على مدى عقود جعلت أنقرة علاقاتها السياسيّة مع العراق وسوريا رهن اتفاقات أمنيّة، تستهدف من خلالها التضييق على الكرد في البلدين، وتربط أنقرة العديد من الملفات بالجانب الأمنيّ وفي مقدمها مسألة تقاسم حصص المياه من نهري دجلة والفرات، ولا تتصف الاتفاقات المعقودة بالتوازن والندية إذ تخوّل الجيش التركيّ بصلاحيات احتلال وتدخل في عمق أراضي دول الجوار وانتهاكِ السيادة الوطنيّةِ بمزاعم أمنيّة، ولتكرس ضمناً سياسة تصدير مشكلتها الديمقراطيّة في الداخل واستمرار الممارسة الفاشية ضد الكرد.
لا ندية ولا توازن في الاتفاق
في مشهد مفارقة مثير للسخرية وقف وزير خارجية دولة الاحتلال التركي هاكان فيدان إلى جانب وزير الخارجية العراقيّة فؤاد حسين وكلاهما من أصول كرديّة ليعلنا للإعلام أنّ توصل بلديهما إلى اتفاق أمنيّ يتم بموجبها التضييق على الكرد بمزاعم أمنيّة واهية، إذ أنّ حلّ القضية الكرديّة هو رهن تطبيق قواعد الديمقراطيّة والشراكة والوطنيّة.
في 15/8/2024 وقع وزيرا الدفاع العراقيّ والتركيّ اتفاقاً أمنيّاً مشتركاً، وعقب ذلك قال فيدان في مؤتمر صحفيّ مع نظيره العراقيّ فؤاد حسين: إنّ تركيا وقعت مذكرة تفاهم مع العراق للتعاون العسكريّ والأمنيّ ومكافحة الإرهاب بعد يومين من محادثات أمنيّة رفيعة المستوى في أنقرة. وأشار إلى أنّه ذو “أهمية تاريخيّة”، وقال حسين إنّه الأول من نوعه في تاريخ العراق وتركيا. وقال فيدان “من خلال مراكز التنسيق والتدريب المشتركة المزمعة في إطار هذه الاتفاقية، نعتقد أننا قادرون على نقل تعاوننا إلى مستوى أعلى”. وأضاف “نريد تعزيز التفاهم الذي نعمل على تطويره مع العراق في مكافحة الإرهاب باتخاذ إجراءات ملموسة على الأرض”.
وقال مصدر دبلوماسي تركي: إن الاتفاق يقضي بإنشاء مركز مشترك للتنسيق الأمني في بغداد إلى جانب مركز تدريب وتعاون مشترك في بعشيقة، بمحافظة نينوى في باشور كردستان “شمال العراق”. وقال حسين في حديثه عن معسكر التدريب في بعشيقة، إن المسؤولية تقع على عاتق القوات المسلحة العراقيّة، دون الخوض في تفاصيل.
وقال وزير الدفاع التركيّ يشار غولر لرويترز الاثنين 12/8/2024، إنّ الإجراءات التي اتخذتها تركيا والعراق في الآونة الأخيرة لمكافحة الإرهاب تمثل نقطة تحول في العلاقات، وأضاف أنّ أنقرة تريد من بغداد أن تقدم على خطوة أخرى وتصنّف حزب العمال الكردستانيّ منظمة إرهابيّة في أقرب وقت ممكن.
تمهّد الاتفاقية الأمنية، التي وقعتها حكومة محمد شياع السوداني مع أنقرة الطريق لإضفاء شرعيّة على الوجود العسكريّ التركيّ على الأراضي العراقيّة. وكانت آخر خطوة في هذا الإطار الاتفاق على إنشاء مركز تنسيق أمنيّ مشترك في بغداد ومركز آخر للتدريب والتعاون في مدينة بعشيقة بهدف محاربة الإرهاب.
من شأن هذا الاتفاق أن يمنح جيش الاحتلال التركيّ مزيداً من المرونة في التحرك والانتشار، مقابل أنّه يمنع أيّ مسعى عراقيّ احتجاجي رافضٍ له، سواء عبر مواقف سياسيّة من مسؤولين حكوميين أو اعتراضات ممثلي الكتل والأحزاب وحتى داخل البرلمان.
العلاقات التركيّة العراقيّة تحسنت العلاقات منذ العام الماضي بعد الاتفاق على إجراء محادثات رفيعة المستوى حول المسائل الأمنية، وبعد زيارةّ أردوغان إلى بغداد في 22/4/2024، وتم التوقيع حينها على “اتفاقيّة الإطار الاستراتيجي” وتشكيل مجموعة تخطيط مشتركة، وقال أردوغان حينها، إنّ العلاقات دخلت مرحلة جديدة، وهو كلام فضفاض جداً، فأنقرة لا تعتمد مع دول الجوار سياسة نديّة على قدم المساواة.
