يتبدل موقف أردوغان تجاه دولة ما، حسب مصالحه، فعدو الأمس أصبح صديق اليوم، ومن خلال ذلك وجه سهام أهدافه إلى منطقة الشرق الأوسط، الذي تدخل بشؤونها واحتل جزءا من أراضيها، فضلاً عن بناء قواعد تركية فيها، من خلال المتاجرة بقضايا الشعوب، فباتت علاقاته مع دول الشرق الأوسط تتأرجح بين مد المزاجية، وجزر البراغماتية.
أصاب أردوغان جنون العظمة، وحلم السلطان، فبدأ يعادي الأنظمة ويتاجر بقضايا الشعوب ليسوق نفسه على أنه مدافع عن الشعوب على أمل أن يحظى بشعبية سياسية. تناقضات أردوغان تكمن في إيمانه الكامل بالبراغماتية في سياساته، فأمام العزلة الإقليمية التي حاصرت أنقرة، وتضخم المشكلات الداخلية، التي ألقت برحلها على الاقتصاد المتهالك؛ غير نظام رجب أردوغان سياساته، وألقى بكل ما تشدق به على مدار سنوات تحت أعقاب المصالح الحزبية، والشخصية والقوموية.
سعى رئيس نظام دولة الاحتلال التركي رجب أردوغان طيلة السنوات المنصرمة إلى تقديم نفسه في المنطقة على أنه خليفة للمسلمين فتحدى إسرائيل، وقاد اقتصاد بلاده نحو الازدهار في علاقاته الاقتصادية معها، والتي أوصلت تركيا لتصنف من بين أكثر دول المنطقة على صعيد التبادل التجاري، ولطالما استخدم أردوغان الخطاب الديني الإسلامي لتقديم نفسه بصفته المدافع عن المسلمين على رغم التصرفات المتناقضة في هذا الجانب في محاولة منه للحصول على شعبية في الدول العربية، وكل ذلك لتحقيق مصالحه ومآربه في المنطقة. لكن؛ في التفاصيل وقراءة في العمق تتعرى تناقضات أردوغان في إيمانه بالبراغماتية في سياساته على حساب الشعوب، والدول والدين والقيم والأخلاق، حتى بات أردوغان للبراغماتية عنواناً، وللمنفعة سلطاناً وبالمتاجرة فناناً، وكل ذلك على حساب دماء وتطلعات شعوب المنطقة وحقها في تقرير مصيرها، الذي كفلته لها العهود والمواثيق والأعراف والمعتقدات.
أردوغان والتناقضات المفضوحة
من غير الموضوعي القول: إن أردوغان يتمتع بشعبية في العالم العربي، فنحن لا نستند إلى أي استطلاعات للرأي موثوقة في هذا الاتجاه، ولكن يمكن القول: إنه خلال فترة هيمنة التيارات الراديكالية على المشهد في أعقاب ما سمي الربيع العربي كان لأردوغان أنصاره والمدافعون عن سياساته؛ بسبب دعمه واحتضانه تنظيم الإخوان، بينما كان منتقدوه هم من اليسار والعلمانيين الرافضين تدخلاته، وتأثيره في المشهد بخاصة مع تدخلاته في سوريا واحتلال جزء من الشمال السوري، وكذلك ليبيا وتطلعاته لإحياء أحلام الإمبراطورية العثمانية البائدة.
فهو يراهن على شعبيته الزائفة في منطقة الشرق الأوسط؛ لأنها وحسب محللين مختصين، تتمتع بـ”مزاج عام” يتعلق بالأوضاع الراهنة، ويتقلب بتقلب المواقف، وهو عكس السلوك الغربي الذي يحكمه “رأي عام” وموقف موحد تجاه القضايا التاريخية والمصيرية والتوجهات المستقبلية، هذه نقطة، النقطة الأخرى لمساومة الأنظمة، ووضع هذه الشعبية على طاولة البازارات مع الأنظمة القمعية في المنطقة؛ لتحقيق مكاسب تصب في صالح دولة الاحتلال ولا تعطي شعوب المنطقة أي نقطة إيجابية.
