حلم تشكيل عالم متعدد الأقطاب، لم يكن يوماً خافياً على أحد بالنسبة للقوة التي باتت تقدم نفسها على أنها تمتلك من الإمكانات الاقتصادية والعسكرية ما يخولها لأن تكون قوى عظمى في العالم لتخوض صراعاً عميقاً ضد القوة، التي بقيت مهيمنة لعقود طويلة، وفي الحقيقة والواقع يعكس هذا الصراع، صراع بين الرأسمالية المضاربة “الطغمة المالية الغربية” والرأسمالية المنتجة الشرقية، في الصين وروسيا.
حجم الصراع في الشرق الأوسط والعالم ليس حروباً عقائدية أو وجودية أو فئوية أو قوموية، إنما في حقيقتها حروب وكالة لدولٍ تتصارع، لتهيمن على العالم وتُنهي حالة الأحادية القطبية، التي امتازت فيها حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية لينفجر الصراع على الصعيد الدولي مجدداً ويدخل في سيرورة تشكل عالم جديد، بسبب بروز قوى عظمى جديدة، لم تعد تقبل بهيمنة القطب الواحد على العالم، وتسعى إلى تشكيل عالم متعدد الأقطاب، وفي الحقيقة والواقع يعكس هذا الصراع، صراع بين الرأسمالية المضاربة/ الطغمة المالية الغربية والرأسمالية المنتجة الشرقية، في الصين وروسيا بلغت الصين من القوة الاقتصادية، بحيث أصبحت القوة المنتجة الأولى في العالم، وبلغت روسيا من القوة العسكرية بحيث أصبحت القوة النووية الأولى في العالم وقوة منافسة فعلياً لحلف الناتو، عسكرياً، وهذا ما يؤرق الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً وبين هذا الصراع تحاول دول إقليمية تقديم نفسها على أنها رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه في أي تشكيلٍ عالميٍ جديد، وتحاول الهيمنة والسيطرة ولأن الشرق الأوسط هو ميدان الصراع الدولي فتتناحر الدول الإقليمية لتحقيق نقاط تخولها من الجلوس على طاولة هيكلة العالم الجديد مستقبلاً.
الشرق الأوسط الجديد
مصطلح الشرق الأوسط الجديد لربما طفا على السطح وخرج إلى العلن عندما لوحت فيه وزيرة الخارجية الأمريكية عام 2006 كونداليزا رايس خلال الحرب المعلنة بين إسرائيل وحزب الله حينها، وكان مخططاً دخل حيز التنفيذ منذ ذلك الوقت وباتت الدول الإقليمية تتهيأ لمثل هذا المشروع.
حوّلت الطغمة المالية العالمية المنافسة إلى صراع تناحري متعدد الأوجه: اقتصادي، سياسي، عسكري، أمني، ثقافي، وديني وحتى رياضي وفرضت هذه القوى حصاراً اقتصادياً على كافة الدول التي لم تخضع لهيمنتها، كما ومارست ضغوطاً سياسية وثقافية ورياضية في الوقت ذاته.
حلف الناتو تقدم إلى حدود روسيا وحاصرها بقواعد عسكرية، لم تستفق روسيا على هذا الواقع إلا بعد التغييرات السياسية والعسكرية في أوكرانيا عام 2014، وتقدم حلف الناتو في بحر الصين، حيث أخذت الأمور منحى جدياً، استيقظت الصين بعد سنوات طويلة من العزلة السياسية وعدم الفعل على الصعيد العالمي، على هذا الحصار.
ليبدو للعالم أن الرأسمالية الدولية لم تكتفِ في مصطلح الشرق الأوسط الجديد إنما بات الأمر يأخذ مناحي أخرى، بل هو هيكلة العالم من جديد والحفاظ على القبضة الواحدة الحديدية للقطب الواحد الرأسمالي الذي يتحكم بمفاصل العالم، وإن الدول الاشتراكية في الشرق هي في صلب هذه المشاريع، لذا باتت الهيمنة واضحة المعالم وباتت المشاريع والمشاريع المضادة تنفذ لكن بعيداً عن كلا طرفي الصراع وفي منطقة وسطية بين الجانبين وهي منطقة الشرق الأوسط.
فمن يهيمن على الشرق الأوسط يهيمن على العالم ومن هذا المنطلق بدأت حرب الوكالة تطفو على السطح أدواتها دول إقليمية تتناحر فيما بينها بعناوين ضيقة خدمةً لمصالح دولية تبحث عن الهيمنة وسط مشروعٍ الأول، عالمٌ أحادي القطبية تهيمن واشنطن عليه وعالمٌ متعدد الأقطاب تقدم روسيا والصين نفسيهما كقوتين “اقتصادية وعسكرية” على أنهما ندٌ للمشروع الأول.
