ما تزال أصداء قضية كوباني تتردد على مستوى باكور كردستان وتركيا والعالم؛ وذلك على خلفية إعلان المحكمة التركية قرارها في هذا الشأن والقاضي بالحكم على عدد من السياسيين الكرد أحكاما طويلة، أبرزها الحكم بالسجن مدة 42 عاماً على صلاح الدين دميرتاش، ومدة 30 عاماً على فيغان يوكسكداغ، الرئيسين المشتركين السابقين لحزب الشعوب الديمقراطي.
وتعد قضية كوباني إحدى الأدوات، التي يستخدمها حزب العدالة والتنمية في صراعاته السياسية داخل باكور كردستان وتركيا، وذلك في خرق واضح للأصول القضائية المتعارف عليها، والتي تؤكد على فصل الخلافات السياسية عن السلك القضائي.
وعلى الرغم من معرفة دولة الاحتلال التركي هذه الخصائص، إلا أنها عازمة على إقحام ألاعيبها السياسية في القضاء التركي، وذلك بسبب عدم توفر أي أدلة قضائية ضد المتهمين في قضية كوباني، وإنما تقتصر حيثيات الموضوع على مواقف سياسية سجلها حزب الشعوب الديمقراطي إبان هجوم مرتزقة داعش على مدينة كوباني في عام 2014، حيث دعا الحزب، من جملة ما دعا إليه، إلى الكف عن دعم وتسليح مرتزقة داعش في كوباني وفتح الطريق لمساندة الشعب والقوات العسكرية فيها.
حقيقة قضية كوباني
وجاءت تسمية القضية باسم “قضية كوباني” على خلفية الاحتجاجات وأعمال العنف، التي شهدتها تركيا عقب هجوم مرتزقة داعش على مدينة كوباني في إقليم شمال وشرق سوريا، بمحاذاة منطقة سروج التابعة لمدينة رها في باكور كردستان، وذلك في أيلول 2014؛ لأن تحرير المدينة بداية لانطلاق ثورة التاسع عشر من تموز في شمال وشرق سوريا، وتأسيس الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا.
على خلفية هجمات مرتزقة داعش على كوباني، دعا الشعب الكردي وقواه السياسية في باكور كردستان إلى ضرورة دعم مقاومة كوباني ومنع سقوطها في يد مرتزقة داعش، وعلى إثر دعوة وجهها حزب الشعوب الديمقراطي، توجه آلاف الكرد في باكور كردستان إلى الشوارع، وإلى المدن الواقعة على الحدود مع روج آفا للمطالبة بدعم ومساندة مقاومة كوباني.
وعلى خلفية هذه الاحتجاجات، اعتقلت قوات الأمن والشرطة التابعين لدولة الاحتلال التركي المئات من المتظاهرين وزجهم في السجون بتهم مختلفة أبرزها “المساس بوحدة الدولة وسلامة أراضيها”، وقد فتحت السلطات التركية تحقيقاً في أحداث كوباني عام 2014. وفي نطاق التحقيق، تم إعداد لائحة اتّهامات بحق الرئيسين المشتركين لحزب الشعوب الديمقراطي دميرتاش وفيغان، يوكسكداغ، وعشرة من برلمانيين آخرين من الحزب. وفي 20 أيار 2016، تم رفع الحصانة البرلمانية عنهم بأغلبية الأصوات في البرلمان، حيث أيّدت الأحزاب المعارضة مقترح السلطة. وبرر رئيس حزب الشعب الجمهوري السابق كمال كليجدار أوغلو موقفه: «السلطة القضائية غير مستقلة، لكن لا نريد الاختباء وراء درع الحصانة البرلمانية. لائحة الاتهامات التي وضعها حزب العدالة والتنمية تتعارض مع الدستور، لكننا سنقول نعم للمقترح».
تعرية القضاء التركي
قضية كوباني هي من أبرز القضايا التي تُعري القضاء التركي وتكشف مدى عدم نزاهته، وإقحامه في السياسة وتبنيه مواقف حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، حيث لم يستطع هذا القضاء، طيلة فترة المحاكمة، أن يقدم دليلاً قضائياً واضحاً يُثبت التهم المنسوبة إلى المعتقلين على خلفية هذه القضية، وإنما اكتفى بتوجيه التهم لفظيا دون تدعيمها بأي قرائن أو إثباتات قانونية، الأمر الذي عدَّه محامو الدفاع عن المعتقلين عبارة عن مناكفة سياسية عن طريق القضاء، يسعى من خلالها حزب العدالة والتنمية إلى تسجيل مواقف سياسية ضد الشعب الكردي وقواه السياسية.
وعلى الرغم من الاثباتات القطعية، التي قدمها محامو الدفاع حول عدم مشروعية هذه المحاكمة قضائياً، إلا أن محاكم العدالة والتنمية استمرت في هذه المحاكمات، وقد أصدرت تلك الأحكام الجائرة بحق السياسيين الكرد المعتقلين.
الإجهاز على مرحلة السلام
جاءت قضية كوباني في خضم المفاوضات التي كانت تدور بين حركة التحرر الكردستانية، ودولة الاحتلال التركي بغية حل القضية الكردية في باكور كردستان، والتي عُرفت بمرحلة السلام، حيث حقق فيها الكرد تقدماً ملحوظاً على طريق استعادة شيء من حقوقهم في باكور كردستان، إلا أن دولة الاحتلال التركي، وإلى جانب مراوغتها الدائمة لإفراغ هذه المحادثات من محتواها، ابتدعت “قضية كوباني” للتملص من تلك المحادثات والعودة إلى سياساتها العدائية تجاه الشعب الكردي، وبالفعل هذا ما حدث. حيث أنهت قضية كوباني مرحلة السلام تلك دون أن تترك أي أمل في العودة إليها، وقد كثفت تركيا هجماتها الاحتلالية ضد حركة التحرر الكردستانية في جبال كردستان، وكذلك صعدت من حدة لهجتها ضد الشعب الكردي في مدن وبلدات باكور كردستان.
