ما بحث عنه التاجر العثماني؛ أردوغان لم يتمكن من نيله بالقوة، فبات يغير سياسته، من خلال المراوغة الدبلوماسية، وما محاولات تعويمه عربياً من البوابة المصرية إلا دليل على ذلك، فعداوة الأمس تزاح اليوم بعلاقات جديدة، رامية بهدفها إلى المشاركة في منتدى البحر المتوسط.
العلاقات المصرية التركية حالها حال العلاقات التركية مع دول الجوار ومحيطها في دول الشرق الأوسط شهدت منعطفاتٍ وتوترات دامت سنوات بعد حالة الازدهار، التي مرت بها إبان وصول جماعة الإخوان المسلمين للحكم في عهد محمد مرسي، فإن دفاع تركيا عن الجماعة بعد الإطاحة بها تسبب في قطيعة دبلوماسية بين البلدين حين وصف رئيس دولة الاحتلال التركي رجب أردوغان، أن الإطاحة بمرسي هو أمر غير مقبول على حد وصفه لتدخل العلاقات في قطيعة تامة تأزمت منذ عام 2013 حين طلبت مصر من السفير التركي في تشرين الثاني عام 2013 مغادرة البلاد بعدّه شخصاً غير مرغوب فيه لتتعمق الخلافات بين البلدين على محورين رئيسيين خارجياً، الأول مرتبط باستكشافات الغاز في البحر المتوسط، والتعاون المصري اليوناني القبرصي في هذا السياق، وتكوين منتدى غاز شرق المتوسط، بالإضافة إلى التدخلات التركية في ليبيا التي عدّتها مصر تهديداً للأمن القومي، ما دفع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لتحذير أنقرة من الاقتراب من محور سرت – الجفرة بعدّه خطاً أحمر لن يسمح بتجاوزه، لتعود دولة الاحتلال التركي إدراجها في نسج علاقات قائمة على المصلحة والمنفعة مع مصر واضعةً ورقة الإخوان المسلمين على طاولة البازارات السياسية حين أرغمت متزعمي الحركة، التي احتضنتهم لسنوات على مغادرة تركيا استرضاءً للقاهرة.
أردوغان وتنظيم الإخوان والعلاقات المصرية التركية
استمر الخطاب العدائي بين الدولتين في التصاعد، حتى بلغ قمته في حزيران ٢٠٢٠ حين لوح الرئيس المصري بالتدخل العسكري في ليبيا لدعم قوات الشرق في مواجه الغرب الليبي المدعوم من تركيا حين تم اعتبار “سرت – الجفرة” خطاً أحمر.
لتكون هذه المحطة نقطة مفصلية أدت إلى استدارة نظام دولة الاحتلال التركي عن خطواتها، التي اتخذت سابقاً والبدء بإرسال رسائل إيجابية الصادرة حيال علاقتها بالقاهرة، بلغت قمتها في الثامن عشر من أيلول، حين قررت تركيا إجبار المحطات المعارضة المصرية، والتي تبث من أراضيها على إيقاف أي هجوم على النظام المصري ورئيسه، وهو ما يمثل نقطة تحول وهناك من يرى القرار التركي انعكاسا للقرار، الذي اتخذته حليفتها قطر سابقاً بتعديل خطابها نحو مصر.
هناك عدة تفسيرات لقرار أردوغان بإسكات المحطات التابعة لجماعة الإخوان المسلمين المعارضة للحكومة المصرية هذا النوع من الرسائل جاء بعد استبعاد مصر لأنقرة من منطقة الجرف القاري، التي تدعي تركيا ملكيتها من تعاقدها مع شركات التنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة لها في البحر المتوسط.
هذا التفسير، وإن كان يحفظ ماء وجه أردوغان، ولا يظهره بمظهر المهرول لأن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر مع اليونان، لم تتضمن منطقة “الجرف القاري”، حيث اكتفى الطرفان بتوقيع اتفاق جزئي خاصا بهما، تاركين المناطق المتنازع عليها مع الجانب التركي لجولات قادمة وعليه فما فعلته مصر لا يعدو كونه تحركاً في نطاق اتفاقها المبرم مع اليونان في تشرين الأول ٢٠٢٠.
إلا أن أردوغان ضحى بماء وجهه، وعاد مهرولاً لاستمالة مصر لتوقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية معه، مثل تلك التي وقعتها معه حكومة الوفاق الليبية في تشرين الثاني ٢٠١٩ وبذلك تعزز دولة الاحتلال التركي موقفها في مواجهة قبرص واليونان، وتضمن مكاناً لها في منتدى غاز شرق البحر المتوسط، الذي دشنته مصر وضم: مصر، والأردن، وفلسطين، وإسرائيل، واليونان، وقبرص، وإيطاليا، ويهدف هذا المنتدى إلى التنسيق بين الدول المنتجة للغاز والدول المستوردة له، وبالطبع كان غياب تركيا عن المنتدى واضحا.