الولايات المتحدة بينت منذ زمن النية لسحب قواتها العسكرية من المنطقة العربية وتوجيهها نحو بحر الصين، ولكي تسحب هذه القوات يجب ألا تترك فراغاً، ففرضت بقوة “مشروع السلام الاقتصادي” على معظم الدول العربية بعضها معلن والآخر تحت الطاولة، تحت عنوان التطبيع، من أجل تأهيل إسرائيل قوة وحيدة في المنطقة لحماية المصالح الغربية.
ومن أجل ذلك اتبعت كلتا القوتين العالميتين المتناحرتين الولايات المتحدة والغرب من جانب والصين وروسيا من جانب آخر إلى خلق ساحة لتصفية الحسابات من خلال تفكيك الدول وتفتيت المجتمعات، تم ضرب وإنهاك هذه الدول لكن مع الحفاظ على أمن إسرائيل كنقطة محورية في الشرق الأوسط تتلاقى عليها مصالح الدول العالمية تنطلق منها معالم “الشرق الأوسط الجديد”.
السابع من تشرين الأول وشرارة التغيير
في خضم هذه المعطيات كان الفريق الرأسمالي يعتقد أن فرصة تحقيق المشروع المرسوم قد لاحت مع حدوث طوفان الأقصى، الذي ولّد صدمة مذهلة في بنية إسرائيل أجبرت الناتو بذاته استلام قيادة الحرب على الفصائل الموالية لإيران في غزة ولبنان واليمن وسوريا وعلى ما يبدو أنهم استشعروا استحالة التعايش مع هذا التطور العملياتي الناجم عن الدعم الإيراني الكبير لهذه الفصائل.
حيث تشكل إيران قاعدة الركيزة الأساس في دعم هذه الفصائل في غزة ولبنان والعراق واليمن وسوريا، وعلى الصعد كافة: العسكرية والمالية والفنية والسيبرانية لذا بات الواضح بحسب مراقبين إن ضرب إيران سيجبرها على التوقف عن دعم فصائلها في المنطقة، مما سيمكن إسرائيل من تأمين نفسها من أي تهديدٍ قد يحيط بها.
الدول الغربية ترى بأن هذا سيمكنها من التفرغ للسيطرة على الممرات المائية والبرية ومحاصرة روسيا والصين اللتين يرى فيهما الغرب الخطر الحقيقي على الرأسمالية العالمية، لذا وحسب محللين استراتيجيين يؤكدون أن حرب الإلهاء التي دخلت فيها دول المركز مع ميليشيات وفصائل في المنطقة حان الوقت لإنهائه تماماً والتفرغ للحرب الأوسع نطاقاً ضد كلٍ من روسيا والصين الباحثتين عن تعددية قطبية حول العالم.
لذا؛ فإن السابع من تشرين الأول وما قامت به حماس لو لم تكن قد قامت به لبادرت إسرائيل بذلك، لأن القرار الدولي اتخذ بسحق الواقع الميليشياوي على الأرض في الشرق الأوسط تحت قاعدة من لم يتغير ويغير سلوكه سيتغير بالقوة، وهذا ما يفسر امتداد الحرب إلى لبنان والقوة المفرطة المستخدمة في سحق هذه الفصائل وقطع أذرع الأخطبوط كما تصفه إسرائيل.
فمنذ انفجار المشهد الميداني في قطاع غزة قبل عام، لم تنقطع الغارات الإسرائيلية على مواقع مختلفة في سوريا ولبنان أيضاً، وهي استمرار لما سبق عملية غزة، لكن الملفت للانتباه أن مبادرة الهجوم على إسرائيل جاءت من غزة وتلتها أطراف الفصائل الموالية لإيران مع تباين في نسبة المشاركة، وهو ما أفسح المجال لإسرائيل والدول الغربية للاستعجال باتخاذ قرار الإنهاء برؤية أن الفرصة باتت مواتية لتحقيق مشروع إنهاء الوضع الميليشياوي في الشرق الأوسط والتفرغ للحرب واسعة النطاق.
الحرب بين إسرائيل وإيران
ففي خضم ما يجري اليوم على الأرض وبإعادة النظر للعلاقة بين إيران وإسرائيل منذ 45 عاماً وإلى الآن لم يكن البلدان قد دخلا في أية مواجهة مباشرة ومعلنة، منذ تولي الخميني الحكم لكن كانت الصواريخ والمسيرات التي أطلقتها إيران على إسرائيل، في الرابع من نيسان من هذا العام، “رداً” على استهداف قنصليتها في دمشق، أول مواجهة عسكرية مباشرة من نوعها بين البلدين. ثم تلا ذلك رد من إسرائيل اعتُبر “شكلياً”.
