تكامل الأدوار في إطار أستانة… أحداث دير الزور حصة طهران

كروب روناهي_

على مدى اجتماعات عدة لأستانة كانت البيانات الختاميّة متطابقة، وتأتي بصيغةٍ مُركّزة على الإدارة الذاتية، متجاهلةً بالكامل الاحتلال التركيّ لمناطق سوريّةٍ، فيما يُكتفى بمجردِ الإشارة إلى عوامل الأزمة والتهديد الإرهابيّ، وإذا كانت أنقرة قد تولت مهمة التدخّل في مناطق الشريط الحدوديّ باستخدام سوريين مرتزقة، واستثمار شعار الثورة، فإنّ العُمق الجغرافيّ مهمةُ إيران والوسيلةُ ذاتها، ولكن باستثمار الانتماء العشائريّ ومحاولة إيقاع الفتنة بين العرب والكرد.

الخلفيّة السياسيّة

تتحوّل الحروبُ متعددة الأطرافِ إلى حالاتِ استثمارٍ، وتطرأ عمليات متتابعة لإعادة الصياغة وتغيير الولاء، لأنّ حاملَ السلاح بالنهايةِ هو أداةُ تنفيذِ أجندةٍ سياسيّةٍ، وتغيير بوصلته أسهل بكثير من القتال ضده.

ما يتم استثماره عمليّاً هو العامل المعنويّ، فحامل السلاح ممتلئ بإرادة القتال، أكان عن إيمان وقناعة أو كرد فعلٍ لحالة احتقان، وانتزاع السلاح منه صعب جداً، إلا أنّه يمكن إقناعه بأنّ معركته أضحت في ميدانٍ آخر، وتقديم مغريات معنويّة وماديّة له. وبعبارة أخرى؛ فإنّ أحد أهداف الأحداث في دير الزور إضفاء عامل توتر جديد وتوصيفه بصراع عربيّ ــ كرديّ، وهذا يصب مباشرةً في مصلحة حكومة دمشق، فكلّ صراع ليست دمشق طرفاً فيه ستكون حتماً مستفيدةٌ منه، لأنّها طرفٌ أساسيّ في أصل الأزمة السوريّة.

تشكّل مناطق شرق سوريا أهمية خاصة لإيران، فهي بوابة العبور البريّ السوري، وتعتبر طهران الوجود الأمريكيّ بالمنطقة عائقاً مباشراً لحضورها، وفي خلطةٍ غريبة تعملُ على استثمار كلّ عوامل الاحتقان والانتماء العشائريّ لتسليح أبناء العشائر وزجهم في معركة، قطعت الإدارة الذاتيّة الطريق عليها، بطرح مبادرة تتضمن الخطوط الأساسيّة لحل السياسيّ الشامل للأزمة السوريّة بما ذلك وطنية الثروات في المنطقة.

من جهة ثانية تُبدي موسكو امتعاضاً شديداً إزاء الوجود الأمريكيّ، إلا أنّه ليس بالوسع إعطاء أنقرة الضوء الأخضر لها لشنّ عدوانٍ جديدٍ يتجاوز حتى الحدود الأمنيّة المُزمعة التركيّة، وبذلك فالمنطقة تحتاجُ آليات مختلفة، فكانت طهران أقرب لتنفيذ الخطة، وعملياً فإنّ موسكو تسعى لإعادة الأوضاع إلى ما قبل آذار 2011، وتنفذ خطتها عبر شركائها في ترويكا لاستهداف ِالإدارة الذاتيّةِ.

هجومٌ وقصفٌ مدفعيّ 

قال المركز الإعلامي لقّوات سوريا الديمقراطية، الجمعة 9/8/2024، إنّ حصيلة قصف القوات الحكوميّة على قرية دحلة بريف دير الزور الشرقي ارتفعت إلى 16 شخصاً، نصفهم من الأطفال.

وشهدت مناطق من ريف دير الزور الشرقي حركة نزوح جماعية مع تجدد القصف على بعض البلدات، ونقلت وكالة نورث برس الجمعة 9/8/2024، عن مصدر محلي من بلدة الدحلة، إنّ سكان القرية ومنذ ساعات الصباح الأولى بدؤوا بالنزوح نحو بادية البلدة فيما تشهد بلدات الشحيل والبصيرة والصبحة أيضاً نزوحاً خشية تجدد القصف. ونزلت عشرات القذائف على منازل المدنيين منذ ساعات الليل ولازالت إلى الآن تقع قذائف في المنازل دون أي رادعد. وشدد المصدر، أنّ مشافي البلدة والبلدات المجاورة بحاجة ماسّة بسبب تزايد أعداد الجرحى.