فيما قال رئيس الوزراء العراقيّ محمد شياع السوداني من دون أدنى إشارة إلى مسألة الوجود التركيّ على الأراضي العراقيّة: إنّهما اتفقا على التعاون الأمنيّ الذي من شأنه أن يحقق استقرار البلدين، مضيفاً: “نتمسك بعدم السماح لأيّ قوة أن تستخدم أرض العراق منطلقاً للاعتداء على الجوار”، وهو ما يعني ضمناً أنّ الاتفاقية الأمنيّة كانت في اتجاه واحد، أي لصالح تركيا، وهو لم يُقابل بأيّ تعهد تركيّ، مع ثبات حقيقة أنّ الحدود التركيّة لطالما كانت معبراً للإرهابيين إلى سوريا والعراق، وبذلك فالاتفاق يفتقر معايير التوازن والنديّة.
شرعنة الاحتلال التركيّ
في 16/8/2024 نشرت صحيفة العرب تقريراً حول الاتفاق الأمني تحت عنوان “الاتفاقية الأمنية تشرّع للوجود العسكري التركيّ على أراضي العراق” وقالت الصحيفة: “حكومة السوداني تتعامل مع الموضوع الأمني دون تروّ، وتبحث فقط عن تحصيل مكاسب آنية من خلال سيرها وراء سياسات تركيا في التضييق على سكان المناطق الحدودية”.
قالت الصحيفة: إنّ حكومة السوداني تتعامل مع الموضوع الأمني دون تروّ، وأنها تبحث فقط عن تحصيل مكاسب آنية من خلال سيرها وراء سياسات تركيا في التضييق على سكان المناطق الحدودية. لكنها لم تحصل بعد على ما تريده خاصة في موضوع المياه. وبمرور الوقت قد تجد الحكومة العراقيّة نفسها في مأزق بسبب سياسة استهداف كيانات عراقية من الكرد والإيزيديين، وبعضهم منضوٍ تحت لواء الحشد الشعبي، وتشكل للدفاع عن قرى عراقية في مواجهة داعش.
ومع توسع التدخل التركيّ بضوء أخضر عراقي يشعر أهالي المناطق الحدودية بالخوف من سقوط القذائف على منازلهم، واضطر بعضهم للنزوح إلى قرى أخرى لم يصلها القصف. وكانت الحكومة العراقيّة يمكنها اتخاذ ما تشاء من إجراء في سياق التشدد في موقفها إزاء حزب العمال على أراضيها استرضاءً لأنقرة، ولكن ليس لدرجة مجاراة المطالب التركيّة في التضييق على مواطنين عراقيين لمجرد وجودهم في مناطق الاشتباك المسلح.
الاتفاق جاء بعد سنوات عجزت خلالها أنقرة من إلحاق الهزيمة بمقاتلي حزب العمال الكردستانيّ ولتكشف أنّ كلّ ادعاءاتها بتحقيق إنجازات عسكريّة مجرد فقاعات إعلاميّة، والمسألة الأكثر أهميّة أنّ حزب العمال يحظى بقاعدة شعبيّة وجماهيريّة في المناطق الكرديّة في البلدين. وأمام هذا العجز لجأت أنقرة إلى عقد اتفاق مع الحكومة العراقيّة لتعمل معها على محاصرة الكرد الداعمين لحزب العمال الكردستانيّ.
والمفارقة أن بغداد؛ منحت أنقرة هدية ثمينة بخصوص بعشيقة حيث تتمركز قاعدة عسكريّة ترفض تركيا إزالتها رغم محاولات عراقيّة كثيرة سابقة، وتحويلها إلى مركز تدريب ولو شكليّاً يرفعُ الحرج عن الحكومة التركيّة ويضفي مزيداً من الشرعيّة على أنشطة قواتها خاصة بعد الخطوات الخاصة بحظر بغداد أحزاباً عراقيّة ممثلة لسكان المناطق الحدوديّة، وما ستوفره للعسكريين الأتراك من أرضيّة تحرك دون ضوابط.
بغداد تجاوزت المجاملة للرضوخ
في 6/8/2024 أعلن مجلس القضاء الأعلى العراقيّ حظر أنشطة ثلاثة أحزاب هي “الحرية والديمقراطية الإيزيدية”، و”جبهة النضال الديمقراطي” و”حرية مجتمع كردستان”، ومصادرة ممتلكاتها بذريعة الولاء لحزب العمال الكردستانيّ. ووفقاً للحكم الصادر عن محكمة الهيئة القضائية للانتخابات، تقرر حل الأحزاب السياسيّة الثلاثة، وإغلاق مقراتها، ومصادرة أموالها بعد استنفاذ طرق الطعن القانونية عملا بحكم المادة (46/ثالثا) من قانون الأحزاب السياسيّة. وصدر القرار بالاتفاق قابلاً للطعن بتاريخ 1/8/2024.
