كان لثورة التاسع عشر من تموز رونقها بانتهاجها خطاً ثالثاُ مغايراً لما تم اعتماده على الساحة السورية، وذلك بعد رهن قرار السوريين لأطرافٍ خارجية، فكان لا بد من انتهاج فكرٍ مغاير وأكثر واقعية وخصوصية بالاستناد إلى بناء مجتمع أخلاقي سياسي، يضمن حرية المكونات والشعوب كافة إلى جانب إبراز الدور الفعال للمرأة، التي أثبتت ريادتها في هذه الثورة وكانت عصب فلسفة الأمة الديمقراطية، التي بني عليها نظام الإدارة الذاتية ونموذجها الجديد، الذي يعدُّ طوق نجاةٍ للعقد المستعصية في سوريا والشرق الأوسط.
روج آفا.. بذرة الأمة الديمقراطية
انحسار التطور، وبعد هذه السنوات له أسبابه، ولم يعد محصوراً بشكل الأعداد والتنظيم فحسب، لأن هناك من سيّر مجرى الأمور وحوّرها وباتت الآن في منحى ظاهري، وكأنه متعلق بالشعب السوري وحاجاته ومنحى مبطن، وهو الأخطر حيث تمرير الأجندات على حساب السوريين وقضيتهم وتطوير الاحتلال.
الأصل في هذا الضياع يكمن في أن الهوامش كانت كبيرة ولا تزال للجماعات، التي أسمت نفسها بـ “المعارضة والجيش الحر” حيث ساهمت تلك المساحة في ظل غياب القرار الذاتي إلى تدخلات شتى تمت، وسيّرت الأمور نحو ما يخدم مصالحها دون أي مصلحة سورية، والأمور واضحة للقاصي والداني اليوم.
فثورة روج آفا أو ثورة التاسع عشر من تموز تختلف عن غيرها، فهي تعمل على إعادة تفعيل المجتمع الأخلاقي والسياسي بعد ما أبعدته السلطات الحاكمة عن طبيعته، وتسعى للوصول إلى مجتمع قادر على إدارة نفسه بنفسه.
وللوصول إلى هذه الأهداف، التي تزامنت مع بروز جماعات مرتزقة وأخرى مذهبية وقومية، واضمحل الأمن والاستقرار في البلاد، وباتت المنطقة هدفًا لهجمات المجموعات المرتزقة المدعومة من الخارج، كان لا بد من وجود قوة عسكرية قادرة على حماية الشعب، الذي كان في بداية طور تشكيل المؤسسات الهادفة للوصول بالمجتمع إلى الحرية والديمقراطية، وعليه تم الإعلان بشكل رسمي عن تشكيل وحدات حماية الشعب YPG في 19 تموز 2012.
ومنذ ذلك الحين لا زالت شعوب شمال وشرق سوريا تناضل على الرغم من التحديات الكبيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ومن تلك التحديات اعتداءات دولة الاحتلال التركي السافرة والمتكررة على مناطق متفرقة من إقليم شمال وشرق سوريا، والتي تمثلت ابتداءً من الدعم الفرط للتنظيمات الراديكالية والمتطرفة والإرهابية وصولاً لاحتلال جرابلس، والباب وإعزاز، ثم عفرين وكري سبي، وسري كانيه، وهذا ما أثر على تحقيق المنجزات.
الإدارة الذاتية… حجر أساسٍ في مسار الحل السوري
ولأن المعضلة السورية باتت بحاجة لطرحٍ جديد يمكن له إزالة ترسبات الأنظمة القمعية الشوفونية فلا بد من العودة إلى طرحٍ موضوعي يلبي التطلعات الشعبية، فكما وصفها القائد عبد الله أوجلان: “إذا كانت الأمة الديمقراطية روحًا، فالإدارة الذاتية الديمقراطية هي الجسد” وبناءً عليه بادرت شعوب شمال وشرق سوريا لطرح هذا النموذج لكل منطقة بإعلان إدارتها الذاتية وفقًا لخصوصيتها مع توسع الجغرافية المحررة من براثن مرتزقة داعش.
فالقائد عبد الله أوجلان في مرافعته، التي تحمل عنوان سوسيولوجيا الحرية تحدث عن الأمة الديمقراطية، وفصّل في شرح رؤيته لها، وقد بيّن أنها تترسخ بين المجموعات اللغوية والثقافية التي تعيش بالطريقة نفسها أو بشكل متشابه ضمن مجتمع أخلاقي – سياسي، وتحقق التحول الاجتماعي في إطار السياسة الديمقراطية، في الأمة الديمقراطية. فتتخذ القبائل والعشائر والأقوام وحتى الأسر، مكانها في المجتمع الأخلاقي السياسي على شكل وحدات، فبتنوع اللغات واللهجات والثقافات تتحول إلى أمة جديدة، في الأمة الجديدة، بالتأكيد، لا يُسمح بأن تفرض مجموعة عرقية أو مذهبية أو معتقد ما أو أيديولوجية طابعها على هذه الأمة حسب رؤية القائد.
