No Result
View All Result
المشاهدات 7
هيفيدار خالد_
كثيراً ما يترك المرء آثاراً جميلة خلفه بعد الرحيل، تبقى حاضرة في ذاكرتنا، وفي قلوبنا وأرواحنا، باعثة عبقها، الذي تحوّل إلى ميثاقٍ خالدٍ في ذاكرة كل حر، عبق يصعب نسيانه، لأنه قد لامس مشاعرنا بكلماتٍ، وقضايا كانت قريبةً من أرواحنا.
للعديد من الشعوب والمجتمعات عامة أفراد متميزون نساء ورجالاً، سطروا بنضالهم المتواصل، وكفاحهم العظيم، وتضحياتهم الجسام أروع الإنجازات، التي غزلوها بأناملهم، وقد ساهموا بأفكارهم النيرة بفتح صفحات جديدة ناصعة في تاريخ أوطانهم، وكتبوا ملاحم رائعة بأحرف من نور تليق بأبناء جلدتهم، وكشفوا الحقيقة، التي طالما سعوا لإظهارها بعزم وإصرار منقطع النظير.
في تاريخ الشعب الكردي لعبت شخصيات نسائية أدواراً مهمة، بعد أن برزت عبر نضالها وثقافتها، وتميزها بالعطاء وقيامها بأدوار غير نمطية في مجتمعها، بدءاً من حماية ثقافتها الأصيلة إلى الدفاع عن عائلتها ومجتمعها، ووطنها ضد المخاطر والغزوات الخارجية، والعديد من المجالات الأخرى، التي تركت أثراً بليغاً في الذاكرة الشعبية لأبناء جلدتها.
ظهرت خلال مسيرة الشعب الكردي الثقافية والاجتماعية شخصيات نسائية عديدة، كانت لها بصمة خاصة وفريدة، لا تمحى في مجال تطوير الثقافة والفن، والحفاظ على الهوية الكردية من الاندثار، بعد محاولات تغييرها ومحوها، وإنكارها، ومن ثم إلغاؤها، لا سيما من السياسات القمعية، التي تُنتهج ضد الكرد منذ سنوات طويلة وحتى يومنا هذا.
ومع بزوغ فجر حقبةٍ جديدة في تاريخ المرأة، التي بدأت بانطلاقة ثورة التحرر الوطني الكردستانية بقيادة القائد عبد الله أوجلان، الذي فتح المجال أمام المرأة للمشاركة بالنضال الثوري التحرري، فبدأت المئات من الفتيات الكرديات الانخراط في النضال الثوري، والمناضلة الكردية “شيلان باقي” أو “شيلان كوباني”، كما يحلو للجميع أن يسموها، إحدى هؤلاء الفتيات، اللواتي رأين في الحركة المكان، الذي وجدن فيه ذواتهن، والملجأ والمعين للتعبير عن سخطهن من جراء سياسات المنظومة الأبوية، التي تتحكم بإرادة النساء أينما كن، والوقوف ضد مفاهيم الذهنية العشائرية، والسلطوية، التي كانت تُفرض عليهن، نعم هي تلك الكردية الكوبانية، التي آلت أن ترتاد المدرسة سراً؛ لأن المجتمع بمدينتها آنذاك كان يرفض ذهاب الفتيات إلى المدارس، وتمكنت من تحقيق حلمها، ومواجهة النظام العشائري بكل إصرار وعزيمة.

شيلان ابنة مدينة كوباني الكردية، عاشت وترعرعت في كنف عائلة وطنية، تميزت بالقيم الوطنية الحقيقية. عُرفت بين أفراد عائلتها بتفوقها في دراستها، وتمكنت من تغيير مواقف عائلتها بضرورة ذهاب الفتيات أيضاً إلى المدارس وسلوك طريق العلم. تعرفت المناضلة شيلان في سن مبكرة على حركة حرية كردستان، وذلك في عام 1980، وبدأت مسيرتها في فرقة آكري الفنية في مدينة حلب السورية، وكانت من بين المؤسسات للفرقة. وفي ذلك العام ارتبطت بشخصية القائد عبد الله أوجلان وفكره. وانضمت إلى صفوف حركة حرية كردستان عام 1988، وبعد أن تلقت تدريبات في أكاديمية معصوم قورقماز العسكرية في لبنان، والنضال في كل من لبنان وسوريا، توجهت عام 1991 إلى جبال كردستان لمواصلة مسيرتها النضالية هناك، وكانت من أوائل النساء، اللواتي تمردن في وجه السلطات السورية، وقاومن التعذيب، متحلية بالإرادة الصلبة، ومبادئ رفض الرضوخ للظلم والاستبداد، رافضة حياة الذل والعبودية، بعد أن امتشقت السلاح وناضلت حتى الرمق الأخير ضد الأعداء في جبهات المقاومة كافة، فكانت مصدر القوة والثقة لرفيقات دربها، وكل ابتسامة من وجهها كانت رسالة حب وسلام أبدي.
