على مر التاريخ وفي الوقت الحاضر تتأرجح العلاقات الإيرانية والعراقية بين المد والجزر، مشعلة نيران الحرب، ليمتد نفوذ طهران في العراق، وتتدخل في نفوذه، مستغلة الظروف التي تمر بها بغداد.
تُعدُّ إيران من الدول القديمة جداً في منطقة الشرق الأوسط وهي صاحبة حضارة عريقة وذات تاريخ موغل في القدم، كما أن للعراق أيضاً حضارة قديمة وتاريخاً يمتد لآلاف السنين منذ أيام الحضارة السومرية في بلاد الرافدين، وما بعدها من حضارات عديدة شهدتها المنطقة (بابل، آشور، وغيرها). مع بدء الفتوحات الإسلامية في المنطقة، وخاصة بعد أن قام الخليفة الراشدي الرابع “علي بن أبي طالب” ابن عم الرسول (صلى الله عليه وسلم) وزوج ابنته بنقل مقر الخلافة من مكة المكرّمة إلى الكوفة في العراق، حيث كان هناك صراع خفي بين أتباعه والأمويين، الذين كانوا يرون في معاوية بن أبي سفيان خليفة للخليفة الراشدي الثالث المقتول، وهو يقرأ المصحف “عثمان بن عفان”، وفي ظل وجود الصحابي الجليل سلمان الفارسي إلى جوار النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، فقد اعتنق معظم الإيرانيين المذهب الشيعي الذي أصبح يتبلور شيئاً فشيئاً وظهر إلى العلن بعد عملية اغتيال الخليفة علي بن أبي طالب واستلام الأمويين الخلافة، ونقل العاصمة من الكوفة إلى دمشق.
تاريخ الصراع
كانت الديانات القديمة في هذه المنطقة هي عبادة النار ومن ثم جاءت الزرادشتية لتكون الديانة التي يلتزم ويؤمن بها الفرس والكرد وبقية شعوب المنطقة. ومع قدوم جيوش المسلمين من مناطق شبه الجزيرة العربية نحو الشمال، جرت حروب ومعارك كثيرة وقد تم بعدها اعتناق هذه الشعوب الإسلام سواء طواعية أو تحت الضغط وقوة السلاح.
جاء ت الأديان لتكون رسالة محبة وتسامح، وكان الأنبياء ثواراً حقيقيين يناضلون من أجل عامة الشعوب ويعملون على إتمام مكارم الأخلاق ومنع العادات السيئة وإضافة أمور تهم الصالح العام. لكن؛ بعد وفاة الأنبياء والرسل، تحولت رسائلهم وثوراتهم الاجتماعية إلى سلطة سياسية ونفوذ وقوة تحكّم. لذا نرى الصراعات التي جرت في المنطقة بين المسلمين أنفسهم، خاصة بعد انقسامهم إلى مذاهب وطوائف متعددة.
بدأ الصراع على المصالح وبسط النفوذ يتجلى بشكل واضح خلال الفترة التي بدأت بسيطرة الشاه إسماعيل الصفوي على السلطة في إيران، ثم نجاحه في احتلال بغداد عام 1509. ومنذ ذلك التاريخ والصراع مستمر ولم ينتهِ حتى الآن. ظل السعي لتحقيق نفوذ في العراق، هدفاً إيرانيا استراتيجياً دائماً، على الرغم من اندحار إيران الصفوية، حيث لم يستمر بقاؤهم لأن السلطان العثماني سليم نجح بمساعدة الأمراء الكرد في دحرهم خلال معركة جالديران في 23 آب 1514.
النفوذ الإيراني في العراق
بسبب وجود المراكز الدينية المقدّسة لدى الشيعة في العراق (الكوفة، النجف، كربلاء) فقد أرسلت إيران دوماً دعاتها للاستقرار في هذه المناطق منذ أيام الخليفة الراشدي الرابع الإمام علي بن أبي طالب، وصولاً إلى أيام الخلافة العباسية.