ففي إطار تناقضات أردوغان أيضاً، برزت تصريحاته المتناقضة على السطح أيضاً في قضية مسلمي الإيغور، ففي حين شن أردوغان هجوماً على بكين في شأن هذه القضية، ووصفت وزارة خارجية دولة الاحتلال التركي ما يحدث من اضطهاد لشعب الإيغور المسلم واصفةً إياه بـ “عار كبير على الإنسانية”، إلا أنه خلال لقائه رجب أردوغان نظيره الصيني شي جينبينغ في قصر الشعب ببكين في تموز 2019 تراجع عن موقفه ليقول: “إن الأقليات الإثنية في إقليم شينغيانغ تعيش بسعادة” وعلى خلفية ذلك استثمرت الشركات الصينية المليارات في تطوير البنية التحتية التركية كجزء أساسي من مشروع بكين العملاق “الحزام والطريق”.
ومن هنا يتبين أن قضية الإيغور لأردوغان ورقة للتسويق السياسي لنظامه، إذ سعى إلى تقديم نفسه في المنطقة خليفة للمسلمين، مدافعاً عنهم ففي 2009 وصف أردوغان الإيغور، حينما كان رئيسا للوزراء: “نوع من الإبادة الجماعية”، لكن سرعان ما تغير موقفه فيما يشار إليه بـ”براغماتية” أردوغان، في ظل اعتماد أنقرة الاقتصادي المتزايد على بكين، إذ أدى الاقتصاد التركي المتعثر والعلاقات السيئة مع أوروبا إلى تقريب تركيا من الصين على حساب قضية الإيغور الذين تاجر بهم أردوغان لسنواتٍ طوال.
في سوريا، التي يحتل جيش أردوغان منها أجزاء واسعة من شمالها، نستذكر حين فتح الرئيس التركي حدود دولة الاحتلال للاجئين السوريين، تلك السياسة التي حصد من ورائها مليارات اليورو من الاتحاد الأوروبي في صفقة الإبقاء على اللاجئين لتخفيف العبء عن أوروبا، أصبح يتحدث اليوم عما يصفه بإعادة “مليون لاجئ طوعاً إلى الشمال السوري”، بينما تشن السلطات التركية حملة تستهدف آلاف “المهاجرين غير الشرعيين”، وفق وصف وزير داخلية النظام التركي علي يرلي كايا.
ولو تطرقنا إلى قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، والذي أثار أردوغان زوبعة إعلامية وهجوماً واسع النطاق ضد المملكة العربية السعودية عاد ليسلم الملف للسعودية، أيضاً بعد أن شدد أردوغان بعدم الإفراج عن الأمريكي أنروبرونسون لاتهامه بالتعاون مع فتح الله غولن عاد إدراجه وأفرج عنه، وإطلاق سراح داني إفكا المسجون الإسرائيلي المتهم بتهريب القات لتركيا قبل انتهاء فترة الحكم عليه بخمس سنوات، وما حدث من تصريحات تجاه النظم الحاكمة في الإمارات ومصر ثم زيارته للدولتين، تلك المواقف كلها تستوجب مراجعتها لفهم الآلية، التي يحاول أردوغان أن يمرر سياساته من خلالها.
الاقتصاد بوصلة أردوغان
خلال 20 عاما أقامت دولة الاحتلال التركي علاقات اقتصادية متفاوتة مع الدول العربية، تقدمت أحياناً مع تطوّر التصدير التركي، وتراجعت أحياناً أخرى تحت تأثير أزمات سياسية خصوصاً مع دول كالإمارات، ومصر والسعودية وكانت خطوة تكتيكية إلى الوراء لزيادة حجم التبادل الاقتصادي. حققت تركيا فائضاً تجارياً دائماً مع العرب، وبلغت قيمة هذا الفائض 307 مليارات دولار خلال الفترة من عام 2009 وحتى العام الماضي، أي بمتوسط سنوي 20.5 مليار دولار، وتزداد أهمية ذلك الفائض لتركيا، أنها تعاني من عجز تجاري مزمن منذ عقود، ويتوقع استمرار هذا العجز بالعام الحالي والسنوات المقبلة، بسبب استمرار ارتفاع أسعار الطاقة التي تستورد منها تركيا النصيب الأكبر من استهلاكها.
بلغ التبادل التجاري بين تركيا والعراق ما يقارب من 20 مليار دولار عام 2020 لأن العراق في المركز الرابع بين زبائن تركيا، بعد ألمانيا، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية وقد تراجع نسبياً هذا التبادل إلى 15,2 مليار دولار عام 2022، لكنه حقق نموا سواء في الصادرات التركية، أو مثيلتها العراقية، ما يجعل العراق لاعبا مهما للغاية في الاقتصاد التركي.