الأمة الديمقراطية هي مجتمع بديل ضد سلطة الدولة، وهي المجتمع الديمقراطي ضد اللا اجتماعية، وهي ضد القضاء على المجتمع عبر إجبار هذا المجتمع على تقبل أساليب العبودية وعدم المساواة، هي المجتمع الكلي الحر والمفعم بالمساواة.
فلا يمكن تعويض المجتمع بأي شيء في حياة الإنسان؛ لأن الخروج من المجتمع والابتعاد عنه، يعني الخروج والابتعاد عن الإنسانية، فالأمة الديمقراطية، وقبل كل شيء هي إصرار على المجتمعية، وهي تصر على ديمومة المجتمع، الذي يتعرض للتخريب من الحداثة الرأسمالية، وتطبيقها واقعاً تاريخياً – اجتماعياً.
فهذه الثورة بات ينظر إليها على أنها تمثل مفتاح نحو الإنقاذ في سوريا بحسب مراقبين بالنظر إلى معاييرها ومبادئها، فهي تخدم المستقبل الديمقراطي للسوريين، فالسنوات التي مرت أثبتت فشل الحلول المصاغة مرحلياً، والتي أنكرت حقيقة المجتمع السوري وتجاوزت إرادته.
لذا فإن الآمال اليوم تمثلها ثورة 19 تموز لحرية الشعب الكردي، والعربي، والسرياني وعموم الشعب السوري؛ إنها ثورة التحول الديمقراطي وثورة الحل المجتمعي، وما استمرارها حتى الآن رغم محاولات خنقها إلا دليل صوابية مسارها لذا بات التعويل عليها بأنها ستكون الضمان الفعلي للحرية والديمقراطية، وتحرير المناطق المحتلة وبناء الإرادة المجتمعية المطلقة.
ثورة تموز ارتكزت إلى هذه المبادئ، التي أحدثت تغيرات ملحوظة في مجتمع شمال وشرق سوريا، وأكسبته الثقة بقدرته على إدارة نفسه، على مختلف الصعد، وحماية نفسه ووجوده وحقوقه بوجه المعتدين، فالنظام الدفاعي الذي تشكّل في المنطقة اعتمادًا على مبادئ الدفاع المشروع، أصبح مثالًا يُحتذى به في العالم، لأن هذا النظام وقف في وجه داعش وهزمه في وقت كانت الدول تعجز عن مجابهته، وهو ما ساهم في خلق مناخٍ ملائم لبناء مؤسساته التي تقف ضد السلطة والتبعية وزادت من تشبث الشعوب في أرضها ومتعايشة فيما بينها معتزة بكل ما تملك من ثقافة وتاريخ وحاضر.
ركائز ثورة الـ19 من تموز
وترتكز الأمة الديمقراطية ونواتها الإدارة الذاتية التي كانت ثمرة نضال شعوب شمال وشرق سوريا على الفرد أو المواطن الحر، الذي ينبغي أن يكون كوموناليًّا “تشاركيًّا”، فالفرد الذي يتمتع بحرية زائفة، والذي تستثيره الأنانية الرأسمالية ضد المجتمع، إنما يحيا ضمنيًّا أعتى أشكال العبودية وبالنظر للواقع كانت أولى خطوات ثورة الـ19 من تموز هي تشكيل الكومينات، التي تعد الخلية الرئيسية التي من شأنها تنظيم المجتمع وكانت نواة تشكيل الإدارة الذاتية بعد أن انبثقت عنها مجالس الأحياء والمدن والمقاطعات، ووصولًا إلى هيكلية الإدارة الذاتية وإقليم شمال وشرق سوريا.
إن نظام الدولة أعاق وحارب بشكل مستمر المجتمع الكومونالي، وأبعد الفرد عن حياته الكومونالية، التي هي من طبيعته، ورغم ذلك؛ فإن خصوصية الكومونة في المجتمع لا تزال موجودة، وبعد ثمانية أعوام من الثورة هناك مستوى كبير من التطور في هذا السياق، ولكن هناك نواقص، تركزت في عدم قدرة المجتمع على التخلص من ذهنية السلطة ومن بيئة الحكم.
سياسيون عبروا عن إن ثورة التاسع عشر من تموز هي انعكاس حقيقي لتطبيق مبدأ المساواة والعدل والإنسانية بوجه النظام السلطوي المركزي الذي يحتكر إرادة الشعوب، ويمنعها من ممارسة حقوقها في التعبير عن الرأي وممارسة ثقافاتها وعاداتها وطقوسها الدينية واليومية.
