مع بداية الحراك الشعبي في سوريا عام ألفين وأحدَ عشر في منتصف شهر آذار، مطالباً بالحرية والكرامة وتحقيق الديمقراطية في البلاد، وعلى إثر الثورات والانتفاضات، التي حصلت في الشرق الأوسط وربيع الشعوب وخاصة الشعب الكردي الذي عانى من إنكار حقوقه المشروعة، عبر استخدام مشاريع عنصرية وشوفونية ضده، وبعد الحراك تبين أن هناك سياسية إقليمية ساعية لجر الحراك وحرفه عن مساره الحقيقي. لذا؛ كان لا بد من دراسة واقع المنطقة والحالة الشعبية المتنوعة وانتهاج سياسة وفلسفة صحيحة، وهي “الخط الثالث” الذي اعتمد الوعي المجتمعي لدى شعوب المنطقة من كُرد وعرب وسريان وأرمن وشيشان وآشوريين ونبذ التعصب القومي والديني والطائفي، والذي كان أحد أسباب تفجر المشهد ضد حكومة دمشق عام 2011 ولذلك جاءت ثورة 19 تموز عام 2012 في مدينة كوباني تصويباً للمسارِ الثوريّ والوطنيّ.
ثورة 19 تموز.. ولادة عسيرة في ظروفٍ معقدة
مع انطلاق الحراك الشعبي سارعت الدول الإقليمية للركوب موجة الحراك والبحث عن أطماعها في سوريا كالاحتلال التركي الذي انقلب على صداقته الوطيدة مع حكومة دمشق، وبدأ يعد العدة لاحتلال الأراضي السورية عبر دعم مجموعات مرتزقة، وكذلك قطر الإخوانية باشرت بدعم تنظيماتٍ متطرفة؛ ساهمت في عدم إنجاح ثورة السوريين لأن المجتمع الدولي بات ينظر إلى أن البديل عن نظام الحكم في دمشق هو الإسلام الراديكالي لذا بات يتعامل مع أهون الشرين على الساحة السورية، وبدأ يفكر بإدارة الصراع عوضاً عن حله.
هذه السياسات الإقليمية التي عملت على عسكرة الثورة وحرفها عن مسارها الحقيقي وهو ما شرعن لحكومة دمشق أن تجد لنفسها مبرراً وفق ما طرحته من نظرية “المؤامرة” والتي وضعتها في منطق تدمير الأسس التي بُني عليها حراك السوريين وبدت في كم أفواه مئات آلاف السوريين الذين نزلوا إلى الشوارع بعد أن كسروا كل صناديق الخوف والقهر والرعب وبدؤوا يرفعون الصوت بمطالبَ مُحقّة، إلا أنّ هذا الحراك الشعبيّ سرعان ما تم دفعه إلى مسار تصعيديّ، وتحويله إلى صراعٍ بين طرفين يسعى أحدهما لحيازة السلطة والآخر للاحتفاظ بها وذلك من خلال الصراع بين نظريتي الثورة والمؤامرة.
شرارة الصراع المسلح كان عنوانها جسر الشغور في ريف إدلب بعد ما يقارب ثلاثة أشهر فقط من اندلاع الحراك الشعبي ليتدحرج المشهد ككرة الثلج إلى مناطق أخرى وأحداث عنفٍ أكثر ضراوة وتعقيداً في المنطقة ليحدث هذا المشهد انشقاقات عمودية في صفوف جيش حكومة دمشق وباشرت الجهات المسلحة في الانقسام فيما بينها بما يتناغم مع الجهات الداعمة لهذه التشكيلات وتبتعد رويداً رويدا عن الهدف الذي خرج لأجله السوريون.
الرقعة السوريّة باتت مسرحاً لمشهد تسلّحٍ عشوائيّ، وفوضى لانتشار السلاح الذي تدفقَ عبر الحدود ليكونَ عاملَ تأجيج الصراع، وسرعان ما وقعتِ الثورة السوريّة في جملةِ مطبات منها السعيُ للسلطةِ والخطابُ الفئويّ والمذهبيّ، ولتصبحَ سوريا خلال فترةٍ وجيزةٍ ميدانَ حربٍ عالميّةٍ تجسّد صراع إرادات متناقضة، وكلٌّ يحاولُ فرضَ أجندته الخاصة، ويحسّن شروط تفاوضه من أجل مصالحه عبر المفصل السوريّ.
وبعد متابعة الواقع المرير الذي باتت سوريا تنزلق إليه جاءت ثورة 19 تموز بعد أن بدأت البلاد تدخل في حالة من التشظي والانقسام وبدأت تأخذ سوريا حالة صراعٍ مذهبيٍ عنصري وهذا ما وعت له شعوب شمال وشرق سوريا وتخطته بفلسفة الأمة الديمقراطية والعيش المشترك وفق رؤية القائد والمفكر عبد الله أوجلان لتأخذ على عاتقها خطاً ثالثاً ينبذ الخطاب العنصري ويدعو لتكاتف الشعوب في سوريا وفق حلٍ ديمقراطيٍ ينهي معاناتهم ويُخرجهم من عنق زجاجة المصالح الدولية.