وفي ربيع عام 1995، انعقد المؤتمر الأول لاتحاد حرية المرأة الكردستانية YAJK. وانتخبت شيلان في المؤتمر عضوة في اللجنة المركزية، وعُينت مسؤولة عن وحدات المرأة العسكرية في إيالة زاغروس، وفي عام 2003، ومع انعقاد مؤتمر حزب الاتحاد الديمقراطي في جبال كردستان، انتخبت شيلان لعضوية اللجنة المركزية.
وتابعت مسيرتها في روج آفا، وشاركت في مختلف النشاطات والفعاليات التنظيمية، وخلال فترة قصيرة تلقت المخابرات السورية معلومات تفيد بوجودها في روج آفا. وبعد المؤامرة الدولية ضد القائد آبو، وفشل النظام التركي بالقضاء على روح المقاومة لدى مناضلي الحرية، وفشل النظام السوري بالنيل من الدور القيادي لشيلان داخل سوريا وروج آفا، في التاسع والعشرين من تشرين الثاني من عام 2004، لجأت أجهزة المخابرات السورية إلى حبك المؤامرة وتسخير عملائها في العراق، وبعض الخونة من الكرد، وتم اغتيالها أثناء قيامها بمهمة على الحدود العراقية ـ السورية. استشهدت شيلان بيد الغدر مع أربعة من رفاقها، وهم، زكريا، وجوان، وفؤاد، وجميل.
نعم هي شيلان “ميساء باقي” إنها حقيقة وجوهر المرأة الكردية، التي انتفضت في وجه الذهنية الذكورية، صاحبة الإرادة الحرة، التي سارت على ضوء نهج القائد آبو وفلسفته، فكانت مثالا بارزا وواضحا على كسر المرأة الكردية قيود العبودية، ورفضها أن تكون آلة بيد النظم الاستبدادية، لتتحدى بنضالها مفاهيم الأنظمة الرجعية ليس بمنطقة الشرق الأوسط فحسب، بل في العالم أجمع، وتفجّرت في شخصيتها منابع الإبداع والأخلاق والثقافة والبطولة في صفوف حزب العمال الكردستاني، ولا يمكن الحديث عن مسيرة الشهيدة شيلان بمعزل عن كل هذا؛ لأنها لم تكن شاهدة حيّة على ملحمة الانبعاث البطولية، التي حققها شعبنا بل عاشت مراحلها بنفسها، ولعبت فيها دوراً رائداً.
تميزت شيلان الكردية، المناضلة، القيادية، الأديبة، الواعية، الإعلامية، الثورية، المثقفة، المتألقة بزيها العسكري وهيئتها البهية، ووجهها الباسم الملائكي الجميل، في آن معاً، تميزت بخصال وصفات جميلة، تفردت بعمق وصدق علاقاتها الرفاقية مع رفيقاتها ورفاقها في جبال كردستان، التي كانت أقدس الأماكن لها، تاركة أثراً بليغاً في نفس كل من عرفها. طوال مسيرتها النضالية كانت في بحث دؤوب عن الحقيقية وتعمقت في مجالات الحياة كافة، وفي الاختصاصات من الناحية الفكرية والثقافية، لتخوض معركة حقيقية في مواجهة الصفات والخصائص الرجعية، محدثة بذلك ثورة في المجالات والأصعدة جمعاء.
برعت شيلان في نضالها للبحث عن حقيقة المرأة في ذاتها أولاً، ومن ثم الغوص في تاريخها الطويل، الذي يمتد لآلاف السنين. كافحت في سبيل ترسيخ مبادئ أيديولوجية تحرير المرأة، التي طرحها القائد آبو في الثامن من آذار من عام 1998، في أذهان الجميع، وإجراء تغييرات جذرية في البنية الذهنية الذكورية. كانت كتلة من النشاط والحيوية، والعنفوان والعطاء، لا تعرف اليأس أو الخيبة، كرست جل حياتها، لفهم فكر وفلسفة القائد أوجلان، والتعمق في تحليلاته حول المرأة والتاريخ والشخصية الكردية، والشخصية الثورية والقيادية، وتطبيقها في الحياة حتى أنها جعلتها جزءا لا يتجزأ من حياتها الثورية؛ فقدمت لوحات مشرقة عن الإصرار والقوة والعطاء، وكانت خير ما يمثل المرأة في مقاومة الشعب الكردي وبطولاته.