ليتربع العراق على عرش الدول العربية المستقبلة للصادرات التركية بأكثر من 10,2 مليار دولار، ويظهر الفرق شاسعا بينه وبين الدولة، التي تأتي في المركز الثاني، وهي الإمارات بحوالي 3,6 مليار دولار، ثم مصر بـ3,5 مليار دولار، تليها السعودية بـ3,2 مليار دولار.
والملاحظ أن الدول التي حلت بين المركزين الثاني والرابع لم تكن تجمعها علاقات جيدة مع تركيا إذ كانت الخلافات قوية بينها، ولم يبدأ أردوغان في تغيير سياسته بالبحث عن صلح مع عدد من خصومه العرب إلا في عام 2020، ولم تبدأ بوادر الأثر الفعلي لتغيير هذا التوجه إلا لاحقا في عامي 2021 و2022، حيث حقق نمواً أكبر في التبادل الاقتصادي معها كالإمارات والسعودية ومؤخراً مصر. حيث بلغ التبادل بين تركيا والسعودية 5,9 مليارات دولار عام 2022 حسب أرقام هيئة الإحصاء السعودية، وذلك بنمو بلغ 32 في المائة. ووضع البلدان هدفاً بتنمية التبادل وإيصاله إلى عشرة مليارات دولار في أقرب وقت، وأعلن الصندوق السعودي للتنمية، عن توقيع اتفاقية لإيداع خمسة مليارات دولار لدى البنك المركزي التركي دعما لأنقرة في مواجهة تداعيات الزلزال.
ومع كل هذا بلغت قيمة العجز التجاري لتركيا العام الماضي 106 مليارات دولار، وكانت أبرز دول ذلك العجز الصين 42 مليار دولار، وروسيا 35 مليار دولار، وسويسرا 18 مليار دولار وكوريا الجنوبية ثمانية مليارات دولار، بينما حققت فائضا مع العرب بقيمة 20 مليار دولار.
ربما يقول البعض: إن المنطق نفسه يحكم العلاقة التجارية بين تركيا وإسرائيل، والتي حققت تركيا معها فائضا خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، لكن قيمة ذلك الفائض الذي بلغ خلال تلك السنوات أقل من 27 مليار دولار، أي بمتوسط سنوي 1.8 مليار دولار، يقل كثيرا عما تحققه تركيا مع دولة عربية واحدة وهي العراق، والتي حققت تركيا معها فائضا قيمته 124 مليار دولار، أي بمتوسط سنوي 8.3 مليار دولار.
السياحة واليد العاملة روافد أخرى لاقتصاد دولة الاحتلال
شكلت اليد العاملة السورية التي تنفق غالب دخلها في الاقتصاد التركي، إلى جانب استفادة تركيا من معونات الاتحاد الأوروبي لها للإنفاق على اللاجئين السوريين بها، وتلويح تركيا لأوروبا بإمكانية السماح للراغبين في الهجرة غير الشرعية من اللاجئين السوريين لأوروبا، كأحد عوامل الضغط التركي على الاتحاد الأوروبي لتحصيل الأموال، وهو ما تم وصفه من مراقبين بالبلطجة الدولية.
وهكذا ومن حيث المنطق البراغماتي الذي تتبعه دولة الاحتلال التركي فإنها مستفيدة اقتصاديا من علاقتها العربية سواء من حيث قيمة الاستثمارات التي يضخها العرب في تركيا خاصة دول الخليج، ومن عمل شركات المقاولات التركية بالدول العربية، كما تستفيد الشركات التركية المستثمرة بالبلدان العربية من اتفاقيات التجارة الحرة التي تربطها مع الدول الأخرى، بما يسهل من نفاذ منتجاتها لتلك الأسواق بلا جمارك مثلما يحدث مع الشركات التركية في مصر والأردن وغيرها.
