اختلطت الدماء بالأوراق التي تطايرت، واشتعلت حزناً على من طبعوها، ووقف من نجا عاجزاً أمام هول المشهد، لتتحول الصدمة والعجز إلى وداع أخير، هكذا وصف الناجون اللحظات الأخيرة للقصف التركي على مطبعة سيماف.
أصوات ضحكاتهم، وآخر كلماتهم، بقيت عالقة بين الأوراق المحترقة داخل مطبعة سيماف، فقد هدأت النار المشتعلة فيها إلا أن النار التي اشتعلت في قلوب رفاقهم مازالت موقودة، والصورة بقيت تتجدد، وما زالت الصدمة ترافقهم، فقد أنكرت ذاكرتهم حقيقة ما جرى، فيما بقيت أحذية وسترات الضحايا الملطّخة بالدماء بين الدمار تبين للناظر هول ما حدث.
لحظات ما قبل القصف
استقبل 27 عاملاً وعاملةً ضمن مطبعة سيماف يوم الخامس والعشرين من كانون الأول بنشاط ككل يوم، غير مدركين أن هذا اليوم مختلف، فهو سيأخذ معه زملاء العمل، وأصدقاء جمعتهم السنون، وأثناء انهماكهم بالعمل، والابتسامات، والحوارات المختلفة، دوى صوت الانفجار فتلاشت الابتسامة والكلمات على وقعه، ولكن العقول لم تكن تدرك أن قذائف الاحتلال قد تتجرأ لتقصف مطبعة كتب، إلا أن ذلك التخمين الذي تناقلوه وهم يستمرون بعملهم مع سماع دوي أول قذيفة لعله كان خطأ، وأن الاحتلال التركي لا يفرق بين مدني وعسكري أو صغير وكبير، لتكون القذيفة التالية في منتصف مطبعتهم.
“فاطمة علي” تعمل على مكينة ترقيم الدفاتر داخل المطبعة نجت من المجزرة، ولكن الصورة ترفض أن تتزحزح من ذاكرتها، وجهها الحزين، وعيونها الدامعة، كلما مرت تلك الثواني في ذاكرتها، تروي الحكاية فنظراتها عبرت عوضاً عن كلماتها، التي خرجت متكسرة.
فصورة أصدقائها مازالت عالقة في ذهنها، وهي تخرج من داخل دمار المطبعة، وتروي المشهد لنا وكأنه يمر أمام عينيها: “خرجنا إلى ساحة المطبعة بعد سماع دوي الانفجار الذي جرى، إلا أن الشهيدين فرحان وبيريفان والابتسامة لا تفارق محياهما طمئنانا، وأكدا أننا نخاف بسرعة، ومن المستحيل قصف مطبعة خاصة بالكتب”، مضيفةً ودموعها تنهمر: “للأسف لقد كان ظنهما خاطئًا”.
لم ترَ فاطمة بعدها بيريفان أو رفاقها فقد عادت إلى مكتبها مع أحد زميلاتها، وبعد ثوانٍ دوي صوت الانفجار الثاني، وقد كان في منتصف المطبعة، بينما فاطمة وأصدقاؤها نجوا من القصف بسبب حاجز الجدار بينهم.
صدمة وعجز
ثوان معدودة رافقت فاطمة لتدرك ما يجري فخرجت إلى ساحة المطبعة، ولكن الصورة اختلفت، لا ذلك النشاط، ولا تلك الضحكات التي تركتها بقيت موجودة، فقط نيران تلتهم ما نجا من المطبعة، ودماء، وشهداء: “لقد رأيتهم، وهم ساكنون فلا صوت ولا حركة، فيما رصدت عيناي صور الجرحى، وهم يئنون بألم أمامي، مشاهد لا أريد تذكرها”.
عبرت فاطمة عما شاهدته، وهي ترى رفاق عملها أمامها ساكنين: “شلت حركتي لقد كنت عاجزة، غير قادرة على الحراك، قدماي لم تعودا قادرتين على حملي خرجت من المطبعة وأمام عيني جثامينهم الطاهرة، لا أستطيع تصديق ما جرى، ثوان كانت كفيلة بأن توقف الزمن لساعات، لم أستطع فعل شيء”.
