مع تغير كبير في الميدان الأوكراني والثغرات الروسية الحاصلة على صعيد العمليات العسكرية في الحرب الأوكرانية بعثت بمؤشرات كبيرة مفادها، أن موسكو بدأت تغرق في “المستنقع الأوكراني” الذي حول روسيا تحت قيادة بوتين إلى حليف أقل قيمة للدول الأخرى بعد أن خسر بوتين سمعته كاستراتيجي عسكري ناجح، بسبب الإخفاقات التي يعاني منها الجيش الروسي بوجه القوات الأوكرانية المدعومة من الناتو بشكلٍ كبير.
فإطالة الحرب الأوكرانية، أفقد موسكو قدرتها على إخماد الصراعات بين الدول السوفياتية السابقة المجاورة ووضعها في مواجهة مشكلة كبيرة لجهة تلبية طلبات شراء السلاح نظرا للحاجة المتزايدة لها في الميدان، وتعطل قدرتها على إنتاج الأسلحة المتطورة بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليها.
التقدم الأوكراني داخل روسيا قلب الموازين
منذ أن اندلعت الحرب قبل أكثر من 30 شهراً لم تتلقَ موسكو صفعةً أكبر من تلك التي وجهتها كييف من خلال شنها هجوماً مفاجئاً استولت خلاله على أراض من منطقة كورسك، ولا يزال الهجوم الأوكراني مستمرا داخل روسيا، فبدلاً من الحديث عن الإنجازات التي يُحدثها الجيش الروسي داخل أوكرانيا تابعنا مؤخراً أن بوتين يتحدث عن ضرورة “إجبار العدو على الانسحاب من الأراضي الروسية”، وعلى الرغم من نشر التعزيزات في منطقة كورسك، لم يتمكن الجيش الروسي السيطرة على هذا الجزء من روسيا.
ويعدُّ التوغل في كورسك تحدياً واضحاً للسلطات الروسية ولحظة من اللحظات المفصلية في عمر الحرب الروسية الأوكرانية، التي تضاف لقائمة التحولات الدراماتيكية على رأسه ما حصل في عام 2022 عندما أغرقت أوكرانيا السفينة الحربية موسكفا، السفينة الرائدة لأسطول البحر الأسود الروسي.
ومرة أخرى بعد بضعة أشهر من الانسحاب السريع للقوات الروسية من شمال شرق أوكرانيا إلى جانب ما حدث عام 2023 أثناء تمرد فاغنر، عندما كانت المرتزقة المسلحة تزحف نحو موسكو، وهو تحدٍ مباشر لسلطة فلاديمير بوتين لكن كل ذلك تم تجاوزه من السلطات الروسية فهل ستتمكن من تجاوز عقبة كورسك أيضاً؟ يتساءل مراقبون.
فبعد عامين ونصف العام من هذه الحرب، لا توجد أي علامة تذكر على “الأمن والأمان” خصوصاً مع إصرار موسكو على الاستمرار بحربها ضد كييف المدعومة من الغرب، وأيضاً هناك المزيد من دول حلف الناتو على حدود روسيا، بعد أن انضمت السويد وفنلندا إليه، كما أن المدن الروسية تتعرض لهجمات الطائرات بدون طيار الأوكرانية المنتظمة، والآن يستولي الجنود الأوكرانيون على الأراضي الروسية كل هذه عوامل تفيد بأن انهاء الصراع لن يكون بالأمر اليسير حالياً.
حالة من الهيستيرية اجتاحت موسكو، التي وجهت سيلاً من الانتقادات الحادة للغرب بشأن التوغل الأوكراني في الأراضي الروسية، وذلك خلال اجتماع “متوتر” مع كبار مسؤوليه يعكس كيف أربك الهجوم المفاجئ الكرملين، الذي حمل في طياته هدفين رئيسيين أولهما سحب القوات الروسية من خطوط المواجهة في شرق أوكرانيا، وثانيها الاستيلاء على أراض يمكن استخدامها ورقة مساومة في مفاوضات السلام المستقبلية.
وفي نهاية المطاف بات الساسة الروس يؤكدون أن الهجوم الأوكراني بأنه “استفزاز” وأنه سبب من أسباب تأجيل فكرة محادثات السلام، علماً أنه لم يكن الروس يوماً منخرطين في محادثاتٍ جادة للسلام، وكانوا يفاوضون تحت النار لكن على ما يبدو أن هجوم كورسك قلب موازين الميدان وطاولة المفاوضات بحسب متابعين.
أوراق ضغطٍ لفرض السلام
سكان كورسك بينوا إنهم صُدموا من تطور الأحداث، رغم وجود تكهنات منذ فترة طويلة بأن أوكرانيا قد تهاجم لكن هذه هي المرة الأولى، التي تستولي فيها القوات الأوكرانية على موطئ قدم في الأراضي الروسية؛ ما أسفر عن فرار أكثر من 121 ألف شخص من المنطقة الحدودية، وأن السلطات تعمل على إجلاء 59 ألفا آخرين.