ردود فعل
وفي إطار موجة من ردود الأفعال الحقوقية والدولية، وصفت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في بيان صحافي “إدانة المحكمة التركية لـ 24 سياسياً كردياً بتهم ملفقة بارتكاب جرائم ضدّ الدولة” بأنها “نتيجة محاكمة جماعية سياسية، وغير عادلة بشكل واضح”.
كما أبدى مقرّر تركيا في البرلمان الأوروبي ناتشو سانشيز أمور، ردّة فعل رافضاً الاجتماعات، التي عقدها وزير الخزانة والمالية التركي محمد شيمشك في بروكسل: “يظهر الظلم الذي تعرّض له دميرتاش الهدف من جولات محمد شيمشك للترويج لمصداقية الاقتصاد التركي، وهو مجرد مضيعة للوقت. مثل هذه الإجراءات والنظام القضائي الخاطئ يُضعفان صدقية تركيا. ولا يمكن لأي شركة الحضور في مثل هذه البيئة، حيث يتمّ التشكيك باستمرار في العدالة”.
من جانبها، قالت مديرة برنامج تركيا في معهد الشرق الأوسط (مقره واشنطن) غونول تول، في منشور لها عبر منصّة “اكس”: إن “قضية كوباني، كما قضية غيزي، سياسية، ومن الصعب على أردوغان تصحيح المسار، لتحالفه مع القوميين الأتراك”، مشيرة إلى أن “دميرتاش يدفع ثمناً باهظاً مقابل تصريحاته”، في إشارة إلى وعده لأردوغان بفعل ما يمكن فعله كي لا ينجح في انتخابات عام 2015 حينما قال: “لن نجعل منك رئيساً مرّة أخرى”.
وامتدادا لردود الفعل الدولية، أخذت “قضية كوباني” صدى واسعاً في كبريات الصحف والمجلات العالمية، والتي في مجملها عدتها قضية سياسية دون أي جوانب قانونية.
وبذلك أشارت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية إلى «قضية كوباني»: «حكمت محكمة تركية على 24 سياسياً مؤيدين للكرد بالسجن لفترات طويلة بعد إدانتهم بارتكاب جرائم متعددة»، بأنها «بمثابة محاولة لإسكات المعارضة في تركيا».
فيما قالت وكالة «رويترز» للأنباء: إن القرار قد يؤدي إلى توترات سياسية، واصفة دعوى كوباني بأنها «قضية سياسية».
ورأت صحيفة «دي فيلت» الألمانية في خبرها، الذي حمل عنوان «الحكم على السياسي الكردي دميرتاش بالسجن لمدة 42 عاماً»، بأن «السياسي الكردي البالغ من العمر 51 عاما، والمعتقل منذ عام 2016 كان منافساً خطيراً لأردوغان لفترة طويلة».
وذكرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية، أنه «كان يُنظر لدميرتاش على أنه منافس سياسي لأردوغان».
وقالت وكالة «أسوشيتد برس» الأميركية: إن القضية المرتبطة باحتجاجات الكرد، الذين وجدوا موقف الحكومة التركية غير مبالٍ لهجوم مرتزقة داعش على مدينة كوباني الحدودية في سوريا، فهي «قضية سياسية».
فضلاً عن أن الإعلام التركي المعارض والمستقل على حد سواء والذي تناول القضية بشكل مستفيض، فأفرد عشرات المقالات للتأكيد على أن القضية سياسة، والأحكام الصادرة فيها استندت على تهم سياسية ملفّقة لا تحمل أي أساس قانوني.
“ديمقراطية أردوغان”
تُلخص قضية كوباني عقلية حزب العدالة والتنمية في تعامله مع قضايا الديمقراطية والعدالة في باكور كردستان وتركيا، حيث يسعى الحزب بزعامة أردوغان إلى خنق الأصوات المعارضة لسياساته بشتى السبل والوسائل، والتي في مجملها تتنافى مع أسس العمل السياسي المتعارف عليها تاريخيا، والتي ترفض استخدام النفوذ والسلطة في المناكفات السياسية، وهذا ما لم يتعلمه أردوغان وحزبه حتى اليوم.
لم تكن قضية كوباني هي القضية الوحيدة في هذا المضمار، فقد كانت مسألة الاستيلاء بالقوة على بلدية جولمرغ وبعض بلديات باكور كردستان الأخرى التي خسرها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية الأخيرة، جزء جديد من هذه السياسة.
وتعود هذه السياسات إلى العقلية القومية الشوفونية التي يتمتع بها أردوغان وحزبه، إضافة إلى شركائه في السلطة في الحركة القومية التركي، والذين أهملوا منذ تسلمهم مقاليد الحكم القضايا الاقتصادية والاجتماعية، التي تهم المواطن التركي، وركزوا على مسألة محاربة المسائل الديمقراطية، سواء ما يتعلق بحقوق الشعوب الأخرى الموجود في تركيا، وعلى رأسهم الشعب الكردي، أو ما يتعلق في تعاملهم في معارضيهم السياسيين من الأحزاب السياسية الأخرى الموجودة في تركيا.