تخلي ما تسمى بالمعارضة السورية عن أهدافها ومبادئها في السنوات الأولى من ولادتها، وموالاتها لأطراف تحكمت بها حسب مصالحها، وفي مقدمتها دولة الاحتلال التركي، ساهمت في إضعافها، وجردتها من هويتها، لتصبح في الأخير مرتزقة تحارب وفق أهواء داعميها.
تشهد الساحة السورية، منذ سنوات، صراعاً دامياً أودى بحياة مئات الآلاف. وفي خضم هذا الصراع المعقد، تعاني ما تسمي نفسها المعارضة السورية من انقسامات عميقة تهدد وحدة صفوفها وتضعف موقفها التفاوضي.
خلال الأشهر الأخيرة، برزت هذه الانقسامات بشكل واضح، لا سيما في أعقاب سلسلة من الاجتماعات والبيانات التي كشفت عن خلافات حادة حول قضايا جوهرية، مثل تعديل النظام الداخلي لهيئة التفاوض والتعامل مع الحكومة المؤقتة والتطورات الميدانية.
الخلافات حول تعديل النظام الداخلي لهيئة التفاوض
شهدت هيئة التفاوض السورية، وهي الجهة المعنية بالمفاوضات مع حكومة دمشق خلافات حادة حول التعديلات، التي أدخلت على نظامها الداخلي. ففي حين بررت الهيئة هذه التعديلات بضرورة تطوير آليات العمل الإداري وزيادة مدة تكليف قيادة الهيئة، عدَّتها منصات “القاهرة” و”موسكو” محاولة للسيطرة على الهيئة وإقصاء بعض أعضائها.
تكمن جذور هذا الخلاف في التباين في الرؤى حول مستقبل الهيئة ودورها في العملية التفاوضية. ففي حين تسعى بعض القوى إلى تعزيز دور الهيئة جهة مفاوضة موحدة، تسعى قوى أخرى إلى تقويض هذا الدور وتقسيم الهيئة إلى تيارات متصارعة.
توترات داخل الحكومة المؤقتة واحتجاجات إدلب
شهدت الحكومة المؤقتة، وهي الحكومة التي شكلتها ما تسمى بالمعارضة السورية لإدارة المناطق الخارجة عن سيطرة حكومة دمشق في مناطق شمال غرب سوريا، توترات واسعة أدت إلى اندلاع احتجاجات في محافظة إدلب. وقد ركزت هذه الاحتجاجات على المطالبة بتغيير حكومي وإصلاحات واسعة النطاق. وفشلت الحكومة المؤقتة في احتواء هذه الاحتجاجات، وخاصة بعد أن طالب المحتجون بإسقاط الحكومة المؤقتة وعلى رأسهم رئيسها عبد الرحمن المصطفى، والذي وصف المحتجين “بالمخربين”، والمتعاملين مع جهات خارجية هدفها زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة. وتعكس هذه الاحتجاجات عمق الأزمة التي تعاني منها الحكومة المؤقتة، وتشير إلى فقدانها الثقة الشعبية.
وتجاهلت ما تعرف بالحكومة السورية المؤقتة السبب الرئيسي في نشوب الاحتجاجاتِ كنتيجة مباشرة للتوترات السياسيةِ الداخلية، واختلاف التيارات السياسية من الأشخاص المحسوبين على المعارضة، وحب السلطة والأموال من الكثير منهم، والذين يسيرون على نهج “إلى الأبد”، والتي كان خرج السوريون لأجلها في العام 2011.
وشهد اجتماع غازي عنتاب، والذي جرى في مطارها بحضور ممثلين من استخبارات دولة الاحتلال التركي، والذي كان من المفترض أن يكون الهدف منه توحيد صفوف ما تسمى بالمعارضة، استعداد ثلاثة من كبار مسؤوليها للتخلي عن مناصبهم والاستقالة بشكل فوري، إن قادة مجموعات مرتزقة ما يسمى الجيش الوطني السوري تحدثوا خلال اجتماع غازي عنتاب عن أسباب عدم استقالة المسؤولين السياسيين في المعارضة السورية، ليقوم ثلاثة من أولئك المسؤولين بوضع استقالتهم على طاولة الاجتماع. والمسؤولون الثلاثة هم رئيس ما يسمى بالائتلاف الوطني السوري هادي البحرة، ورئيس هيئة التفاوض بدر جاموس، ورئيس مجلس القبائل والعشائر جهاد مرعي. إلا أن رئيس الحكومة المؤقتة عبد الرحمن المصطفى رفض تقديم استقالته بشكل قطعي، معلناً تشبثه بالكرسي إلى أجل غير مسمى، على مبدأ “اللي عجبو عجبو واللي ما عجبو يضرب رأسه بالحيط”.