وهنا وجه المفارقة القانونيّ، فهذه الأحزاب حصلت على اعترافٍ حكوميّ رسميّ يمنحها صلاحية المشاركة في الانتخابات وفق معايير قانونيّة عراقيّة، ثم تعلن الحكومة العراقيّة دون سابق إنذار بحلها ومصادرة أمواله وممتلكاته إرضاء لأنقرة، لتكون مطالب أنقرة أولى بالتنفيذ من القانون العراقيّ على الأراضي العراقيّة.
ووفق مراقبين؛ فإنّ من شأن إجراءات التضييق، التي تتخذها الحكومة العراقيّة ضد كيانات عراقية أن تدفعها للتعاون مع حزب العمال الكردستانيّ للدفاع عن مناطقها، وستكون يوماً مضطرةً للاشتباك مع القوات العراقيّة إذا أصرت على تنفيذ مطالب أنقرة.
وفي سياق المجاملة العراقيّة لأنقرة، بادرت السلطات العراقيّة في20/3/2024 قبل زيارة أردوغان إلى بغداد بشهر، إلى تصنيف حزب العمال الكردستانيّ تنظيماً محظوراً في البلاد، ووجّه رئيس الحكومة الاتحادية العراقيّة محمد شياع السوداني، باعتماد كلمة “المحظور” في الخطابات الحكوميّة التي يرد فيها اسم حزب العمال الكردستانيّ. ودعّم مجلس الوزراء في تموز الماضي هذا القرار بإصداره تعليمات إلى هيئات الدولة الرسميّة تقضي باعتماد صفة “التنظيم المحظور” في خطابها الرسميّ بشأن الحزب.
وأشاد السفير التركيّ في بغداد أنيل بورا أنان بالقرار العراقيّ وقال: إنّ “العمليات الجارية لجيش بلاده في إقليم كردستان العراق تتم في إطار الاحترام الكامل لوحدة أراضي العراق”.
احتلال بتوصيف أمنيّ
يدرك المسؤولون العراقيّون وعموم المواطنين في إقليم كردستان ما تعنيه الاتفاقيّة “الأمنيّة” وما مآلاتها، فالاتفاقية جعلت أراضي الإقليم مستباحة أمام جيش الاحتلال التركيّ بعد تأطير العدوان التركيّ بالاتفاق، بالمقابل؛ فإنّ حكومة بغداد ومعها حكومة هولير تنازلتا بالحقوق السياديّة للكيان الوطنيّ، وأضحت عشرات القواعد العسكريّة التركيّة شرعيّة، ولن يكون بوسع بالمواطنين العراقيّين، وخاصة الكرد الانتقال في مناطقهم إلا عبر حواجز ونقاط أمنيّة تركيّة.
يؤكد قيام جيش الاحتلال التركيّ ببناء قاعدة عسكريّة جديدة له في قضاء العمادية بمحافظة دهوك على نية تركيّة احتلالية داخل الأراضي العراقيّة، الأمر الذي يفترض موقفاً حكوميّاً حازماً، وخاصة أنّ المسؤولين الأتراك لا يخفون نواياهم في تثبيت الوجود العسكريّ لبلادهم بشكل دائم مع اختلاف في التسميات بين “الطوق الأمني”، و”الحزام الأمني، و”الممر الأمني”، وكلها تسميات لهدف واحد.
وقال أردوغان قبل زيارته إلى بغداد في 22/4/2024، إنّ “بلاده بصدد إتمام الطوق الأمنيّ لتأمين الحدود التركيّة مع العراق”، وأضاف “أوشكنا على إتمامه، وخلال الصيف القادم سنكون قد قمنا بحل هذه المسألة بشكل دائم”، وأن “تركيا لا تزال مصممة على المضي قدما في إنشاء حزام أمني بعمق 30 – 40 كم على حدودها”.
وقال وزير الدفاع التركيّ يشار غولر على هامش زيارته إلى العراق، إن بلاده في حاجة الآن إلى الانتقال إلى مرحلة أخرى، وإنه بعد الانتهاء من عملية “المخلب القفل” صيف عام 2024، سيتم توسيع العمليات لتشمل المناطق التي تحتاج إليها. وأضاف أن الهدف هو “إنشاء ممر أمني لوقف الهجمات ضد تركيا من هذه المنطقة بشكل كامل”.