ثوابت وقيم ثورة 19 تموز
ولادة ثورة 19 تموز على الرغم من أن ولادتها كانت عسيرة في خضم الصراعات الإثنية والعقائدية والقوموية إلا أن ثورة تموز أسست للإدارة الذاتية الديمقراطية بعد أن تم إعلانها في “مقاطعة الجزيرة وكوباني وعفرين” في كانون الثاني 2014وقدمت مشروع الإدارة الذاتية على أنه أساس حلٍ لكل المناطق السورية للخروج من عباءة التعصب والانقسام الذي تحاول الأنظمة الرأسمالية ترسيخه على الساحة السورية.
فثورة 19 تموز ارتكزت لعدد من الثوابت والقيم وعلى رأسها أن الحل سيكون سورياً في نهاية المطاف، وأنه لا عداوة بين السوريين على أساسٍ ديني أو مذهبي أو عرقي، لذا عملت ثورة تموز على أساس السلميّة تجاه السوريين، وتبنت مبادرات الحلّ السياسيّ السلميّ في كثيرٍ من المناسبات، آخرها مبادرة من تسع نقاط حددت فيها العناوين الأساسيّة للحل السياسيّ ومنها الحفاظ على وحدة سوريا إطاراً للحلّ السياسيّ والاعتراف بالحقوق المشروعة لسائر الشعوب التي تشكِّل المجتمع السوري، والنظام الديمقراطيّ والتوزيع العادل للثروات الموارد الاقتصاديّة الوطنيّة، ومكافحة الإرهاب وإنهاء الاحتلال التركيّ للأراضي السوريّة، وعودة اللاجئين السوريين والاستعداد لاحتضانهم.
فدولة الاحتلال التركي لم تخفِ ملامح عدائها لهذه الثورة التي تعاملت معها على أساسٍ شوفوني عنصري بغيض وتدرك أن هذا النموذج إن كتب له النجاح والاستمرار على الرقعة السورية وفق مبادئ الديمقراطية الحقيقية فستهدد أركان نظامه الشوفوني، لذا لم يوفر جهداً لعرقلة مسارها الديناميكي على الأرض في الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وحماية المكتسبات التي تم تحقيقها بدماء الآلاف من شهداء هذه الثورة التي مهدت الطريق للانتصارات في جميع مناطق شمال وشرق سوريا.
19 تموز أثبت للعالم أجمع أنه جاء بثورةَ مجتمعية متجاوزةً مفاهيمَ النخبِ والطليعةِ أو الطبقة والفئة التي تتطلع إلى حيازة السلطة، كما لم تكن استجابةً لمتغيّر مرحليّ طارئ؛ لأنّها حينئذ لا تتجاوز البعد السياسيّ وتصبح انقلاباً للاستيلاء على السلطة، لأنّ الثورة بمعناها الأخلاقيّ هي انتقالٌ مجتمعيّ من حالةِ العقمِ والانقطاع إلى الإنجاز والتواصلِ، وإنهاءِ الوصايةِ والفسادِ والتضييقِ على الحريات، وحالات الخوف، وبالمجمل هي تحصينٌ للحياة في المجتمع، وبذلك فهي ليست مشروعاً ينتهي بسقفٍ زمني محددٍ بل منفتحة الآفاق على التطوير.
سياسيون يرون إن إعلان الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا جاء نتيجة التضحيات الجسام من خِيرة شبان وشابات شعوب المنطقة في وحدات حماية الشعب والمرأة وكافة القوات المنضوية تحت لواء قوات سوريا الديمقراطية، مؤكدين أنهم لن ينسوا الدور الريادي والطليعي البارز الذي لعبته المرأة المناضلة في كافة الساحات في نجاح الثورة وتحقيق مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية؛ حيث أثبتت المرأة وجودها وأكدت على أنها تمثل الإرادة الحرة في المجتمع وأن حرية المجتمع وتحقيق العدالة والمساواة يتم من خلال المرأة الحرة.
فانضمام المرأة لصفوف المقاومة كانت نتيجة التضحيات الغالية، التي قدمت فيها بطلاتٍ مقاومات أمثال جيندا، روكن، وراشين، أوزغور وزوزان وأصبحن رمزاً للمقاومة والثورة والتي استمرت المرأة في تضحياتها وصولاً للسياسية هفرين خلف، والأم عقيدة وغيرهن من المناضلات اللواتي حملن لواء الثورة وناضلن في سبيل تحقيق أهدافها.