إيران وبعد انتصار الثورة ضد الشاه في العام 1979، بدأت بعملية تصدير الثورة إلى الخارج، وكان العراق من أوائل من تلقى الصدمة الأولى من خلال كون أغلبية الشعب العراقي من شيعة الإمام علي ومحكومين من جانب أقلية سنية مستبدة قمعية. لذا كان من السهل على أصحاب العمائم والعباءات أن يوسعوا نفوذهم داخل المجتمع الإيراني خاصة بعد أن وضعوا رجال دين إيرانيين جاؤوا بهم من مدن (قم ومشهد وأصفهان) وضعوهم في النجف وكربلاء ليكونوا مرجعاً دينياً للشيعة العراقيين أمثال أبو القاسم الخوئي، آية الله علي السيستاني، آية الله محسن الحكيم، وغيرهم. بالإضافة إلى تهيئة علماء دين عراقيين تابعين لهم أمثال مقتدى الصدر، عمار الحكيم، وغيرهم.
الانضمام إلى أحلاف مشتركة
رغم الخلاف المذهبي الديني والصراع على النفوذ في المنطقة، إلا أن العراق وإيران إلى جانب تركيا، كانوا غالباً ما ينضمون إلى أحلاف ومعاهدات استعمارية برعاية بريطانيا وأمريكا في مواجهة إرادة شعوب المنطقة عامة والشعب الكردي خاصة، كون هذه الدول الثلاث بالإضافة إلى سوريا، تتقاسم أراضي الكرد ووطنهم كردستان.
شارك الطرفان في حلف سعد آباد الذي تم توقيعه في طهران بتاريخ الثامن من تموز عام 1937 وضم إلى جانبهم تركيا وأفغانستان. من أهم هذه الأحلاف كان حلف بغداد الذي أسسته بريطانيا في 24 شباط 1955 بدعوى الوقوف في وجه المد الشيوعي القادم من الاتحاد السوفياتي، وضم تركيا وباكستان. لكن في حقيقة الأمر فإن هذه الأحلاف كانت استعمارية تهدف إلى الوقوف في وجه تطلعات شعوب المنطقة الساعية إلى التحرر من الأنظمة المستبدة والدكتاتورية، بالإضافة إلى مواجهة الشعب الكردي الساعي إلى التحرر من الاحتلال والتقسيم الذي فرضته قوى الهيمنة العالمية وفي مقدمتها حينذاك بريطانيا العظمى.
الحرب العراقية الإيرانية
بتحريض واضح من الولايات المتحدة الأمريكية وقوى الهيمنة العالمية، تم دفع العراق إلى حرب شاملة مع إيران بعد سقوط الشاه، استمرت ثماني سنوات (22 أيلول 1980 ـ 20 آب 1988). سماها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بـ (قادسية صدام). هذه الحرب التي قوضت اقتصاد البلدين وأخرجتهما من دائرة التطور والتقدم لما حملته هذه الحرب من دمار شامل للبنية التحتية والمنشآت الاقتصادية والخدمية للبلدين، بالإضافة إلى العدد الكبير من القتلى والجرحى في صفوف الطرفين سواء العسكريون أو المدنيون.
كانت الحرب في بدايتها لصالح العراق الذي باغ القوات الإيرانية وسيطر على مناطق من إيران على طول الشريط الحدودي. ولكن فيما بعد، قامت إيران بهجوم كبير استطاعت أن تخرج القوات العراقية من أراضيها وتسيطر على بعض الأراضي العراقية. كانت الحرب مدمّرة ولعل أفظع وأبشع فصولها يكمن في مأساة ومجزرة “حلبجة”، حيث قامت السلطات العراقية بقصفها بغاز الخردل وهو من الأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً، مما أدى إلى سقوط أكثر من 5000 شهيد جُلهم من الأطفال والنساء والشيوخ.
العلاقات العراقية الإيرانية اليوم
ما تزال إيران عاملاً رئيسياً، فاعلاً ومؤثراً على الساحة العراقية وعلى مختلف الصعد، وهي تُدرك الأهمية الاستراتيجية للعراق لها، فالعراق بوابة عبورها إلى الخليج العربي وسواحل البحر الأبيض المتوسط، ومن خلاله تحقق إيران تواصلها المناسب مع بقية حلفائها في المنطقة.
استغلت إيران مسألة الاحتلال الأمريكي للعراق وما أحدثه من فوضى لكي تمد نفوذها بشكل أكبر إلى العراق، والفرصة الثانية التي سنحت لها وعلى طبق من ذهب، كانت لدى توجه مرتزقة “داعش” إلى العراق واحتلال الموصل والعديد من المناطق العراقية مما دفع إيران إلى تعزيز نفوذها بحجة حماية “العتبات المقدّسة” حيث أرسلت ضباطاً وخبراء إيرانيين بالإضافة إلى معدات عسكرية وتعيين قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني مستشار عسكري للحكومة العراقية الأمر الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى استهدافه في مطار بغداد وقتله علم 2020.