عقل فاطمة مازال غير مدرك لما جرى داخل المطبعة، فقد نجت فاطمة إلا أنها فقدت الكثير كما تقول: “لم تمر فترة كبيرة على عملي ضمن المطبعة، ولكننا كنا أسرة واحده فقد كنت أقضي كل يومي معهم، أشعر أنني فقدت جزءاً من عائلتي”.
اختتمت فاطمة حديثها بأن رفاقها قد تفاخروا بشهدائهم ليصبحوا اليوم منهم، بقولها: “من كانوا يطبعون صور الشهداء، حملت صورتهم ووسام شهادتهم”.
الوداع الأخير
كما بدأ يوم الاثنين لدى “آلان عثمان” محملاً بالنشاط والسعادة، وقد ودع رفاق عمله خارجاً لدقائق معدودة، لم يكن يعلم أنه يودعهم الوداع الأخير.
حيث خرج عثمان للقيام ببعض الأعمال بالفرع الثاني للمطبعة داخل سوق قامشلو، قبل قوع القذيفة ببضع دقائق فقط، ويقول: “لحظة وصولنا للفرع الثاني سمعنا من أحد العاملين هناك أن المطبعة قد قصفت، فعدت بسرعة إلى المطبعة، اعتقدت أنه خبرٌ كاذب، ولكنه كان واقعاً”.
وتحدث آلان عثمان عن لحظة وصوله للمطبعة: “لم يكن هناك أحد في المطبعة مجرد نيران تحاول الإطفائية إخمادها، وأوراق ودمار ودماء، كان كل شيء يحترق”، توجه عثمان إلى المشافي بحثاً عن رفاقه للاطمئنان عليهم.
وقد استشهد جراء القصف الإداري في المطبعة “فرحان خلف” والإدارية “بيريفان محمد”، و”حسين أحمد” وهو أحد مؤسسي المطبعة، والعاملون في المطبعة، “رياض معمو”، و”ريناس حميد” و”فرحان تمي”، فيما أصيب العديد من العاملين والعاملات بجروح متفاوتة الخطورة، وقد استشهد “جوان علي” متأثراً بإصابته بعد أربعة أيام من القصف.
من نجا يروي ما جرى
قابل آلان عثمان من نجا من القصف ليقصوا عليه بعض المشاهد التي رواها لنا: “لقد التقيت بسلمى التي تخاف من أصوات القصف كثيراً، حيث أخبرتني بعد أن خرجت سالمة من المطبعة، أنها بعد سماع صوت القذيفة أرادت العودة إلى المنزل، إلا أن حسين أحمد وهو منهمك بطباعة الأوراق جعلها تعود إلى غرفتها ممازحاً لها بأنها جبانة، فعادت وهي تتذمر من تلك التعليقات”.
فيما تابع: “بعد ثلاث دقائق من عودة سلمى إلى الغرفة وقعت القذيفة، وعندما خرجت إلى الساحة مرة أخرى رأت بيريفان وحسين على الأرض، فحاولت أن توقظهم فأمسكت بقدم بيريفان فلم تستيقظ لتحاول مع حسين، ولكنهم قد فارقوا الحياة”.
وقد التقى آلان عثمان أيضاً بزميلته في المكتب روبين التي تعمل معه في قسم التصميم، وهي تتلقى العلاج لإصابتها، فقد أصيبت بشظايا في يدها وأذنها، ويقول عما قصته له روبين: “لقد حدثتني أنها كانت تقف على باب غرفتها تراقب حديث حسين وفرحان وبيريفان بعد أن عاد الجميع إلى عمله، غير مدركة أنها قد تكون آخر مرة تراهم فيها”.
اختتم آلان عثمان حديثه: “الاحتلال لا يفرق بين مدني وعسكري، وهو يستهدف ثقافة الشعوب وحياتهم الآمنة ويسعى إلى ضرب منجزات الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”.