قفزة 15 أب.. الخطوة الأولى نحو الحماية والدفاع المشروع

دجوار أحمد آغا_

أربعون عاماً مضت؛ والبندقية الكردية حاضرة ولم يتوقف صوتها، أربعون عاماً مضت؛ والمقاتل الكردي فوق قمم الجبال وعلى سفوح الهضاب وفي الوديان والمغاور والكهوف في كردستان، أربعون عاماً ولم يبقَ شبر من تراب كردستان سواء في باكور، أو في باشور، وروجهلات كردستان، وحتى في روج آفا، ولم يُسقَ بالدماء الطاهرة الذكية لأبناء وبنات الشمس والنار، أحفاد كي أخسار، رستمي زال، وكاوا الحداد.

المقاومة حق طبيعي ومشروع لكل كائن حي، وليس للإنسان وحده، فما بالنا إن كان هذا الإنسان مقهوراً، محطماً، ومسلوب الإرادة، وطنه محتل ومقسّم بين عدة دول ذات أنظمة دكتاتورية، رجعية، استبدادية، وعنصرية (تركيا، إيران، العراق، سوريا). بالتأكيد من حقه أن يتسلح ويقاوم من أجل تحرير وطنه، ونيل حقوقه المشروعة مثل بقية أمم وشعوب العالم في العيش بحرية وأمن وأمان على تراب وطنه الأم كردستان، فكانت قفزة 15 آب 1984 التاريخية.

انقلاب 12 أيلول 1980 الدموي

أحسّت دوائر حلف شمال الأطلسي (الناتو) بالخطر بعد مقاومة الشعب الكردي في حلوان وسويرك، ومن ثم تأسيس حزب العمال الكردستاني في 27 تشرين الثاني 1978، لذا توجهوا إلى تنفيذ انقلاب عسكري تحت قيادة رئيس هيئة الأركان العامة لجيش دولة الاحتلال التركي الجنرال كنعان إفرين في 12 أيلول 1980، كما أوعزوا إلى الحكومة العراقية بالهجوم على إيران الذي بدأ في 20 أيلول 1980، بعد خسارة العراق لاتفاقية عام 1975 الموقّعة مع شاه إيران المخلوع في الجزائر على إثر ثورة الخميني 1979.

أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية مباركتها للضربة العسكرية، مبينة في الوقت نفسه دعمها لهذا الانقلاب. فقد أبلغ ممثل المخابرات المركزية الأمريكية في أنقرة حينها، بول هينز، الرئيس الأمريكي آنذاك، جيمي كارتر، بالانقلاب، قائلًا: “لقد فعلها رجالنا”. بدأت الطغمة العسكرية بممارسة هجمات عنيفة من أجل القضاء على مقاومة الشعب الكردي المتمثلة بأعضاء وأنصار حزب العمال الكردستاني والزج بهم في السجون والمعتقلات، بالإضافة إلى ارتكاب إبادة جماعية بحق الشعب الكردي.

مقاومة السجون 14 تموز 1982

بعد أن وضعت الطغمة العسكرية الفاشية معظم أعضاء وأنصار حزب العمال الكردستاني في المعتقلات والسجون، بدأت بتعريضهم لأشدّ وأبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي. فمن قلع الأظفار إلى حرق الأجساد بالكهرباء وصولاً إلى التهديد باغتصاب الأهل أمام السجناء والمعتقلين، ناهيك عن الضرب المبرح بشكل يومي وإجبارهم بترديد النشيد القومي التركي بغية إذلال المناضلين. لكن؛ السبب المباشر لمقاومة السجون؛ لم يكن التعذيب الوحشي والهمجي الذي كان يتعرض له المناضلون يومياً، إنما المؤامرة الدنيئة، التي كانت تديرها سلطات السجن الفاشية من خلال طرح موضوع العفو وتوقيع السجناء عليه حيث كانت الأمور تسير نحو الأسوأ خاصة مع استسلام البعض من ذوي النفوس الضعيفة وسعيهم من أجل جر البقية إلى الاستسلام. حينها بدأت المقاومة العظيمة من مظلوم دوغان وصرخته “المقاومة حياة” ليلة النوروز حينما أشعل النار بجسده، ليكون كاوا العصر، ومن قاعة المحكمة العسكرية عندما أعلن محمد خيري دورموش الانتصار من خلال المقاومة التاريخية والبدء بـ “الإضراب عن الطعام حتى الموت” والذي انضم إليه كمال بير، وعاكف يلماز، وعلي جيجك والمئات من المناضلين من كوادر وأنصار حزب العمال الكردستاني. فأصبحت هذه المقاومة نداء من خلف أسوار السجون والمعتقلات للمناضلين في الخارج من أجل تصعيد المقاومة.

