تكشف الحرب الجهنمية الدائرة في المنطقة إعادة رسم هيكلة الشرق الأوسط عموماً، حيث تتنافس القوى الغربية والشرقية على تلك البقعة الجغرافية، لتبث وجودها في المنطقة، الأمر الذي يوحي بأن هناك مخططاً لبناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
في ظل التوترات المتصاعدة بعد اغتيال حسن نصر الله يواجه لبنان مرحلة حاسمة، تتعدد فيها السيناريوهات الممكنة للصراع، وهنا نسلط الضوء على الحسابات الإسرائيلية والخيارات المتاحة أمام الأطراف المتنازعة، إن إسرائيل تعتمد حالياً على ما يمكن وصفه بالحسابات الصفرية، فتسعى لفرض شروطها على لبنان وحزب الله بدون تقديم أي تنازلات، وأحد أبرز الشروط الإسرائيلية يتمثل في انسحاب حزب الله من المنطقة الفاصلة بين نهر الليطاني، والحدود اللبنانية الإسرائيلية، هذه المنطقة هي حيوية لأمن إسرائيل التي تبحث بدورها الى إعادة هيكلة معالم الشرق الأوسط من خلال خوض حرب استنزاف طويلة بين إسرائيل وإيران، والتورط في حرب قد تكون مكلفة للغاية وتستنزف قدراتهما العسكرية والاقتصادية، لكن الغاية ستمضي قدماً الى تحريك المياه الراكدة في الشرق الأوسط تمهيداً لتحولات جداً مهمة.
لبنان وسيناريو تغيير خارطة الشرق الأوسط
في الفترة الأخيرة لا يُعبّر عن تصميم إدارة بايدن على مواجهة التهديدات الإقليمية، والدفاع عن إسرائيل، ومنع توسّع الحرب فقط، بل تغيير المسار في المنطقة أيضاً كل الأحداث التي وقعت منذ السابع من تشرين الأول حتى الآن، بما فيها تصفية قوة حماس وضرب حزب الله وتوجيه ضربات لإيران، لم يكن بالضرورة مخطط لها.
لكن اليوم، بعد كل الذي جرى، ينبغي أن نستغل ما حصل لنمضي في مسار مختلف، بما يعيد الاستقرار والسلام إلى المنطقة، وإعادة مسار العلاقات الإسرائيلية العربية إلى مسارها الذي انقطع بعد السابع من تشرين الأول، وهو ما يقودنا إلى ما صرح بنيامين نتنياهو إنه سيعمل على تغيير خارطة الشرق الأوسط.
ومن هنا يمكن لنا تفسير أهداف الحرب الجهنمية التي تُقاد في المنطقة وضرورة فهم أنها لا تستهدف الشعب العربي الفلسطيني، ولا الشعب اللبناني فقط، إنما تستهدف إعادة هيكلة الشرق الأوسط عموما، ومن ضمنها دول المنطقة وفق المصالح الاستراتيجية لواشنطن وعواصم الغرب عموما وبعض الدول العربية والإقليمية واستباقا للانزياحات التدريجية الجيوسياسية العالمية الهادفة لإعادة تشكل المنظومة العالمية، عبر إحداث تحول نوعي لخارطة العالم، تهدف إلى بناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
أمام هذه الرؤية التي تعكس حقيقة الموقف الأميركي للصراع الجاري، إن إصرار البعض على أنه إذعان وارتباك أميركي أمام رغبات إسرائيل، قد يكون من الضروري قراءة التحولات التي طرأت على موقف إدارة الرئيس جو بايدن، منذ اندلاع الحرب.