ورغم الرسائل من أردوغان ونظام العدالة والتنمية المتكررة التي تظهر استعداد أنقرة للتسوية مع مصر وقرارتها الأخيرة بمنع معارضي السيسي في الخارج من مهاجمته، أو التطاول عليه، ما سيجنب السيسي صداعا دائما لطالما تحدث عنه، إلا أن القاهرة حتى الآن تتعامل مع الرغبة التركية في التقارب بفتور.
نظراً لاحتضان نظام أردوغان الآلاف من أعضاء الجماعة التي صنفت إرهابياً بأحكام قضائية نهائية، وصدر قرار بحل حزبها الحرية والعدالة، كما سمحت ببث عدد من القنوات المناهضة للنظام السياسي المصري على مدى عقد كامل قبل أن تقرر البدء في إغلاقها مطلع 2021.
بدأت الاتصالات الدبلوماسية المعلنة بين القاهرة وأنقرة منذ آذار 2021، وهي الاتصالات التي جاءت باكورتها في ترتيب المحادثات الاستكشافية الأولى بين مسؤولي الخارجية في البلدين خلال أيار من العام نفسه، وعقدت خلالها أربع جلسات بين البلدين.
وتصافح الجانبان أردوغان والسيسي للمرة الأولى على هامش حضورهما افتتاح كأس العالم لكرة القدم في تشرين الثاني 2022، وهي المصافحة التي تبعتها زيارة وزير الخارجية المصري لأنقرة لتقديم الدعم في أعقاب الزلزال المدمر مطلع العام الماضي.
ومهدت زيارة وزير خارجية دولة الاحتلال السابق جاويش أوغلو للقاهرة في أيار الماضي، الطريق أمام استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بعدها بشهرين فقط، مع تبادل السفراء، ليعقد أول لقاء قمة بين السيسي وأردوغان في نيودلهي على هامش قمة العشرين في نسختها الأخيرة.
أردوغان ومحاولات التعويم من البوابة الاقتصادية
تحولات دراماتيكية؛ جرت في الآونة الأخيرة وهو يندرج في سياق الهرولة، التي أجراها أردوغان ونظامه تجاه مصر خصوصاً بعد أن تم استبعاده من عديد الملفات الاقتصادية، التي قد تشكل له نكسة كبيرة على الصعيد الاقتصادي لذا سعى على الفور لتعظيم حجم الاستثمارات المشتركة بينهما وتنويع مجالاتها، وإن كان السعي المصري لجلب المزيد من الاستثمارات التركية يفوق السعي التركي في هذا النطاق، وهو ما استغله أردوغان خير استغلال لتمرير أطماعه من البوابة المصرية.
الطرفان المصري والتركي أجريا بهذا السياق عدداً كبيراً من المباحثات بشأن ضخ المزيد من الاستثمارات التركية، وكان أهمها تلك المباحثات، التي عقدت برئاسة الهيئة العربية للتصنيع في خلال شهر كانون الأول لمناقشة إمكانية مشاركة الجانب التركي في مشروع تصنيع إطارات السيارات وتدويرها.
وتلك التي عُقِدَت بشكل متكرر بين مسؤولي قطاع الطيران المدني بالبلدين منذ كانون الثاني الماضي لمناقشة إمكانية مشاركة الجانب التركي في تطوير قطاع الطيران المدني المصري، وأيضاً تلك المباحثات التي دارت بين وزير الصحة المصري وعدد من المسؤولين ورجال الأعمال الأتراك لبحث إمكانية ضخ استثمارات في قطاع الصحة؛ لاسيما في مجال الأطراف الصناعية وزراعة الأعضاء والسياحة العلاجية.
فنظام دولة الاحتلال أدرك عام 2020 أن سياساته أدت إلى زيادة قوة اليونان وقبرص في شرق المتوسط، لذا بدأ العمل على مشروع للمصالحات مع الدول التي شاب العلاقات معها في السابق خلافات قوية، انطلاقاً من الإمارات، فالسعودية، ثم إسرائيل، واليونان، ووصولاً إلى مصر.
ولعل أكثر ما أقلق أردوغان هو زيادة التعاون بشكل كبير بين القاهرة واليونان للوصول إلى التعاون العسكري، وتسعى أنقرة هنا إلى تحييد القاهرة في ملف شرق المتوسط أو الحصول على دعمها في هذا الملف إن أمكن، وأدرك أردوغان حينها أن العلاقات بين القاهرة وكلٍّ من اليونان وقبرص قديمة ومُتجذّرة، لذا سعى لبذل المزيد من الجهد لموازنة الثقل اليوناني-القبرصي في القاهرة، ومن هنا جاء العرض التركي ببيع مُسيَّرات عسكرية إلى مصر.