وكان التوغل في الأراضي الروسية، بعيدا عن خط المواجهة، وسريا لدرجة أن بعض الجنود الأوكرانيين والمسؤولين الأميركيين، قالوا إنهم لم يكونوا على علم به مسبقا، أما من الناحية العسكرية فيبدو أن روسيا كانت تعيد نشر وحدات من مستوى أدنى إلى منطقة كورسك، وهو ما استغلته كييف بعملياتها المباغتة.
وحذر مسؤولون روس من أن توغل أوكرانيا قد يتوسع في منطقة بيلغورود المجاورة بعد أن شكل التوغل في روسيا تحولا كبيرا في مسار الحرب، منذ إطلاق الكرملين عملياته العسكرية داخل الأراضي الأوكرانية في شباط عام 2022، وسعي القوات الروسية لفرض سيطرتها على أكثر من 18 بالمائة من أوكرانيا.
وفشل هجوم أوكراني مضاد العام الماضي، وكانت الحرب في الغالب صراعا في شرق البلاد، مع تقدم القوات الروسية أحيانا بضعة كيلومترات لتنخفض بذلك المعنويات الأوكرانية وتزايد الضغط على القادة الأوكرانيين للتفاوض على اتفاق، لكن هجوم كورسك وضع أوكرانيا في موقف قوي نسبياً للدخول في عملية تفاوضية.
وهو ما بينه الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي عندما شدد على أن هجوم كورسك كان “مسألة أمنية” لأوكرانيا بسبب الضربات الروسية، التي تستهدف أراضيها داعياً الغرب إلى السماح باستخدام الصواريخ بعيدة المدى لضرب الأراضي الروسية، قائلا: “يجب إرغام روسيا على السلام”.
من جهته كشف رئيس القوات المسلحة الأوكرانية، الجنرال أولكسندر سيرسكي، عن أن السيطرة على أكثر من ضعف المساحة، التي ذكرها المسؤول الروسي، “حوالي 1000 كلم مربع” وهذا ما يعدُّ ورقة بيد كييف تساوم عليها الجانب الروسي في أي مفاوضات قادمة.
لكن موسكو تشكك في نوايا الدول الغربية التي تتعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية من باب تحقيق المصالح، وتجنب أقل الأضرار حيث يشهد على ذلك أن قوات حلف الناتو لم تنخرط بشكل مباشر في العمليات العسكرية لصالح أوكرانيا وإنما يقوم دورها أساسًا على تقديم الدعم العسكري بالسلاح والعتاد والآليات المتطورة نوعًا ما.
يقول خبراء عسكريون، إن حالة الحرب غير المباشرة التي يقوم بها الغرب، تحقق أهدافه في استنزاف قوى روسيا لضمان السيطرة في أوروبا والمنطقة الشمالية من العالم، دون نزاع سيادة، يتوافق ذلك مع مصالح الولايات المتحدة التي ترى في موسكو التهديد الأول لمكانتها كمتربعة على كرسي “القطب الأوحد” عالميًا.
الخبراء العسكريون أكدوا أن حل الصراع في أوكرانيا لن يأتي عبر الآلة العسكرية فالنصر على روسيا، لن يتم في وقتٍ لا يزال للسلاح الصوت المسموع في دوائر السياسة الروسية والأوكرانية، المؤشرات كلها تصب في صالح نجاحات واسعة لروسيا وخطوات هامة لكييف بعد التوغل في كورسك لذا فإن الطرفين لا زالا يراوحان مكانهما فيما تتصاعد المخاوف من استمرار الواقع على ما هو عليه من الشد والجذب.
مخاوف من كارثة نووية
الحادث الذي وقع في محطة زابوريجيا للطاقة النووية مثير للقلق بالفعل بحسب تقييم خبراء في مجال الطاقة النووية، الذين أكدوا بأن روسيا كما هو الحال للدول الغربية بذلت كل ما في وسعها لمنع الوضع من الخروج عن نطاق السيطرة، لكن خطر استخدام الأسلحة النووية لن يكون مرتفعًا إلا إذا كانت روسيا في وضع تعتقد فيه أنها تخسر الحرب.
خبراء يرون أن الهجوم الأخير على المحطة يستهدف إعادة النظر، وإثارة المخاوف بشأن الكارثة النووية معتبرين في الوقت ذاته، أن إرسال مسيرات أوكرانية للمحطة في حد ذاته ابتزاز لروسيا وتصعيد مخاوف حدوث الكارثة النووية، التي تعد انتحاراً للجميع وستكون مغامرة خطيرة لإيجاد جو من التوتر بين روسيا والغرب.
في وقتٍ بينت الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، والتي تراقب منشأة زاباروجيا النووية الضخمة ذات المفاعلات الستة، إن خبراءها شاهدوا دخاناً كثيفاً ينبعث من المنطقة الشمالية للمحطة الواقعة جنوب أوكرانيا بعد سماع عدة انفجارات، وأنه لم يكن هناك أي تأثير على السلامة النووية في الموقع، وقالت: لا تزال مؤشرات الإشعاع طبيعية.