تدخل واضح وصريح
لعل أبرز التدخلات الإيرانية في المنطقة بعد تدخلاتها في لبنان وسوريا واليمن، هو العراق. العراق الذي تسكنه أغلبية شيعية وتحديداً في الجنوب إلى جوار السنة في الوسط والكرد في الشمال. التدخل الغربي في العراق بعد حرب الكويت وتحجيم قوة العراق ومن ثم التدخل المباشر وإسقاط صدام حسين، صب في صالح إيران، فالأغلبية الشيعية بمعظمها متعاطفة معها وهناك قوى وأحزاب شيعية عراقية هي من صنعتها، لذا فالنفوذ الإيراني داخل أروقة الحكم والسلطات العراقية واضح وضوح الشمس وكما في لبنان فهي تمتلك الثلث المعطّل لأي قرار لا يمثل مصالحها. هذه الأمور لم تأتِ من فراغ بل نتيجة تفاهمات ضمنية بين إيران وقوى الهيمنة العالمية التي تعمل على إقامة توازنات في الشرق الأوسط ولا تسمح لأية قوى إقليمية بالسيطرة على الأمور والخروج عن توجيهاتها وخططها المرسومة للمنطقة. هذه القوى هي التي فرض نظام المحاصصة في العراق مثلما فرضته في لبنان وستفرضه غداً في سوريا أيضاً. رئيس الوزراء صاحب الصلاحيات والنفوذ يجب أن يكون شيعياً، والرئيس ذو المنصب البروتوكولي كردي ورئيس مجلس النواب (البرلمان) سني، بينما في لبنان الرئيس البروتوكولي ماروني ورئيس الوزراء سني ورئيس مجلس النواب شيعي.
المليشيات العراقية الموالية لإيران
هناك بعض المؤسسات والمنظمات سواء العسكرية أو السياسية منها أو غيرها، العراقية الموالية لإيران أبرزها:
– “منظمة بدر” التي يعود تأسيسها إلى العام 1982 كجناح عسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وفي العام 2014 انضمت إلى هيئة الحشد الشعبي وأصبحت من أقوى الفصائل فيه يقودها هادي العامري وتشارك في الحياة السياسية العراقية ضمن كتلة “فتح” حيث لها عشرات النواب في مجلس النواب العراقي.
– “سرايا طليعة الخراساني” أُسِّست هذه السرايا عام 1986، على يد ياسين الموسوي، وترتبط بشكل مباشر بإيران، وتحصل منها على التمويل والسلاح، وتحمل شعار الحرس الثوري الإيراني، ويقدر عدد أفرادها بأكثر من سبعة آلاف عنصر.
– “عصائب أهل الحق” انشقت عن جيش المهدي العائد للتيار الصدري سنة 2006 على يد الشقيقين قيس وليث الخزعلي ومعهم أكرم الكعبي. لها تمثيل برلماني عبر كتلى “الصادقون”، وتضم العصائب أربع كتائب عسكرية هي (كتائب الإمام علي، كتائب الإمام الكاظم، كتائب الإمام الهادي، وكتائب الإمام العسكري).
– “كتائب حزب الله العراقي” أُسِّست في مدينة العمارة جنوب العراق العام 2007، وتكونت من اتحاد مجموعة من المليشيات الشيعية، وهي: (لواء أبي الفضل العباس، كتائب كربلاء، كتائب زيد بن علي، كتائب علي الأكبر، وكتائب السجاد). يقودها أبو فدك المحمداوي، خليفة مؤسسها الراحل أبي مهدي المهندس.
– “حركة النجباء” أُسِّست هذه الحركة على يد أكرم الكعبي، بعد انشقاقه عن عصائب أهل الحق في العام 2013. انضمت الحركة إلى هيئة “الحشد الشعبي” لمحاربة “داعش” كما شارك أفرادها في القتال في سوريا لدعم حكومة دمشق، تضم الحركة عدة ألوية عسكرية في سوريا منها (لواء تحرير الجولان، لواء عمار بن ياسر، لواء الإمام الحسن المجتبى، ولواء الحمد).
– “كتائب سيد الشهداء” أُسِّست هذه الكتائب على إثر انشقاقها عن حزب الله العراقي عام 2013 بقيادة أبي مصطفى الشيباني، ومن ثم قامت بالانضمام إلى الحشد الشعبي تحت مسمى اللواء 14.