القوات التركيّة تعدُّ قوات احتلال وفق القوانين الدولية كلها، ويجب الضغط على المجتمع الدولي لإنهاء هذا الاحتلال، والعراق يحق له اتخاذ الخطوات الممكنة والمتاحة له لإخراج تلك القوات، التي بدأت تتوسع باحتلال الأراضي العراقيّة. وعلى مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية أقامت تركيا قواعد عسكرية في شمالي العراق، تقدر بالعشرات، وتبدأ من الحدود العراقيّة – التركيّة وتنتشر عبر الجبال وحتى مناطق متقدمة من محافظة نينوى، على بعد 200 كم تقريباً من الحدود بين البلدين. ويعلن الجيش التركيّ مراراً تنفيذ ما تسمى بعمليات عسكرية جويّة وبريّة ضد مقاتلي الحزب ومواقعهم في باشور كردستان.
حصلت أنقرة بالسياسة وعبر الاتفاق الأمنيّ ما عجزت عنه عمليّاً عسكريّاً، وإذا أخذنا بالاعتبار احتلال أنقرة لمناطق في شمال سوريا بينها مناطق كرديّة، ومسعى أنقرة المحموم للتصالح مع دمشق وصياغة اتفاق أمنيّ موسع يتجاوز اتفاق أضنة 1998، وبذلك يسقط توصيف الاحتلال عن التدخل التركيّ العسكريّ المباشر في الأراضي السوريّة والعراقيّة ويكتسب توصيفاً شرعيّاً تضمنه اتفاقات أمنيّة ثنائيّة، وبذلك يكتمل المشهد، ولا عنوان له إلا الاتفاق المليّ والمطامع الاستعماريّة.
لا اتفاق سابق
بعد القصف التركيّ الذي استهدف مصيف قرية (برخ) في محافظة دهوك شمال العراق في 20/7/2022، والذي أسفر عن استشهاد تسعة مواطنين وجرح آخرين تم تداول وجود اتفاقية تسمح لتركيا بشن هجمات احتلالية على الأراضي العراقيّة. وتحدث كثيرون عن اتفاقات تعود لعهد نظام صدام حسين، والحقيقة أنّ أيّ اتفاق لا قيمة وفق قواعد القانون الدولي، إذ تسقط اتفاقيات الأنظمة الخاصة بسقوط هذه الأنظمة، وبذلك ليس لدى أنقرة ما تحتج به، ولا حاجة للحكومة العراقيّة لإسقاطه؛ لأنّه سقط فعلاً بسقوط النظام السابق، كما لم يسجّل الاتفاق لدى الأمم المتحدة وفقاً لميثاق المنظمة الدوليّة، ليكتسب توصيفاً قانونياً معتمداً أمام العالم.
عام 2012، قررت الحكومة العراقيّة رفع توصية إلى مجلس النواب بإلغاء أو عدم تمديد أيّة اتفاقية مبرمة سابقة مع أيّ دولة أجنبية تسمح بوجود القوات والقواعد العسكرية الأجنبية على الأراضي العراقيّة. وجاء ذلك بعد يوم من طلب الحكومة التركيّة من البرلمان تجديد موافقته على شنّ غارات على مواقع داخل الأراضي العراقيّة لسنةٍ إضافية، وذلك في أوج المواجهات بين الجيش التركيّ وحزب العمال الكردستانيّ. ومعلوم أنّ البرلمان التركيّ يوافق بانتظام منذ 2007 على مذكرات حكوميّة تتيح للجيش التركيّ مواصلة ما تسمى بالعمليات العسكريّة داخل الأراضي العراقيّة.
في 24/4/2022، نفت الخارجية العراقيّة وجود اتفاق مع تركيا أو أساس قانونيّ يتيح له التوغل في العراق، وأشارت إلى أن جلسة استضافة وزيرها فؤاد حسين في مجلس النواب وقتها ناقشت كيفية الرد أمنيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً. وأشار المتحدث باسم وزارة الخارجية العراقيّة أحمد الصحاف للعراقيّة الإخبارية إلى أنّ “وزير الخارجية عرض ملف وجود حزب العمال الكردستانيّ منذ عام 1984 مؤكداً أنّ ما يُشاع عن وجود اتفاقية تسمح لتركيا بالتوغل في باشور كردستان “شمال العراق” غير صحيح وهناك فقط محضر اجتماع بين بغداد، وأنقرة قبل عام 2003 يسمح للأخيرة بالتوغل لعمق خمسة كيلو مترات فقط ولأيام محدودة بالتنسيق مع الحكومة العراقيّة. ويلزمها المحضر بطلبِ إذن الحكومة العراقيّة وعدم تجاوز التوغل خمسة كيلو مترات، وهم لم يلتزموا بذلك.