وفجر الأربعاء 7/8/2024، تسلل المسلحون التابعون لحكومة دمشق وآخرون موالون لطهران يطلقون على أنفسهم مسمى “مقاتلي العشائر”، إلى قرى وبلدات في ريف دير الزور الشرقي الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية ما أسفر عن اشتباكات ومقتل مدنيين اثنين وإصابة خمسة آخرين بجروح، وأظهر مقطع متداول مسلح يحمل قاذفاً ويتردد في إطلاق النار، بسبب وجود مدنيين، ليأتي الأمر بالضرب مع الشتائم، ووقعت قذيفة قرب دوار قريب من مدرسة بلدة البحرة، وأُصيبت على إثرها طفلة وشخص آخر فيما فقد شخصاً آخر وهو صاحب مطعم في البلدة حياته.

تتكرر عمليات التسلل عبر نهر الفرات إلى مناطق سيطرة “قسد” من مجموعات موالية لطهران ودمشق بقيادة المدعو إبراهيم الهفل أحد شيوخ عشيرة العكيدات وتدار في غرفة عمليات مشتركة بين الدفاع الوطني ومستشارين إيرانيين في دير الزور وكان الهفل الذي فرَّ إلى مناطق سيطرة دمشق وإيران في أيلول 2023.

 تواصلت نورث برس مع مصادر ميدانية في بلدات ذيبان وأبو حمام وغرانيج والكشكية (المناطق التي تسلل إليها المسلحون الليلة الفائتة)، وقال شاهد عيان من بلدة غرانيج شرقي دير الزور، إنه في تمام الساعة الثالثة والنصف فجراً بدأ صوت إطلاق الرصاص والقذائف بشكلٍ فجائي استيقظ على إثره سكان البلدة. وأضاف أن عدد المسلحين تجاوز 80 عنصراً، مدعومين بأسلحة ثقيلة وقاذفات وأكد أنّ “الأسلحة كانت جديدة ورآها في صور ومقاطع الفيديو التي نشروها فور دخولهم البلدة”، وفور دخولهم البلدة دخلوا “منازل معروفة مسبقاً”، وبدؤوا استهداف نقاط “قسد”. وأشار إلى أنّ المدعو “أحمد المسعود” من أهالي بلدة غرانيج كان يقودهم وهو مقرب من إبراهيم الهفل ومدعوم من الدفاع الوطني والإيرانيين.

وأضاف أنهم انسحبوا من بلدة غرانيج بعد اشتباكات دارت مع مقاتلي “قسد” حتى السابعة صباحاً، ولكن اعتقد أنه لا يزال هناك “بعض المسلحين مختبئين في منازل المدنيين”.

وظهر في مقطع مصور المدعو “هاشم مسعود السطام” قائد ما يسمى “أسود العكيدات” الموالي لإيران، يقود الهجوم على بلدة ذيبان شرقي دير الزور. إضافةً لقياديين آخرين تسللوا إلى مناطق سيطرة “قسد”، وهم: “خليل ياسين العلي العمر/ الأشرم”، و”أبو اليمان” من بلدة ذيبان، في منطقة أبو حمام. ومن القيادات المحلية: “أحمد المسعود”، “أسمر العميري”، “حسين الصالح”، “عبد الرحمن المحمد” القيادي في فصيل “أسود الشرقية”.

وبدخول المسلحين تلك المناطق نشروا صوراً ومقاطع مصوّرة، تُفيد بسيطرتهم الكاملة. وتُظهِر إحدى الصور أربعة مسلحين يحمل أحدهم علم “قوات القبائل والعشائر” ويرتدي اثنان منهم زيّاً يشبه زي مرتزقة “داعش”.

وأفاد مسلح في تسريب صوتيّ إنّ مجموعة “خليف الهليل” التي تتبع للمخابرات الجوية والدفاع الوطنيّ، محاصرةً في محطة العمر في مدينة ذيبان حتى قبل عدة ساعات، وأضاف أنّ 13 عنصراً منهم قُتلوا في الاشتباكات واعتُقل سبعة آخرون.

استنفار واستقدام أسلحة ثقيلة

قال مصدر عسكري من قوات حكومة دمشق بدير الزور، لنورث برس، الجمعة 9/8/2024، إن الحكومة استقدمت تعزيزات عسكرية بينها أسلحة ثقيلة إلى ريف دير الزور الشرقي. وأضاف المصدر أن الفرقة الرابعة قدمت إلى الريف الشرقي لدير الزور، وسط إجراءات أمنية متشددة وبحوزتها عتاد ثقيل وتجر وراءها مدفعية، مع فرض حظر تجوال في أماكن تواجدها، ونزوح جماعي للسكان تخوفاً من أعمال عسكرية في المنطقة.

