته المشهود لها، وعن سبب اختياره لعنوان المهر QELEN لهذه الرواية قال كاتبها عبود مقصو: “لقد بذل العم يوسف تضحيات كبيرة في سبيل وطنه، ودفع ثمناً باهظاً، استشهد حتى الآن 14 من عائلته في سبيل الوطن”.
يُذكر، أن غلاف الكتاب الأمامي يحمل صورة للعم يوسف، وهو يرسم شارة النصر، بينما يوجد على الغلاف الخلفي للكتاب مقولة العم يوسف التي أصبحت رمزاً من رموز المقاومة في روج آفا: “إننا مستعدّون لتقديم الشهداء في سبيل حرية الشعب الكردي واستقلال كردستان، ولو كان لدي خمسون ولداً، فأنا مستعدّ للتضحية بهم في سبيل تحرير شبر واحد من كردستان”.