الظروف والأسباب

بطبيعة الحال؛ لم تأتِ قفزة 15 أب من فراغ، بل كانت هناك ظروف داخلية وأخرى خارجية دفعت باتجاه خلق هذه القفزة المباركة. بالنسبة للظروف الداخلية، كانت الحركات الثورية واليسارية تعيش مرحلة التخبط والانقسامات خاصة بعد ضربة 12 أيلول، حيث هاجمت قوات الجندرمة والبوليس بكامل قوتها الوحشية ضد هذه الحركات والتنظيمات والتي كانت بمعظمها شبابية. إلى جانب المضايقات المستمرة بحق الشعب الكردي والتعدي عليه وخاصة في القرى والأرياف بدون أدنى سبب.

أما الظروف الخارجية، فقد كانت هناك حرب باردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية وكانت تركيا من أهم المراكز الاستراتيجية للناتو ولأمريكا. لذا؛ كانت تركيا محمية من الخارج عبر حاجة الناتو الماسة لها لأنها على حدود الاتحاد السوفييتي وقد زرعت فيها الكثير من القواعد العسكرية.

البداية تحت قيادة الشهيد معصوم قورقماز “عكيد”

بدأت المقاومة الجديدة للكرد من خلال ظهور خط المقاومة، خط حزب العمال الكردستاني الذي حطّم القيود والسلاسل التي تم تقيد الشعب الكردي بها، وزلزل الأرض من تحت أقدام العدو، حيث بعث بهذا الشعب الحي من جديد، وأخرج المارد من القمقم الذي وضعه الأعداء فيه. بدأت القفزة الثورية للكريلا بالعمليات النوعية التي نفذت تحت قيادة الشهيد الكبير معصوم قورقماز(عكيد) في منطقتي أرو وشمزينان بتاريخ 15 آب 1984.

الرصاصة الأولى كما أطلق عليها القائد أوجلان، أثبتت للعالم أجمع بأن الشعب الكردي حيّ وقادر على المقاومة ومواجهة العدو مهما كان كبيراً ومسلحاً، فالأبطال كانوا مسلحين بالإرادة الحرة، والتي هي أقوى وأعظم الأسلحة على الإطلاق. كيف لا وقد تلقوا التدريب المكثف من جانب القائد والمفكر عبد الله أوجلان في ساحة القيادة بالإضافة إلى تمرسهم في القتال من خلال القتال مع المقاومة الفلسطينية وتلقي التدريبات القتالية.

أسلوب قتال الكريلا

منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها القائد الكبير معصوم قورقماز قفزة 15 آب، والكريلا تقوم بشكل دوري باتباع تكتيكات جديدة ومختلفة عن سابقاتها في حربها المستمرة منذ 40 عاما ضد قوات المحتل الغاصب. الحرب التي يخوضها مقاتلو ومقاتلات الكريلا، ليست ضد جيش الاحتلال التركي فحسب، بل هي ضد حلف الناتو. فمنذ العام 1985 وحلف الناتو يقدم للجيش التركي الأسلحة والمعدات القتالية الأحدث والأكثر تطوراً، كما أنه يغض الطرف عن الاستخدام التركي للأسلحة الكيماوية المحظورة دولياً ضد مقاتلي الكريلا بشكل شبه يومي بسبب فشلهم في المواجهة المباشرة وجهاً لوجه مع قوات الدفاع الشعبي.

لكن رغم كل ذلك، لم ينجحوا في تحقيق هدفهم المنشود “القضاء على الكريلا”. فقد أثبتت هذه القوات أحقيتها بقيادة مرحلة التحرر الوطني الكردستاني، وبأنه لا يمكن هزيمتها على الإطلاق طالما هي متسلحة بالفكر والفلسفة النضالية للقائد أوجلان. فقد انضم الآلاف من أبناء وبنات كردستان إلى صفوف قوات الكريلا وقاوموا العدو في كل مكان وحققوا انتصارات باهرة. بفضل هذه القوات وصل القادة والزعماء الكرد إلى البرلمان التركي، ولولا وجود هذه القوات لما كان هناك شيء اسمه إقليم كردستان الذي حتى هذه اللحظة لا تعترف به تركيا وتقول عنه بأنه “مستنقع” وتسميه “شمال العراق”.