وأشار إلى إن “القوات الحكومية تشهد الآن حالة استنفارٍ وسط فرض حظر تجوال في الأحياء القريبة من مقراتها، دون معرفة الأسباب”. وبيّن المصدر، إن الفرقة الرابعة ثبتت ثمانية نقاط مدفعية على جبل الصالحية بريف دير الزور الشرقي، كما نصّبت هاونات على السرير النهري لنهر الفرات. وأكد المصدر، أن الفرقة الرابعة منعت السكان من الاقتراب من أي مقر لها مهما كانت الأسباب.

 حِراك روسيّ ودعم إيرانيّ 

وفي تأكيد على علاقة روسيا بمجريات الأحداث وصل قائد القوات الروسيّة في سوريا برفقة ضباط كبار، الجمعة 9/8/2024، إلى المطار في قامشلو لإجراء مباحثات حول أحداث دير الزور الأخيرة، بحسب ما قاله مصدر مفاوض لنورث برس، وأضاف “الوفد الروسيّ برئاسة قائد القوات الروسية رفقة ثلاثة ضباط برتبة لواء وعميدين وصلوا لمطار قامشلو الساعة 12 قادمين على متن حوّامة روسيّة من قاعدة حميميم”. وأضاف أنَّ وفداً من قسد وصل مكان الاجتماع إضافة لوفدٍ من الجيش السوري قادماً من دير الزور بحوامة عسكرية”. وشدّد المصدر على أنّ “الاجتماع لم يضم أيّ ممثلين من الطرف الإيرانيّ”.

والسؤال المطروح: لو إنّ الهجمات وعملية التسلل حققت أهدافها، هل كان المسؤول الروسيّ سيبادر للتحرك؟ أم ستتخذ القوات الروسيّة وضع المتفرج بانتظار المزيد من التغييرات الميدانيّة، ويبدو أنّ سبب الزيارة أحرج الوضع الميدانيّ.

في 10/2/2024 قال التحالف الدولي لمحاربة “داعش”، إن قوات العشائر التي تهاجم قوات سوريا الديمقراطية بريف الدير الزور، تتلقى دعماً صريحاً من “حكومة دمشق وحلفائها الإيرانيين”. وذلك خلال تقرير الربع الأخير لعام 2023 للمفتش العام لعملية “العزم الصلب” روبرت ستروش، وأضاف: “يقوم مقاتلو العشائر بإعادة الإمداد والتسليح وشنّ الهجمات عبر النهر في القرى التي تسيطر عليها “قسد” على الجانب الشرقيّ. واستبعد التحالف الدوليّ سيطرة تلك “الميلشيات” على مناطق سيطرة قسد، إلا أنّ هجماتهم أجبرت الأخيرة على “نقل جزء كبير من قواتها ومعدات عسكرية إلى دير الزور”.

تنسيق مع تركيا 

أدانت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، الجمعة، هجمات حكومة دمشق بحق المدنيين في ريف دير الزور. وقالت في بيانٍ نشرته على موقعها الرسميّ: “مرةً أخرى، يبدأ النظام السوريّ في توجيه البوصلة نحو مكان آخر، متجاهلاً تماماً ما يحصل في المناطق السوريّة الأخرى، والانتهاك الواضح والمتكرر لسيادته في دمشق وغيرها من المناطق”.

وأضاف البيان، أنّ حكومة دمشق “تعمل على خلق الفتنة وضرب الاستقرار في المناطق التي تشهد استقراراً تاماً عبر دعم مجموعات مرتزقة تابعة له..، وذلك بالاتفاق مع تركيا وقوى أخرى لفرض الفوضى وتطويق جهود الاستقرار، خاصةً بعد فشله قبل أكثر من عام في النيل من إرادة أبناء دير الزور ورموزها الاجتماعيّة وعشائرها الأصيلة”.

وأكد البيان، أنّ “إرادة أهلنا في دير الزور أقوى من تلك المخططات التي يُراد بها تطويق إرادتهم والنيل من قيمهم، معولين على وعي شعبنا بمختلف مكوناته في التصدي لهذه السياسات المعروفة والمتجانسة تماماً مع ميول تركيا في تصفية مشروع شعبنا”.

ودعت الإدارة الذاتيّة في بيانها المجتمع الدوليّ ولجان التحقيق للقيام بدورها حيال هذا التصعيد والمجازر من الحكومة السوريّة.

