No Result
View All Result
المشاهدات 6
عبد الرحمن ربوع_
لا يمكن للسرد أن يكون أكثر عفوية وسلاسة من سرد فوزية قجو في “مذكرات امرأة كردية”. ومع أن القارئ قد يتوقع نصًا يعرّفه على خصوصية المرأة الكردية؛ إلا أنه سيكتشف أنها نسخة متطابقة من كل امرأة سورية عاشت وعاصرت مطلع الألفية الحالية حتى اليوم. إنها امرأة ككل سيدات هذا الشرق؛ منغمسة بالحياة ومفعمة بالمشاعر، مُحِبة، متفانية، مضحية، دؤوبة، تركز وتنتبه إلى كل تفاصيل الحياة وتتعايش وتتفاعل معها.
لأول مرة أقرأ سيرة محلّاة بكل هذه الرشاقة والإيجاز، بلا عقد أدبية أو نفسية أو عقلية. وبلا فوازير أو ألغاز أو إثارة أو غموض. أيضًا لا تفاصيل وجوه أو شخصيات أو معالم أو أماكن! وكأن القارئ يعرف كل أولئك الذين حكت عنهم فوزية قجو، ويعرف كل تلك الأماكن التي زارتها أو مرت بها. سرد عفوي حدْر لا يتوقف ليصف شخصًا أو يتفلسف برأي. وما الداعي لذلك؟ إنهم إخوتها وأخواتها وأبناؤها وجيرانها. لا أهمية لشيء إلا الأسماء والأحداث الكبرى: ولادة، زواج، وفاة.. وفي الأثناء لا بأس من دخول أحدهم الجامعة بطريقة “طريفة”. أو حادثة شفاء “عجيبة”، أو واقعة خِطبة “غريبة”، أو رحلة طارئة إلى أقصى العالم.. آلام هنا وأحزان هناك، ورحلات وزيارات.. حياة حقيقية، حياة مشفّاة، دون رتوش.
ومع تتابع الأحداث، وسرد محدور بلا توقف يطوي بنا خمسين سنة في مائة وثلاثين صفحة؛ فإن التاريخ “كما نعرفه” مركون في الهامش، هامش القارئ الزائد عمره عن خمسين عامًا. تاريخ لا قيمة له إلا فيما يثير في فوزية وفينا من مشاعر التعاطف والتأثر كاغتيال رفيق الحريري الذي أدمع مقلتيها. واستشهاد أحمد بوظان في شنكال الذي أبكاها هي وسيروان ورفين لليلة كاملة من ليالي واشنطن الكئيبة.
لكن في الخلفية البعيدة لا يمكن إخفاء أحداث عظام مرّت بأهالي عامودا وقامشلو، ولا يمكن تغطية أعمدة الدخان المتصاعد من حلب وحمص والغوطة. ولا يمكن كتم أصوات البراميل المتفجرة تنهمر على تلبيسة وسراقب والرقة ودير الزور. ولا يمكن إغفال أوجاع “التيل” المانع الفاصل بين سوريا وتركيا، وبرد ساعات الانتظار “مختبئة” ريثما تمر دوريات “الجندرمة” التي لا ترحم إنسانًا أو حيوانًا.
إنها الحياة ملخصة ومسرودة في أقصوصة. حياة أهم وأكبر من كل الصراعات الذكورية والتاريخية التافهة والسخيفة.
العائلة أهم.. سلام وأمن من نحب أهم وأولى. وفيما الزمن يهرول ويتراكض، تسرد السيرة منحوتة بحرفية كاتبة مخضرمة، وبجمالية لغة مترجم متمكّن هو ياسين حسين. وفي الأثناء والثنايا ثمة الكثير من تفاصيل غير مهمة، مملة، محذوفة.. فما حاجتي اليوم كقارئ لرواية تذكرني بمسلسل الدم الذي كتبه وأخرجه الزعيم الخالد وابنه؟
وما حاجة قارئ يأتي بعد مائة سنة ليطلع على كل ما عاشته فوزية وكل سيدات سوريا من وقائع مؤلمة عدّتْ وانقضت بأوجاعها ومرارتها؟ وما الحاجة إلى توثيق الكراهية التي تكتوي بنارها كل شعوب المنطقة، وتوثيق كل ما يزكيها وينميها؟
إنها باختصار “بورتريه” لرحلة حياة.. حياة امرأة سورية تصادَف أنها كردية. حياة مفعمة بزمن العائلة الجميل الأصيل، وقيم العائلة العتيقة المفتَقدة. وحيث قيم القرابة والجوار والمواساة والمساندة.. قصة انتماء ووفاء.. كما أنها وثيقة اجتماعية مصورة موشّاة بالأسماء والتواريخ، مزروعة بالكثير من فوبيا الوحدة والاغتراب وأرق الشوق والحنين.
شكرًا لفوزية قجو التي أدخلتنا حياتَها وأطلعتنا على سيرتها. وشكرًا لـ “رامينا” التي عرّفتنا على هذه المرأة النبيلة والكاتبة الجميلة.
No Result
View All Result