كانت من الرفيقات الأوائل، اللواتي ساهمن بشكل فعال في تجييش المرأة الكردية في جبال كردستان، وتأسيس تنظيمها العسكري الخاص، وإعداد قياداتها، ومن أوائل المقاتلات، اللواتي تسلمن مهام القيادات العسكرية، وهي في ريعان شبابها، وأثبتت من خلال نضالها، أن المرأة الكردية قادرة على قيادة وحدات عسكرية في مواجهة الجيش التركي وحدها، وكسر الصورة النمطية المعروفة عنها، الرفيقة شيلان لم تنجح فقط في تسيير شؤون وحدتها العسكرية بل استطاعت قيادتها بنجاح في جبهات القتال الساخنة، وفي شتى الساحات، التي ناضلت فيها. إلى جانب عملها العسكري شاركت في المجال الفني في بداية مسيرتها الثورية، وحققت إنجازات كبيرة بعد أن بذلت جهوداً خارقة عمقت تراكمها الثقافي، وواظبت على تثقيف ذاتها والانخراط في مشاريع أدبية بالمجال التنظيمي والإنتاجي، حيث تمكنت من إدارة المؤسسة الإعلامية والثقافية لحركة حرية كردستان، ولعبت دوراً محورياً في هذه المؤسسات عبر المساهمة بكتابة مقالات سياسية وثقافية وإصدارها لديوان شعري باسم “عيد الزهور” تعبر فيه عن مشاعرها، وأفكارها بكل صدق وجرأة.
لعبت دوراً هاماً في حماية صفوف تنظيم المرأة لمواصلة نضالها، والسير على نهج القائد آبو، والوقوف في وجه محاولات تصفية حركة كردستان. الشهيدة شيلان أثبتت بقوتها وصلابة مواقفها، أنها مقاتلة، وفية لنهج حزبها والقائد ونموذج المناضلة، التي يُقتدى به في النضال الحزبي.
نعم وهبت نفسها للكفاح والمقاومة في عمر مبكر. إنها آلهة موطن الحقوق والحقيقة، زهرة الحب والحياة، انبثقت كسيل جارف نحو الحياة الحرة. منذ أن فتحت عينيها على الحياة، خاضت آلامها، وتذوقت أعذب ألحانها، كثيراً ما تراها تغني مع الحياة، ومرات تراها تكتب الحياة شعراً، وتحولها إلى أبيات أدبية موزونة، وقصائد حب أزلية. من وجهها الطفولي الملائكي تنبع البراءة والصفاء، كلماتها الجميلة المعبرة دخلت صميم وجداني منذ أن قرأت كتابها تحت عنوان “لأنني امرأة”. استرسالها الجميل في تحليلات الحياة، لفت انتباه كل من قرأ لها.
عندما قرأت يومياتها، تخيلت وكأنها تخاطبني، وتتكلم معي بفرح وغبطة لا توصف. وكأنها ملاك نزل من السماء. إنها زهرة دوار الشمس الجميلة، عاشت بكل كبرياء في مسيرة حياتها. كبرياؤها لا يوصف بالكلمات والعبارات، هي مليئة بالبراءة كزهرة لؤلؤ، كزهرة زنبق الوادي، التي تعيد السعادة للجميع. إنها زهرة النرجس، التي تحترم مشاعر وأفكار الآخرين، وتقدر عواطفهم، فاسمها شيلان يعني زهرة الحياة، وعبقها الرائع.
محاسنها، التي عرفتها أصبحت قوة لي؛ عرفت أن شيلان لم تعش كما تعيش الفتيات جميعاً. علمتنا أن ننير درب جميع الفتيات، اللواتي يعشن في ظلام الجهل والتخلف. علمتني بأن الحياة ليست نغمات من آلة العود، ليست شعراً نكتبه على دفتر مذكراتنا، بل هي أطول من الأنهار والبحار، وأكبر مما نتخيل. نعم يا سمراء اللون، وقوية الحظ، صاحبة الهيبة والجمال الفائق، على وجهكِ تلوح العظمة، وفي صوتك قوة وجهور، وجهك الذي كانت لا تفارقه الابتسامات… عاش بعظمة وكبرياء.
شكلت الرفيقة الشهيدة شيلان طريقاً واضحاً في ربط المبدأ بالواقع، وفي تحويل الفكر إلى فعل بعيد كل البعد عن التنظير والبحث وعن التشدق بالألفاظ، والعبارات الجوفاء. شخصية لا تحني رأسها لأي مفهوم خاطئ، أو أي مقاربة بعيدة عن نهج القائد آبو، فطوبى لروحكِ الطاهرة ودمائكِ التي بذلتيها من أجل صون الكرامة والحرية وتحقيق مستقبل واعد للأجيال القادمة من بعدكِ.
كنت وستبقين نبراساً للنضال والمناضلين في كل بقاع الأرض المقدسة، ومدرسة للثوار يستلهمون منكِ روح الإقدام والشجاعة ـ لأن الإنسان موقف، والموقف تضحيات، والتضحيات مشاعل نور تزيح الظلمة عن الدروب المضيئة للحرية ـ الهدف الأسمى، الذي وضعته رفيقتنا؛ اعتناقها للحرية وعطشها للحياة الحرة. يقول لينين “المثقفون عيون مجتمعاتهم” وشيلان اليوم قد تربَّعت على عرش المثقفين جميعهم، بعد أن أصبحت في ذاكرة ووجدان كل كردي قديسةً، واحتلت مكاناً في قلوب الشعب الكردستاني قاطبةً.
No Result
View All Result