فالإدارة الذاتية زرعت الألفة والتسامح بين الشعوب كافة، وضمنت مشاركة الجميع في الإدارة ووفرت لهم ممارسة الديمقراطية عبر قوانينها التي تحترم حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وسمحت للجميع بممارسة معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
كما أن ثمار ثورة 19 تموز عملت بالحفاظ على حرية الرأي والتعبير وحرية المرأة التي كان لها دوراً هاماً وبارزاً في بناء الإدارة الذاتية، وهو ما أدهش شعوب العالم من المقاومة التي أبدتها المرأة لترسيخ دورها البارز، الذي أسقط قناع الوعي المنخفض بعد أن ترسخ لسنوات طويلة في المجتمع، الذي عدَّ المرأة لا يمكنها إحداث فارق ولا يمكنها القيام بكل المهام التي بقيت لسنوات حكراً على الرجل، وهذا ما حطمته ثورة تموز بإرادة المرأة الحرة، والتي كانت عصب الثورة التي ارتبط اسمها باسم الثورة فثورة تموز هي ثورة المرأة الحرة.
لتسفر هذه المقاومة عن تبوء المرأة دوراً ومكانة مهمة ورئيسية في نظام الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا.
وبما أن الحياة المشتركة هي أساس فلسفة الأمة الديمقراطية، ومفهوم الحياة التشاركية يبدأ من الفرد، ومن العلاقة بين الرجل والمرأة، وصولًا للعلاقة بين الأمم والدول والشعوب والأديان لذا تميز دور المرأة بأهمية بالغة خلال التحول إلى أمة ديمقراطية، فالمرأة المتحررة تعني مجتمعًا متحررًا، والمجتمع المتحرر هو أمة ديمقراطية، وتتجاوز النظرة التي تنيط المرأة بأدوار من قبيل الزوجة أو الأم أو الأخت أو الحبيبة، مثلما الحال دومًا في الحداثة وفي الحدود التقليدية المرسومة.
كما أن للأمة الديمقراطية دبلوماسية خاصة تعتبر من أبرز الوسائل لتكريس السلم والعلاقات المفيدة، لا لإشعال فتيل الحروب، وهي تعبر عن وظيفة أخلاقية وسياسية نبيلة يؤديها الناس الحكماء، وتتبنى الأمة الديمقراطية الفضائل السياسية والأخلاقية المتشكلة من ثالوث المجتمع الديمقراطي الأيكولوجي وحرية المرأة، وتهدف لأن تصبح أساسًا لسياستها الخارجية، وتستند في علاقاتها الدولية والإقليمية إلى استراتيجية السلام والحوار والصداقة.
الدبلوماسية التي اتبعتها الثورة في الوصول إلى المجتمعات والشعوب دون السلطات، للتعريف بالمنطقة ومشروعها، نجحت في كسب تأييد شعوب العالم التي ضغطت على حكومات بلادها لدعم ومساندة شمال وشرق سوريا، رغم الحرب السياسية التي تمارس ضد هذه المناطق والهجمات العسكرية التي تتعرض لها.
كما أن الأمة الديمقراطية تتخذ نظام الدفاع الذاتي أساسًا، فلكل كائن حيّ نظام دفاعي خاص به، وأن مفهوم الدفاع المشروع في الأمة الديمقراطية على حماية الوطن والشعب، يعترف بحق الجماعات بالدفاع المشروع.
وبناء عليه شكل أهالي شمال وشرق سوريا قواتهم العسكرية منذ بداية الثورة، وبدأت بوحدات حماية الشعب في التاسع عشر من تموز لعام 2012 وصولًا إلى قوات سوريا الديمقراطية التي تحظى اليوم بدعم كبير من العالم، نظرًا لما حققته في الدفاع عن الإنسانية ضد المجموعات المرتزِقة والإرهابية.
في نهاية المطاف يؤكد متابعون أن هذه الذكرى للثورة التي غيرت مسار التاريخ في المنطقة وحفرت علامةً فارقة في مسار الأحداث التي عاشتها سوريا يستوجب على شعوب شمال وشرق سوريا التمسك بما تم إنجازه وإن تزيد هذه الشعوب ثقتها بنفسها وبقوتها وتماسكها وثقافتها وأفكارها وطرحها؛ لأنها هي الوحيدة القادرة على أن تحدد مصيرها وأن تحافظ على مكتسباتها التي حققتها بدماء أبنائها وبناتها وسطرت بها أسمى البطولات في دحر الإرهاب والديكتاتورية.