ثمة فهم خاطئ لتفسير ما تعنيه المطالبة بوقف إطلاق النار، سواء في غزة أو لبنان، وذلك لأن الأهداف، التي وضعت لا يمكن تحقيقها من دون تغيير الديناميات السابقة بمعزل عن الإدارة الجديدة، التي ستأتي بعد الانتخابات الأميركية، وسواء أكان الفائز فيها كامالا هاريس أم دونالد ترامب، لا شك أنه سيكون من الصعب العودة إلى السياسات الأميركية السابقة تجاه إيران وأذرعها وبرنامجها النووي، التي يمكن لها أن تلعب دوراً رئيسياً في إعادة تشكيل وترتيب الأوضاع بعد حرب غزة، التي ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وكذلك في لبنان.
كانت هناك تقديرات مختلفة داخل إدارة بايدن عن طبيعة الأخطار التي يمكن أن تواجهها العملية العسكرية التي أطلقتها إسرائيل ضد حزب الله وعن قدراته العسكرية الحقيقية، التي جرى تضخيمها، ولكن بدلاً من تبيّن صحة تلك التقديرات انتهى الأمر بتبنّي العديد من المسؤولين الأميركيين النجاح الذي حقّقته إسرائيل في سعيها بزخم مذهل إلى إضعاف حزب الله تمهيداً للمشروع الأكبر، وهو المضي قدماً بتغيير الوضع الراهن في الشرق الوسط عموماً.
هل سيكون هناك ضربة لإيران؟
ففي خضم هذه المخططات أطلقت إيران وابلًا من الصواريخ الباليستية في الأول من تشرين الأول الحالي على مختلف المناطق الإسرائيلية، مستخدمةً أسلحة أكثر تطورًا من تلك التي استخدمت في ضربات نيسان الماضي، في رسالة واضحة، بأن إيران ستصعّد ضرباتها في المرة القادمة على أي اعتداء إسرائيلي جديد على سيادتها.
رغم التهديد الشديد اللهجة الذي أطلقه الحرس الثوري الإيراني لحكومة إسرائيل بأن أي ردّ سيكون هناك رد مدمر عليه، فإنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أكد على تهديداته خلال اجتماع سياسي أمني بعد الضربة، أن الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل “فشل”، وستدفع طهران ثمنه، وأعلنت صحيفة “هآرتس” نقلًا عن الجيش الإسرائيلي، أنه يستعد لهجوم كبير في إيران.
لم يكن يهمّ البعض كيفية رد إسرائيل على الضربات الإيرانية لأن التوقعات كانت تشير إلى أنه قادم لا محالة، بعد تنفيذ إيران ضرباتٍ استخدمت فيها مئات الصواريخ الباليستية انتقامًا لاغتيال حسن نصر الله، وإسماعيل هنية، وعباس نيلفوروشان، لكن السؤال الملح اليوم هو: أين ستقوم إسرائيل بتنفيذ ضرباتها، وهل ستشعل في ذلك حربًا واسعة؟
تسعى الإدارة الأمريكية لتعبئة الرأي العام العالمي وحكومات دول العالم لتقبل ضربة إسرائيلية ضد إيران، وتقول، إنها تحاول إقناع إسرائيل ألا تضرب المفاعلات النووية الإيرانية، وكذلك تحاول أن تقنعها بعدم ضرب حقول ومصافي النفط، أي أنها تحدد لإسرائيل بنك الأهداف المفضل، مثل ضرب محطات الكهرباء والصناعات العسكرية والمدنية ومقار الجيش والحرس الثوري، واغتيال ما تشاء من قادة إيران وعلمائها.
تتوقع أمريكا أن يشكرها العالم على هذا الكرم، وربما تطمح إلى ما هو أبعد، وأن تشكرها إيران أيضا، وبذلك سيكون من السهل على أمريكا أن تشارك في الضربة الموجهة لإيران، والتي لن تمس المفاعلات أو حقول ومصافي النفط، أو على الأقل ستقدم لإسرائيل الدعم اللوجستي.
كما دعت إسرائيل الدول العربية التي ساهمت في حماية إسرائيل من الصواريخ الإيرانية، وتصدت لبعضها أن تتعاون معها في توجيه ضربة لإيران وهو ما تبحث عنه إسرائيل في تنسيق أمريكي إسرائيلي، وعربي بشأن الهجوم المرتقب على إيران.