ومن المعروف إن عبد الرحمن مصطفى هو الصبي المطيع لدولة الاحتلال التركي، والذي ينفذ أجنداتها في المناطق السورية المحتلة، ويبرر كل تصرفات دولة الاحتلال التركي واستخباراتها من قتل وتهجير وسرقة السوريين في المناطق المحتلة، ومن هذا المنطلق يصف السوريين الخارجين ضده وضد حكومتة الفاسدة بالمخربين، سانداً ظهره إلى دولة الاحتلال التركي، لأنه كان الولد المطيع ونفذ الأجندات المطلوبة منه ومن حكومته، حتى ولو كان ذلك على حساب السوريين. الخلاف حول وصف “الكيان السني” لإدلب
كما أثار وصف الدكتور أحمد موفق زيدان، التابع لما تسمى حكومة الإنقاذ المدعومة من مرتزقة هيئة تحرير الشام، لمنطقة إدلب بـ”الكيان السني” جدلاً واسعاً في الأوساط السورية. وقد عُدَّ هذا الوصف تحريضاً طائفياً وتقسيماً غير مقبول للشعب السوري. وقد رفض الحراك الثوري في إدلب هذا الوصف بشدة، مؤكداً وحدة الشعب السوري ورفضه لأي مشروع تقسيمي. كما عُدَّ هذا الوصف محاولة لتشويه صورة الثورة السورية وتقديمها على أنها مشروع طائفي.
أسباب الانقسامات
تتعدد الأسباب التي أدت إلى هذه الانقسامات العميقة في صفوف ما تسمى بالمعارضة السورية، ومن أهمها:
ـ التدخلات الخارجية: تلعب الدول الداعمة لما تسمى بالمعارضة وعلى رأسها دولة الاحتلال التركي، دوراً كبيراً في توجيه مسار الأحداث، فهي جعلت مما يسمون بالمعارضين أحجار شطرنج تقوم بتحريكهم وفق مصالحها، وهذا أدى إلى تعميق الخلافات بين مجموعات المرتزقة عسكرياً، وممثلي المعارضة، والتيارات المختلفة سياسياً.
ـ اختلاف الأيديولوجيات: توجد اختلافات كبيرة في الأيديولوجيات بين المجموعات المكونة للمعارضة؛ ما يجعل من الصعب التوصل إلى توافق حول رؤية مشتركة للمستقبل.
ـ صراع النفوذ: يسعى كل طرف إلى تعزيز نفوذه على حساب الآخرين، الأمر الذي يؤدي إلى الصراع والتنافس.
ـ غياب القيادة الموحدة: لا توجد قيادة موحدة لما تسمى بالمعارضة قادرة على توحيد الصفوف وتجاوز الخلافات، وذلك بعد أن حولتهم تركيا إلى مرتزقة يقاتلون خدمة لمصالحها في ليبيا وأذربيجان ونيجيريا وغيرها.
عواقب الانقسامات
تترتب على هذه الانقسامات عواقب وخيمة، خاصة إن ما أسمت نفسها بالمعارضة، سرعان ما تخلت عن الأهداف التي نادت بها، وأصبحت تابعة ومطيعة لأوامر غيرت مسارها، وتحكمت بها حسب مصالحها، في حين تشهد المناطق المحتلة احتجاجات واسعة وإدانة ورفضاً للحال الذي وصلت إليهم، بعد كشف حقيقة ونوايا ما تسمى بالمعارضة ومن أهمها:
ـ إضعاف موقف المعارضة: أدت هذه الانقسامات منذ أن انحرفت الثورة عن مسارها وأصبحت أداة في يد الاحتلال التركي، إلى إضعاف موقف المعارضة في المفاوضات مع الأطراف السورية، وتقليل فرص تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي.
ـ تسهيل مهمة حكومة دمشق: استغلت حكومة دمشق هذه الانقسامات لتقويض صفوف المعارضة وإطالة أمد الصراع، لتكون بذلك هي المستفيد الأكبر من هذه الانقسامات والشروخ في الأجسام السياسية للمعارضة، واستطاعات أن تبعدهم عن كل المفاوضات، التي كان من شأنها قد تحصل، وذلك بعد تسليم رقبتهم لدولة الاحتلال التركي، والتي أصبحت تساوم عليهم وفق مصالحها.
ـ تعقيد الأزمة الإنسانية: أدت منذ اللحظة الأولى هذه الانقسامات في صفوف مدعي المعارضة إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في مناطق شمال غرب سوريا.
وبذلك يكونون هؤلاء قد أضاعوا بوصلة الطريق ودقوا المسمار الأخير في نعش الثورة السورية، التي بدأت تحتضر منذ بداية العام 2016 بعد احتلال تركيا مدينتي إعزاز، والباب في عملية ما تسمى درع الفرات، والتي كانت أولى مراحل الارتزاق وإنحراف الثورة السورية عن مسارها وأهدافها التي خرجت من أجلها، وانتهت بعدما أصبحوا مقاتلو ما تسمى بالمعارضة مرتزقة عابري الحدود، يقاتلون على أرض ليست بأرضهم وقضية ليست بقضيتهم خدمة لمشغليهم.