هذه التصريحات أثارت مخاوف دول غربية بينما تبادلت موسكو وكييف الاتهامات بعد اندلاع الحريق قرب المحطة، لكن كلا الجانبين لم يبلغا عن ظهور أي علامة تؤشر على ارتفاع مستوى الإشعاع، وكالمعتاد وجه الرئيس الأوكراني زيلينسكي أصابع الاتهام إلى روسيا بإشعال الحريق فيما رد يفغيني باليتسكي، وهو مسؤول معين من روسيا في الجنوب الأوكراني، باتهام قوات كييف بالتسبب في الحريق إثر قصفها مدينة إنير هودار القريبة، والتي تخضع للسيطرة الروسية منذ شباط 2022.
لكن إذا استمرت القوات الأوكرانية بإصرارها على الدخول لضواحي كورسك، هو إشعال للوضع في محطة روسية للطاقة الذرية، وقد يكون أحد أهم أهداف الوصول لهذه المحطة، هو المساومة على تلك المحطة للضغط على روسيا وكورقة للتفاوض المستقبلي.
لذا سارعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية الى مناشدة روسيا وأوكرانيا لممارسة أقصى درجات ضبط النفس مع اقتراب القتال من محطة كورسك للطاقة النووية إحدى أكبر المنشآت النووية في روسيا، والتي تقع محطة كورسك للطاقة النووية على بعد حوالي 60 كيلومترا شمال شرق سودزا.
وبالتالي بات الضغط على المنشأة النووية مبعث قلق عميق لدى طرفي الصراع والمجتمع الدولي الذي يتخوف من أي تسريبٍ نووي أو كارثة لا تحمد عقباها، وهو ما بينته دعوة رئيس الوكالة الدولية رافائيل غروسي عندما طالب بضرورة اتخاذ تدابير “لتجنب وقوع حادث نووي مع احتمال حدوث عواقب إشعاعية خطيرة”.
ومع هذه المعطيات تبقى بعض دول أوروبا الشرقية على يقين بأن مواجهة أي حرب نووية هي أمر محتمل الحدوث مع اقتناعها بإمكانية تحول التهديدات النووية الروسية إلى حقيقة، في ضوء طول أمد الحرب وتصعيد الغرب لهجته ضد روسيا بشأن الردع النووي، واستمرار دعمه العسكري لأوكرانيا، ونظراً لعدم امتلاكها أي أسلحة نووية، فهي تعد الدول الأكثر تشجيعاً لقيادة فرنسا وبريطانيا لأوروبا في الردع النووي، ولنشر الناتو مزيد من الأسلحة التكتيكية بأوروبا.
لذا فإن الحرب في أوكرانيا باتت تشكل عامل ضغط على أوروبا بعد أن طالت أكثر من اللزوم ما يهدد باستنزاف دول القارة وخاصة الدولة المنخرطة بشكل المباشر في التمويل والتسليح، لكنّ الأوروبيين لا يريدون أن تنتهي هذه الحرب إلى فائز أو خسائر وفوز روسيا وفق ما تشير إليه المجريات ستكون له تأثيرات كبيرة أوروبيا.
وكان زيلينسكي قد بين أنّ الغربيّين يمنعون أوكرانيا من استخدام الأسلحة التي زوّدتها بها أوروبا والولايات المتحدة، من أجل ضرب الأراضي الروسيّة مبرهناً أن الروس يمكنهم استهداف الأوكرانيين انطلاقا من أراضيهم، وهذا أكبر تفوّق تتمتّع به روسيا، ولا يمكنهم استخدام الأسلحة الغربية للقيام بالفعل ذاته لأنه ليس لديهم الحقّ في القيام بذلك مؤكدا أنه اشتكى من ذلك مجددا هذا الأسبوع إلى وزير الخارجيّة الأميركي أنتوني بلينكن.
ويبقى هاجس أطراف الصراع الروسي الأوكراني هو من سيصل في نهاية المطاف إلى البيت الأبيض في الانتخابات القادمة، وما تتخوف منه أوروبا أن يكون لإمكانية وصول دونالد ترامب لسدة الحكم تأثيره على دور الناتو الدفاعي معضلة أمام أوروبا بانتظار ما ستسفر عنه الحالة المتوترة على الساحتين الدولية والإقليمية وإصرار موسكو وكييف على الاستمرار بلعبة عض الأصابع حتى النهاية.
بدورها، قالت نقلت وكالة الأنباء الروسية عن شركة روساتوم قولها إن “تصرفات الجيش الأوكراني تشكّل تهديداً مباشراً” لمحطة كورسك للطاقة النووية في غرب روسيا بالقرب من الحدود مع أوكرانيا، مضيفةً أنه “في الوقت الحالي، هناك خطر حقيقي من وقوع ضربات واستفزازات من جانب الجيش الأوكراني”.