التوقيت هو هام للجانب الإسرائيلي في الرد على إيران وتسعى تل أبيب لاستغلاله لعدة اعتبارات منها: تتزامن مع الذكرى الأولى لعملية طوفان الأقصى، التي أحدثت خرقاً في منظور الأمن القومي الإسرائيلي، ثانياً بعد أيام من الرد الإيراني على مقتل نصر الله وإسماعيل هنية وبعض الضباط الإيرانيين، ثالثاً تترافق مع الأعياد اليهودية ولاسيما بداية العام العبري الجديد، وعيد الغفران وهو ما يمنح نتنياهو تقديسا وتأليهاً لهذه الخطوات.
أمريكا والسعودية وبعبع إيران في المنطقة
كانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بإسرائيل في عام 1948، كما كانت الولايات المتحدة وإسرائيل حليفتين فعليا لعقود، على الرغم من عدم وجود معاهدة دفاع رسمية وقدمت الولايات المتحدة أكثر من 150 مليار دولار كمساعدات عسكرية لإسرائيل، أكثر من أي حليف آخر، سواء كان ذلك في وجود معاهدة أو من دونها وقد نشط هذا التحالف بعد هجمات “حماس” في السابع من تشرين الأول، حيث تدفقت مليارات الدولارات من المساعدات العسكرية إلى إسرائيل خلال حربها على غزة والآن في لبنان أيضا.
وقد كان التحالف في السابق يعتمد على منطق استراتيجي خلال الحرب الباردة-كما كانت تحالفات الولايات المتحدة مع تركيا وإيران في ذلك الوقت-ولكنها الآن تستند بشكل أساسي إلى التزام سياسي قوي في الهيئات السياسية الأميركية، والكونغرس، وكثير من وسائل الإعلام، بدعم غير محدود لأمن إسرائيل. فيما ينشأ جيل شاب في أميركا يشكك بشكل كبير في هذا الالتزام الأميركي المطلق– وهذه الأصوات أكثر شيوعا بين الديمقراطيين الشباب– ولكن هذا الجيل سيحتاج عقدا أو اثنين إضافيين ليبدأ في تحقيق تأثير سياسي حقيقي.
الشراكة الأميركية مع السعودية من الشراكات الأقدم، حيث بدأت في الاجتماع المحوري بين الرئيس روزفلت والملك عبد العزيز عام 1945 وكانت الشراكة تحتوي على بعض عناصر التحالف حيث عملت الولايات المتحدة والسعودية معا لمكافحة النفوذ السوفياتي، وطرحت الولايات المتحدة “مبدأ كارتر” الذي ساعد في دعم شريكها العربي ضد التهديدات المحتملة، وأرسلت قوات لطرد صدام حسين من الكويت وكذلك إبعاده عن حقول النفط السعودية. لكن؛ مع تحول الولايات المتحدة إلى مصدر صاف للطاقة، ودون الدعم الداخلي القوي الذي تتمتع به إسرائيل في الولايات المتحدة، بدأت عناصر ذلك التحالف بالتأثر وعندما تعرضت حقول النفط السعودية للهجوم في 2019، أو عندما استمر “الحوثيون” المدعومون من إيران في شن هجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة على السعودية، لم تفعل الولايات المتحدة الكثير.
لكنّ كلا من الإدارات “الجمهورية” و”الديمقراطية” في السنوات الأخيرة تعترف بأن السعودية شريك رئيس للولايات المتحدة على عدة مستويات: في إدارة أسواق الطاقة العالمية والتحول السلس للطاقة، وفي مكافحة التطرف الديني والإرهاب، وفي الحفاظ على استقرار الاقتصاد العالمي وأهمية الدولار الأميركي، وفي إدارة التنافس مع الصين، وفي احتواء إيران ووكلائها، وفي قيادة كتلة عربية معتدلة في الشرق الأوسط، وتشجيع التهدئة في الصراع العربي – الإسرائيلي وتطبيع العلاقات مع إسرائيل في سياق “حل الدولتين”.