وتحقق تركيا أيضاً فائضاً في تجارتها الخدمية مع العرب، وهو ما يظهر جليا في السياحة العربية الواصلة لتركيا، حيث زاد النصيب النسبي للسياحة العربية من نسبة 3.4 بالمائة، من مجموع السياح الأجانب الواصلين لتركيا بالتسعينات، إلى 4.1 بالمائة بالعقد الأول من الألفية الحالية، ثم إلى 10.3 بالمائة بالعقد الثاني ثم إلى 10.4 بالمائة بالسنوات الثلاثة الأولى بالعقد الثالث، والأهم من ذلك هو كم الإنفاق الذي ينفقه السياح العرب بتركيا، والمشهورون بسياحة الشراء؟
وربما يرى البعض، أن المنطق نفسه ينطبق على السياحة الإسرائيلية الواصلة لتركيا والتي بلغت العام الماضي 766 ألف سائح، بينما كان السياح من العراق مليوناً و53 ألف سائح، ومن السعودية 821 ألف سائح، والكويت 363 ألف سائح، من مجمل 4.5 مليون سائح عربي زاروا تركيا العام الماضي. والمعروفون بإنفاقهم المرتفع بالمقارنة للسياحة الواردة لتركيا من دول الجوار الجغرافي لها، من جورجيا، وبلغاريا، ورومانيا، وروسيا، وإيران.
أيضا هناك عمالة تركية تعمل في دول عربية أبرزها الإمارات والعراق والكويت وقطر، وتقوم بتحويل جانب من دخولها إلى تركيا، بينما على الجانب الآخر؛ نجد أن العمالة السورية في تركيا على كثرة عددها، لم تحول لبلدها في عام 2017 سوى 234 مليون دولار، لتجيء بالمركز الخامس بقيمة التحويلات الخارجة من تركيا، بعد تحويلات العمالة الألمانية والبلغارية والفرنسية والصربية، حيث بلغت تحويلات العمالة الألمانية من تركيا بالعام نفسه ملياراً و637 مليون دولار.
مصالح دولة الاحتلال فوق كل اعتبار
أبدى أردوغان تراجعاً في دعم حلفائه الإسلاميين في المنطقة ما من شأنه أن يؤثر في شعبيته تدريجاً. ففي سبيل التصالح مع مصر اتخذ خطوات عدة ضد عناصر جماعة الإخوان الفارين، ومن بينها تسليم عدد من المطلوبين أمام القضاء المصري. ويقول إرديمير “تزامن التخلي عن إشارة رابعة (في إشارة إلى الإخوان) مع ابتعاد أردوغان عن بعض حلفائه الإسلاميين لصالح القوميين المتطرفين في تركيا”.
هذا التحول يوضح بأنه عندما يتعلق الأمر بمصالحه الشخصية، فقد أثبت أردوغان أنه مرن للغاية ليس فقط في اختياره الحلفاء التكتيكيين، ولكن أيضاً في تفسيره الأيديولوجية الإسلاموية لن يكون مفاجئاً أن تخلى أردوغان عن حلفائه من الإخوان المسلمين عندما شعر أنهم لم يعودوا يخدمون مصالحه الشخصية.
ومثلما تتسم تصرفات الرئيس التركي بالبراغماتية، والسعي لتحقيق مصالحه يرى مراقبون، أنه على شعوب الشرق الأوسط والشعوب العربية خصوصاً أن تدرك ذلك جيداً وألا تتسامح مع المواقف المتقلبة للرئيس التركي خصوصاً بعد أن اهترأت أسطواناته المشروخة، والتي بدأت بالفعل مراجعة موقفها من دولة الاحتلال التركي.
فالشعوب العربية التمست موقف دولة الاحتلال التركي الباهت تجاه الحرب بين إسرائيل وحماس التي لطالما تغنى بدعمه لها ليتخلى عنها مؤخراً ويبيع القضية الفلسطينية، التي حاول ركوب موجتها طيلة سنواتٍ منصرمة، حيث أحدثت هذه الوقائع فرقا كبيرا بين مواقف هذه الشعوب وعلاقاتها تجاه تركيا بين الأمس واليوم ولهذا ووفقا للمنطق البراغماتي التركي؛ فإنه أكبر الخاسرين شعبياً في المنطقة، ولا يقتصر ذلك على الشعوب في تركيا إنما امتد ذلك ليخسر الاحتلال التركي كل ما حاول أن يكسبه شعبياً بتسويقه لأكاذيب واهية طيلة سنواتٍ منصرمة لنصل إلى معادلة: أن “المزاج العام الشرق أوسطي يكاد ينتصر على براغماتية أردوغان”.