تأثير القفزة على الشرق الأوسط

كان لهذه المقاومة التي تشكّلت من خلال قفزة 15 آب التاريخية، أثر كبير على عموم منطقة الشرق الأوسط، والتي أدّت إلى إجراء تغييرات عاجلة في التحالفات والعلاقات العسكرية والسياسية بين دول المنطقة. هي قبل كل شيء، فرضت ضرورة إيجاد حل للقضية الكردية العادلة، ودفعت تلك الدول إلى إظهار مواقف سياسية جديدة حيال قضية كانت حتى الأمس القريب مهمّشة، الكل كان يصب اهتمامه على القضية الفلسطينية بينما القضية الكردية منسية. لكن؛ بعد قفزة 15 آب أصبحت القضية الكردية حديث الساعة وموضوع للنقاش ضمن اجتماعات قادة المنطقة وحتى العالم.

هذه المقاومة المستمرة منذ 40 عاماً، أثرت بشكل كبير على الرأي العام العالمي الذي بدأ ينظر إليها على أنها حق مشروع لشعب عانى الأمرين من أنظمة شمولية في الشرق الأوسط. لذا؛ نرى كيف ينضم إلى صفوف هذه القوات سنوياً المئات من العناصر الأممية من مختلف دول العالم؛ لأنهم مقتنعون بعدالة وشرعية هذه القضية. هذه المقاومة لم يعد يقتصر تأثيرها على الشرق الأوسط بل تعداها إلى العالم أجمع وهي حقيقة يجب أن يعترف بها القاصي والداني.

النتائج والإنجازات

بالتأكيد فإن هذه القفزة حققت الكثير من النتائج والإنجازات خلال هذه السنوات الأربعين، لعل أبرز هذه الإنجازات ما يتعلق ببناء الإنسان الكردي الجديد، صاحب الإرادة الحرة والمؤمن بذاته، المصمم على المقاومة حتى تحقيق النصر. وما رفع شعار “إما النصر أو النصر” إلا بنتاج هذه الإرادة الفولاذية التي لا تُقهر.

إن إعادة خلق الوعي بالحرية الحقيقية أمر في غاية الصعوبة، خاصة لدى شعب فقد كل مقومات الحياة والإيمان بالذات. لكن؛ بالإصرار والتصميم، بالعزيمة والإرادة الحرة، استطاعت قفزة 15 آب إعادة هذا الوعي للمجتمع الكردي. لذا؛ ليس غريباً أن ندعو هذه القفزة بيوم “الانبعاث الجديد للشعب الكردي”. فلولا وجود هذه المقاومة، لما استطاع الشعب الكردي وعلى وجهة الخصوص المرأة الكردية والشبيبة التخلص من براثن العبودية البغيضة، ولما كان هناك وجود للشعب الكردي.

الختام

إن مقاومة الكريلا المستمرة منذ 40 عاماً، تستند إلى فكر وفلسفة القائد والفيلسوف عبد الله أوجلان، هذا القائد الذي يخوض مقاومة من نوع آخر بين أربعة جدران وفي عزلة تامة عن العالم الخارجي في مواجهة أشنع وأبشع صنوف التعذيب النفسي والجسدي داخل معتقل جزيرة إيمرالي. هذه المقاومة التي تعدُّ من أعظم وأنبل وأطهر المقاومات على وجه الأرض، فهي ليست من أجل حقوق الشعب الكردي وحده فحسب، بل هي من أجل التحول الديمقراطي في تركيا، ومن أجل تحقيق الحرية الحقيقية لشعوب الشرق الأوسط.

هذه المقاومة الأسطورية التي وقفت في وجه الطغاة وأجبرتهم على التراجع والتقهقر في أكثر من موقع ومعركة، بإمكانها أن تُفشل الهجمات والمؤامرات الهادفة إلى إبادة الشعب الكردي بالدرجة الأولى وكسر إرادة شعوب المنطقة التواقة إلى الحرية. وما الضربات القوية التي تقوم بها الكريلا ضد المحتل التركي في مناطق “قنديل، وزاب، وآفاشين، وخاركورك، ومتينا” وعموم مناطق الدفاع المشروع وباشور كردستان، إلا دليل آخر على مدى قدرة هؤلاء الأبطال الذين وقفوا في وجه أعتى التنظيمات الإرهابية “داعش” وأخواتها وردوهم على أعقابهم في شنكال، ومخمور، وكوباني، من ثم هزيمة المحتل التركي الغاصب شر هزيمة. والنصر حليف الشعوب مهما طال الزمن.