بينما المواجهة عادت لتشهد جولة ثانية من القصف الصاروخي الباليستي الإيراني، الذي وصف بأنه “الأكبر من نوعه” في تاريخ الحروب، “رداً” على مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، إسماعيل هنية، واغتيال أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، مع ضابط إيراني رفيع هو نائب قائد العمليات في الحرس الثوري الإيراني.
فطوال عقود، كانت المناكفات بين البلدين تجري عبر وكلاء إيران في المنطقة، خصوصاً حزب الله وحماس و”الجهاد الإسلامي”، ثم مؤخراً الفصائل العراقية والحوثيون وأحياناً كانت إسرائيل تنفذ مهمات استخبارية داخل الأراضي الإيرانية، قلّما كانت تعلن مسؤوليتها عنها.
أما اليوم، فتقترب أكثر فأكثر احتمالات حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل، مع تحضّر الأخيرة لرد وصفته بـ”القوي” على الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير وذلك مع سعي ايران لامتلاك سلاحٍ نووي للحصول على اعتراف به في النادي النووي وهو ما يؤرق إسرائيل ويدفعها للتخلص من هذا الحلم الإيراني.
ويعتقد كثير من المراقبين أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، يسعى إلى إيجاد “فرصة لضرب المشروع النووي الإيراني وإنهائه”، معربين عن خشيتهم من أن يجرّ التصعيد الحالي بين البلدين، إلى مواجهة مباشرة لا يُستثنى منها الملف النووي وهذا يتعلق بالردع المتبادل والهوس بين البلدين فيما يتعلق بالأسلحة النووية، إذ يرى نتنياهو أن على إسرائيل أن تقطع الطريق على إيران وتمنع امتلاكها سلاحاً نووياً.
ومع ان إسرائيل على ما يبدو تنتهج منطق التصعيد وليس منطق خفض التصعيد على الإطلاق إلا أن العناصر الموضوعية تميل إلى خفض التصعيد، مع حذر شديد من تهور إسرائيل وإطلاق شرارة الحرب في بيادر القش التي تملأ منطقة الشرق الأوسط، فمهاجمة إيران وسيلة إسرائيل للحصول على دعم دولي أكبر بكثير مما حصلت عليه في قضية غزة”، في إشارة إلى أن بعض الدول العربية تعتقد أن طهران وبرنامجها النووي يشكلان في ذاتهما عاملا لزعزعة الاستقرار الإقليمي.
المصالح المتقاطعة ومستقبل شعوب المنطقة
الإدارة الأميركية – أياً كانت ديمقراطية أو جمهورية ستعمل في سياق من الحسابات الصعبة، سواء في الأزمة الرئيسة في الإقليم أي حرب غزة، ومستقبل الضفة، ومروراً بإقرار خيار التهدئة في البحر الأحمر، وتسكين الأزمة إلى حين مع إيران في حال استيعابها في الفترة المقبلة، من خلال مقاربة البرنامج النووي، والدخول في مقاربات أشبه بالمقايضات السياسية المباشرة.
ما يؤكد أن الصراعات الكبرى في الشرق الأوسط لا تختلف كثيراً عن الصراعات في مناطق أخرى من العالم بما فيها الصراعات الساكنة، والتي تدور حول طرف رئيس دولي وأطراف فرعية، إلى جانب أطراف أخرى تعمل في مساحات متعددة، ما يؤكد احتمالية ألا تشهد مناطق الصراعات بما فيها الشرق الأوسط حلولاً توافقية.
وهذا يعني بمكان أنه قد يؤدي إلى حلحلة بعض الأزمات بالفعل عالم السنوات القادمة، ومع إدارة أميركية جديدة، أياً كان توجهها لن يختلف كثيراً عما يجري، وإنْ كانت حدة المواجهات في بعض الصراعات، ومنها ما يجري في الشرق الأوسط سيكون مدخلاً خطيراً لمزيد من الصراعات الجزئية والمرحلية.
ليبقى الشرق الأوسط كما يقول مراقبون على صفيحٍ ساخن لحين الانتهاء من هذا المخاض العسير، الذي تمر به المنطقة وما سينتج عنه من تغيير لمعالم حتماً لن تصب في صالح الشعوب في المنطقة التي يؤكد مراقبون أنه يجب عليها أن تتعامل بتكاتف وتكامل لعدم العبث بمصيرهم تلبية لمصالح الدول الفاعلة في المنطقة فالتعايش المشترك في نهاية المطاف يعزز من صلابة ومتانة الشرق الأوسط في وجه العاصفة التي قد تأتي على الأخضر واليابس في نهاية المطاف.