سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

رؤية دينيّة حول الكذب المنشور والصدق المغمور

د. علي أبو الخير_

يعيش أغلب المسلمون في شيزوفرينيا دينية/ أخلاقية ليس لها نظير، فهم يؤدون الفرائض كلها، ولكنهم يستبيحون الكذب، ويعتبروه حلالاً طيباً، أو على الأقل كذباً أبيضاً لا ضرر منه، أو أنهم في حكم المضطرين، فهم يكذبون في البيت والشارع والصحف والفضائيات، يكذب الحكّام على المحكومين، ويكذّب المحكومون بعضهم على بعض، ثم ينتقدون الكاذبين.
تلك مقدمة لازمة عند الحديث عن الكذب المباح المنشور والصدق المغمور المحظور في تاريخ المسلمين، وهو تاريخ كاذب كذوب، جاء في وجود النطع والسيف، ورد عن الفقهاء عن النبي الكريم طوال التاريخ أن الكذب مباح في ثلاثة مواضع وهي الكذب في الحروب، والكذب للإصلاح بين الناس، وكذب الرجل على زوجته أو العكس.
إن الإسلام منذ البداية ضد الكذب والكاذبين، مقت القرآن الكريم الكذب على إطلاقه، وقد وُرد ذم الكذب في القرآن 287 مرةً، نورد القليل منها، مثل ما جاء في سورة الزمر: “فمن أظلم ممّن كذب على الله وكذّب بالصدق إذا جاءه”، وفي سورة الأعراف: “ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته” وفي سورة الزمر “ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين”، وغيرها الكثير من الآيات التي تُشين الكذب وتتوعد الكاذبين سواء تكذيب المرسلين أو الكذب في الحياة العامة.
وقد ورد على النبي الكريم حبه للصدق وكراهيته للكذب، فقد روى البخاري عن ابن مسعود إن النبي قال: “إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا”.. إلى هذه الدرجة من حب الصدق وكراهية الكذب، فالكذب ضد الصدق ولا يكون المؤمن صادقاً وكاذباً معاً، ولكن المسلمين جمعوا بين الصفتين، في انتهازية دينية / اجتماعية، بعد أن رأوا أن الكذب مباح في ثلاثة مواضع، يمكن توسيع كل موضع منها، ففي الحرب استباحة كل شيء، فالحرب خدعة، وهي طبعاً خدعة عند إدارة المعارك، وإبطال خطط العدو، ولكن كيف يكون الكذب في مرتبة الصدق في نشر الشائعات ضد الأبرياء، وضد الخصوم المسلمين وغير المسلمين، وكيف يكون الكذب مباح عندما يكذب الرجل على زوجته أنه يحبها، أو أنها تحبه طالما يمارس في السر ما يخجل منه في العلانية، وكيف يمكن الإصلاح بين الناس بالكذب، رغم أن من ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق، ومن ضاق عليه الصدق، فالكذب خيانة لكل الوسائل.
لقد ورد عن النبي عليه السلام كما ورد في الصحيحين عن علي عن النبي إنه قال: ” لا تكذبوا عليّ فإنه من يكذب عليّ يلج النار”، وأيضاً في البخاري: “من تقوّل عليَّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده في النار”، ونفهم من الأحاديث حقيقتين: الأولى: إن الكذب على النبي جاء في حياته الشريفة نفسها، من رجال مفترض أنهم من الصحابة، ولذلك جاء الحديث بدون ذكر كلمة متعمداً، أي أن الكاذب كان بُحسن النية منهم، ولكن النبي جعله في نطاق الكذب، والثانية: هي التي نفهم منها سر منع الرسول من كتابة الحديث النبوي خوفاً من وجود كذب بحسن نية إيمانية، وبالتالي منع تدوين غير القرآن.
ولكن المسلمين بعد ما يقارب من قرن ونصف قرن دوّنوا وكتبوا ورصدوا، ثم جاء الحديث الموضوع عن عمد، وعن نية مبيتة لتحريف الدعوة كلها، ومن ثم وردت أحاديث الكذب على النبي عن عمد، ففي حديث رواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: “من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار”، وهنا جاء ذكر الكذب المتعمد، خاصةً بعد أن شاع الحديث الموضوع شيوعاً قلبَ كثيراً من معاني القرآن الكريم، فمثلاً جاءت أحاديث نصر النبي بالرعب، ومن بدل دينه فاقتلوه وطاعة الحكّام لتقلب الدعوة، وعندما حاول بعض الوضّاع الصالحون تخويف الناس وترغيبهم، قالوا “نحن نكذب للنبي لا نكذب عليه”، وهو كذب مباح في عرفهم، وليس في عُرف القرآن، وبسبب ذلك انتشر الكذب على ألسنة الخلفاء والرعية على السواء، ومن الكذب المباح نشر أحاديث مناقب للصحابة لم ترد عن النبي، ومن الكذب نشر أحاديث تتنبأ بحكم الأمويين والعباسيين لترسيخ طاعة الرعية لهم، وغيرها من الأحاديث الموضوعة، وإذا قلنا كذب مباح، فهذا يعني صدق محظور، ونختم بقول علي بن أبي طالب عندما سمع بعض الرجال يمدحون دهاء معاوية، فقال “إن معاوية ليغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس”، فالدهاء يعني الكذب على هذا، والصدق مع ذاك، والقتل غيلة والرشوة وغيرها من الموبقات، وجميعها ضد الدعوة والداعي، أليس من رجال الدين رجل رشيد؟!!