ثورة على أسس ديمقراطية ترسخ أركانها
مبادئ ثورة 19 تموز أثبتت أن الحل لن يكون في الجولات المكوكيّة لمباحثات جنيف وأستانة وسوتشي والتي فعلياً لم تقدم أي مقاربة حقيقية ومنطقية للحلّ السياسيّ والنظام السياسيّ لم يغادر موقعَ الخطابِ القوميّ الأوحد، وحصر في نفسه ثلاثيّة (الوطن والدولة والنظام)، فيما واصلت من تسمي نفسها بالمعارضة انشطارَها وانقسامَها على نفسها بتعددِ الجهاتِ الخارجيّةِ الداعمة لها، فتعددت منصاتُها وتبادلت فيما بينها خطاباتِ التخوين، وتحول مسلحوها إلى مرتزقة بيد دولة الاحتلال التركي فكانوا أداة احتلال مناطق سوريّة، أضحت ملاذا آمناً لمرتزقة “داعش” ومتزعميهم الإرهابيين.
فبعد مرور 12 عاماً على الثورة لا زالت ثورة تموز تجابه أعداءها لما تحمله من حلولٍ حقيقية قائمة على أسس الديمقراطية وفق مفاهيم ترتكز على المجتمع والأخلاق، التي أفرزت إلى اليوم مئات المبادرات واللقاءاتِ الحواريّة الموسّعة مع الأحزاب والشخصيات الاعتباريّة والوطنيّة للتعريف بمشروع الإدارة الذاتية وأطرها الفكريّة ومناقشة سبل إنهاء الأزمة، في مسعى لإنهاء المعاناة والانتقال بالسوريين إلى بر الأمان بعيداً عن مستنقع المصالح الدولية والإقليمية والاستثمار بمصير السوريين.
مواكبون لهذه الثورة يؤكدون أنها أصبحت مثالاً للشعوب، سيما وأن المرأة هي من حملت شعلة الثورة لتنير درب الشعوب التواقة للحرية لأنها ومنذ انطلاق شرارتها بُنيت على أساس تغيير الذهنية. لذا؛ فإن الركيزة التي استندت إليها للوصول إلى هدفها المنشود وإدامة الثورة ونشرها هو الفكر وليس السلاح إنما تم استخدام السلاح وفق الحق المشروع للدفاع عن النفس.
القائمون على مشروع الإدارة الذاتية يؤكدون مراراً وتكراراً بأن النظام الجديد في المنطقة هو مشروع الأمة الديمقراطية، الذي وجد طريقه إلى النور مع انطلاق ثورة التاسع عشر من تموز في شمال وشرق سوريا، فبدأت عمليات تشكيل المجالس المحلية والكومينات التي كانت مهامها الأولى هي تنظيم المجتمع، وتقديم الخدمات له، ونشر التوعية بين صفوفه، وتوجيهه نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي، وبناء نظام ذاتي للحماية، ونشر المبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين، مع مراعاة تنوع النسيج الاجتماعي، ووجود العديد من الشعوب التي تحلّت بخصوصية ومارست حقوقها بأشكالها كافة.
فالخيارُ الوطنيّ لثورة 19 تموز والنقلة النوعية على الصعيد الفكري لم يمنح أعداءها فرصة جرها إلى مستنقع الحروب العبثية بل كانت أنموذجاً في الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وسلامتها وعملت على مأسسةِ المجتمع وتفعيلِ الدورِ الخدميّ للمؤسسات، ولم تكن بمنأى عن محاولات التشويه والتشهير ووضع العصي في عجلات التطوير والبناء إلا أنها واصلت لعبَ دورٍ بناءٍ يعتمد على أسس المواطنة الحقيقية.
بالاعتماد إلى وحدة إرادة الشعوب المتعايشة بالتضامن والتكاتف، وتنظيمها من النواحي والجوانب الاجتماعية والخدمية والأمنية، وتحقيق أرضية جيدة للحماية من الهجمات والخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر إلى جانب تثبيت أطر المستقبل الديمقراطي للسوريين التي تمثل آمالهم للتحول الديمقراطي ومحاولات خنقها ما هو إلا دليل على نجاح مسارها.
وبناءً عليه لا زال العمل مستمراً حتى يومنا الحاضر لترسيخ نظام الأمة الديمقراطية، وفق الإيمان المطلق أن الثورة لن تنجح إذا اقتصرت على الجانب العسكري فقط، فكان لا بد من ترسيخ الفكر والواقع الديمقراطي في صفوف المجتمعات المتعايشة في المنطقة وهذا ما تم العمل عليه ليضاف نصر آخر إلى جانب النصر العسكري على مرتزقة داعش، وهو النصر الفكري الذي باتت المنطقة تنعم بفضله بالأمن والأمان بعد أن تمكنت ثورة 19 تموز من بناء علاقة قوية فيما بين الجانب النظري والعملي، وهذا ما حقق نقلاتٍ نوعية فكرية قوية، وهو ما يراهن عليه إقليم شمال وشرق سوريا اليوم لترسيخ أركان ثورة الـ19 من تموز والحفاظ على مكتسباتها في التحول الديمقراطي الذي يخدم تطلعات السوريين.