واتهم حزب الوطن السوريّ وعشائر منطقة الحسكة، الخميس في الثامن من آب آب الجاري، “قوى مرتبطة بأجندات خارجية مشبوهة” بالوقوف وراء الأحداث التي يشهدها ريف دير الزور، وجاء ذلك خلال مؤتمر صحفيّ قال فيه: “الهدف من وراء هذه الهجمات ضرب الأمن والاستقرار في المنطقة”، وقال محمد الدرويش، وهو الناطق باسم حزب الوطن السوري، خلال المؤتمر إن “ما يُشاع عبر إطلاق اسم العشائر على هذه المؤامرة الدنيئة زور وبهتان، لهو محط إدانةٍ واستنكار”.

الجزء الأول من الأحداث 

تعود أحداث دير الزور إلى 27/8/2023 عندما اُعتقِل المدعو أحمد الخبيل/ أبو خولة قائد مجلس دير الزور العسكريّ سابقاً، على خلفية تهم متعددة منها العلاقة مع الميليشيات الإيرانيّة، وتحوّل الأمر لعصيانٍ مُسلح، ضد قسد.

وباليوم التالي ظهر شقيق “أبو خولة” المدعو جلال الخبيل، بالزي العسكري في مقطع مصوّر ناشد فيه أبناء العشائر العربيّة لمحاربة “ٌقسد” للإفراج عن “أبو خولة” ومحاصرة المقرات العسكريّة، وأضاف “القضية أصبحت قضية كرديّة – عربيّة”. الموالون للمدعو أبو خولة استهدفوا مقرات عسكريّة تابعة لـقسد في بلدات (العزبة – الصور – الشحيل – الذيبان – الصور – البصيرة – أبو حمام)، بريف دير الزور الشرقي.

فور بدء استخدام السلاح باعتقال “أبو خولة” بدأت أذرع إيران في دير الزور بالتدخّل عبر شخصية نواف راغب البشير، عرّاب العلاقات الإيرانيّة في دير الزور، الذي طالب بإخراج قسد والتحالف الدولي من دير الزور”. وتواصل “البشير” مع المدعو إبراهيم جدعان الهفل شيخ قبيلة العكيدات في دير الزور، والذي كان على خلاف مع أبو خولة، على مشيخة القبيلة، وصلت لحدّ الشتائم فضحتها مواقع التواصل الاجتماعي بنشر صوتيات للمدعو “أبو خولة” وهو يشتم عائلة الهفل. وبدعم إيرانيّ واضح أعلن “الهفل” الحرب على قوات سوريا الديمقراطية، وخرج في مقطع مصوّر حاملاً السلاح ويعلن “النفير العام” ضد “قسد”. ودخلت عناصر من الميليشيا الإيرانيّة والدفاع الوطني التابع لحكومة دمشق على شكل مجموعات صغيرة كل منها 10 -15 مسلحاً إلى شرق الفرات، لافتعال الاقتتال.

وصلت أصداء الأحداث إلى المناطق التي تحتلها تركيا، وشهدت استنفارات عسكريّة، واشتباكات في ريف منبج، وتم تداول القضية على أنها عشائريّة عربيّة كردية.

معركة إعلاميّة 

لم تكن المعركة الإعلاميّة أقل وطأة وكشفت نورث برس أنّ من يقود التوجيه الإعلاميّ في دير الزور، أشخاص من خارج المنطقة عملوا على إنشاء مجموعات “واتس آب” باسم “المرصد الرسميّ الأول في دير الزور” ومشرفوها خارج البلد ويرسلون مقاطع صوتيّة تحرّض على القتال.

أكثر من 20 مجموعة لـ”لواتس آب” جميعها تخطى عدد المشتركين فيها أكثر من ألف شخص يديرها شخص يسمّي نفسه “عارف محمد أبو محمد” برقم مخفي، بينما المشرف الثاني في المجموعة يدعى smaylhasan برقم هاتف تركيّ.

وفي 4/9/2023، أرسل أحد المشرفين تسجيلاً صوتيّاً يقول فيه: “جميع العشائر العربيّة في المنطقة ضد قسد”. ودعا لقتال الكرد في بلدة ذيبان وعدم الاستسلام. وهي البلدة التي ينحدر منها الشيخ إبراهيم الهفل، وأضاف في تسجيله أن أسلحة ثقيلة بينها صواريخ ستصل إلى بلدة ذيبان، وفي تحريض عشائريّ قال: “يا حيف يا عيال الأبرز عيب تستسلمون”، وعيال الأبرز لقب لعشيرة العكيدات بدير الزور.

إضافةً للصوتيات المتداولة في المجموعات، ولاستعطاف أبناء المنطقة، كانت كل أيقونات المجموعات صورة سيف عربيّ وفرس وسنابل ودلة وسيفين، وهي شعارات عربيّة تقليديّة، تتوسطها عبارة “قوات القبائل والعشائر”.