بشكل مهم ستكون معاهدة الدفاع المتبادل بين السعودية والولايات المتحدة على الطاولة لأي إدارة أميركية مستقبلية، حيث سيسعى كل من ترامب وكامالا هاريس إلى متابعة صفقة ثلاثية بين الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل، سيما وإن هناك بعبعاً كبيراً يؤرق السعودية ومن خلفها دول الخليج وستقدم نفسها إسرائيل على إنها هي من خلصتهم من هذا البعبع. لذا؛ فإن الصفقة ستشمل بناء على إصرار السعودية نوعا من معاهدة الدفاع وفي تلك المرحلة، قد تتطور العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية من شراكة إلى تحالف من الممكن أن تكون إحدى ركائزه التطبيع بين إسرائيل والسعودية على غرار بعض الدول الخليجية.
العلاقة الإيرانية الأمريكية وسيناريوهات الشرق الأوسط
العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران كانت عدائية على مدى 45 عاما، منذ إنهاء نظام حكم الشاه عام 1979. ومن المهم أن نلاحظ أن هذا العداء كان خيارا مستمرا لإيران، وليس رغبة من الولايات المتحدة وكما لاحظ وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في الماضي، من حيث المصالح الوطنية، يجب أن تكون الولايات المتحدة وإيران حليفتين طبيعيتين.
بالنسبة للقيادة الإيرانية، يرتكز العداء في ذكريات الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة لإسقاط محمد مصدّق عام 1953، ودعم الولايات المتحدة لصدام حسين في حرب إيران والعراق، والعقوبات الأميركية، ودعم واشنطن لإسرائيل ما بعد اسقاط نظام الشاه.
وبالنسبة للأميركيين، يرتكز العداء في أزمة الرهائن بين عامي 1979 و1981، ودعم إيران للجماعات المتطرفة والإرهابية إقليميا ودوليا. وتفاقمت منذ عام 2023 بسبب الهجمات المنسقة على إسرائيل من قبل شبكة وكلاء إيران في الشرق الأوسط، ومؤخرا من خلال محاولات إيرانية مزعومة لاغتيال المرشح الرئاسي “الجمهوري”. كما أن الرأي العام الأميركي، ووسائل الإعلام، والكونغرس الأميركي، وكلا الحزبين، يتبنون موقفا قويا ومعاديا للجمهورية الإسلامية.
في ظل هذه المعايير الواسعة والثابتة من حليف، وشريك، وعدو، لا شك أن ترمب أو كامالا هاريس سيقدمان نهجهما الخاص وتغييراتهما في السياسات المتعلقة بهذه الدول فترامب شخص يتعامل بالصفقات وبشكل عملي، سيزيد من الضغوط والتهديدات ضد إيران، ولكن إذا أرادت إيران إبرام صفقة معه، فمن المحتمل أن يتجاوب معها وهو ألمح في نيويورك في نهاية شهر أيلول المنصرم، إلى انفتاحه للتفاوض مع طهران.
أما كامالا هاريس، فلن تتسم بالحدة والوضوح اللذين سيأتي بهما ترامب في العلاقات مع السعودية وإيران وإسرائيل وقد أعربت كامالا هاريس عن دعمها القوي لإسرائيل وستواصل ذلك، لكنها ستنتقد بشدة إجراءات إسرائيل المفرطة في غزة، والضفة الغربية، ولبنان.
وبطبيعة الحال فان نتائج هذا التصعيد ستمكن العديد من القوى الغربية والشرقية التي تتنافس على الشرق الأوسط، من تسجيل حضورها وضمان مصالحها في المنطقة خلال فترة ما بعد حرب غزة والآن في لبنان وإن النتائج سوف تؤثر بشكل مباشر على حرب الممرات الدائرة بين القوى الغربية والشرقية، وعلى رأسها الصين والولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا والسعودية.