وفي تصريحاتٍ خاصة لصحيفتنا أكد نائب رئيس قسم الشؤون العربية والدولية بمركز سعود زايد للدراسات الدكتور محمد اليمني: “رجب أردوغان ينظر من قريب أو من بعيد إلى منتدى البحر المتوسط ويتعامل مع الملف من ناحية براغماتية للاستفادة منه ودون إعادة علاقاته مع مصر لن يحقق أي نتائج؛ لذلك تابعنا هذا التراجع الذي طفا على السطح والهرولة لإعادة العلاقات وترميم السياسات الخاطئة”.
زيارة السيسي… خطوة لوضع اللمسات الأخيرة
الزيارة التي أجراها السيسي إلى تركيا للقاء أردوغان في أيلول 2024 هي الأولى، منذ توليه الرئاسة بمصر وجاءت بغرض وضع اللمسات الأخيرة لتعزيز سبل إصلاح العلاقات بينهما خلال محادثات في أنقرة، وهذه الزيارة تحدث بها رجب أردوغان أن هذه الخطوات ستحمل معها طريقة تفكير مربحة للطرفين، وأنهم سيدفعون بعلاقاتهم المتعددة الأبعاد إلى الأمام ولم يخفِ أردوغان توجهه بضرورة تعزيز العلاقات مع مصر في مجالي الغاز الطبيعي والطاقة النووية.
وهو ما حدث بالفعل، حيث وقع وزراء الجانبين 18 مذكرة تفاهم بشأن التعاون في مجالات شتى منها الطاقة، والسياحة، والصحة، والزراعة، والتمويل، والثقافة، والتعليم، والنقل، وفي مجملها تحمل أبعاداً اقتصادية حيث تحدث عنها أردوغان بالقول: إنه يرغب في زيادة التجارة السنوية بينهما بمقدار خمسة مليارات دولار لتصل إلى 15 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة.
الدكتور محمد اليمني أضاف: إن “هناك هدفاً للنظام التركي، فهو يتعامل بطريقة براغماتية قائمة على المنفعة فتركيا رأت أن العداوة فاقت كل شيء في الأونة الأخيرة، فهذه العداوة على مدار عشر سنوات أو أكثر فاقت الحد، ولم تحقق نتائج إيجابية لأحد منهما لذلك عملت على استدارة جذرية وبدت تبحث عن استرضاء مصر”.
فالاقتصاد شكل أكثر المجالات الكاشفة عن التطور الحاصلة بين الجانبين خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة، وظهر ذلك في عدد من المؤشرات، أبرزها ارتفاع حجم التبادل التجاري بينهما خلال عام 2023، والربع الأول من عام 2024، لمستويات هي الأعلى منذ توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين في عام 2005.
فبخلاف الغاز والمنتجات البترولية، بلغ حجم التبادل التجاري للمنتجات السلعية عام 2023 نحو 5.875 مليار دولار بلغ حجم صادرات مصر 2.934 مليار دولار بينما بلغ حجم الواردات 2.941 مليار دولار، في حين بلغ إجمالي حجم التبادل التجاري بين مصر وتركيا في عام 2023، شاملاً الغاز المسال والمنتجات البترولية، نحو عشرة مليارات دولار حيث يُلاحَظ اختلاف التقديرات بشأن حجم الاستثمارات التركية المباشرة في مصر، كما بلغ حجم التبادل بين الدولتين في خلال الربع الأول من العام الجاري 2024 نحو 1.746 مليار دولار بلغ حجم صادرات مصر 874 مليون دولار، بينما بلغ حجم وارداتها 872 مليون دولار، لتحتفظ مصر بمركزها كأول شريك تجاري لتركيا في أفريقيا.
فاليوم هذه المساعي تندرج في سياق محاولات التعويم عربياً وأفريقياً من البوابة الاقتصادية، التي يقامر بها الجانبان على الرغم من الخلافات الجوهرية، التي حكمت العلاقة فيما بينهما لسنواتٍ عديدة لكن كلا الجانبين اليوم مضطر لتحسين واقعه الاقتصادي الذي يؤكد مراقبون انه مهما تطورت العلاقات ستكون علاقات هجينة آيلة للسقوط في أي لحظة.
ومن هنا يتبين ما الذي يبحث عنه أردوغان أو كما يصفه البعض بالتاجر العثماني الجديد؛ فما لم يتمكن من تحصيله بالقوة اليوم يحاول تحصيله بالدبلوماسية المراوغة فالحال في مصر كحال العراق التي أبرم معها عديد من الاتفاقيات بعد أن فشل في احتلال أراضٍ من باشور، ومناطق أخرى في العراق فمراوغة أردوغان اليوم باتت مفضوحة ومحاولات تعويمه عربياً من البوابة المصرية باتت مكشوفة.