سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

“وهجِ شمسِ في صباحٍ ربيعي مُفعمٍ بالاخضرارِ”

صبري يوسف (أديب وتشكيلي سوري)_

يكتبُ الشَّاعرُ المبدعُ القس جوزيف إيليّا، القصيدةَ كأنَّهُ في حالةِ خشوعٍ لوهجِ النّصِّ، تنسابُ المفردةُ بينَ يديهِ طيّعةً سلسةً في كلِّ المناسباتِ والمواقفِ والأحوالِ والحالاتِ، لا تستعصي عليهِ الكلمةُ، لأنَّ لغةَ الشّاعرِ منبعثةٌ مِنْ شهيقِهِ العميقِ وهو يجسِّدُ الحالةَ الشِّعريّةَ بتجلِّياتٍ شاهقةٍ، فلَمْ أقرأْ لَهُ نصّاً شعريّاً إلّا وأراهُ يحلِّقُ عالياً في فضاءِ الشِّعرِ الخلّاقِ، حتّى وإنْ كانَتِ القصائدُ رثائيّةً أو ما يعادلُها مِنَ المواقفِ الحزينةِ المتشابهةِ مَعَ عالمِ الرّثائيّاتِ، كحالةِ الأحزانِ والمواقفِ الكارثيّةِ المفجعةِ والأمراضِ، كما هي هذهِ القصيدةُ الّتي بينَ أيدينا، فقد وجدْتُ فيها سلاسةً مجنّحةً إلى وهجِ الأملِ والتَّأمُّلِ والتَّجلِّي والبوحِ الرّهيفِ وتخفيفِ الأسى والأنينِ عَنْ صديقِهِ الشّاعرِ جمال مرسى بوداعةٍ رهيفةٍ، مشجّعاً إيَّاهُ على مواجهةِ الأنينِ بعزيمةٍ عاليةٍ، إلى درجةٍ يجعلُنا في حالةِ أملٍ، وضياءٍ ونورٍ ساطعٍ مِنْ خلالِ انبعاثِ الآمالِ في عالمِهِ الشِّعريِّ!
ويُخطِئُ مَنْ يظنُّ مِنَ النّقَّادِ والمحلِّلينَ وقرّاءِ ومحلِّلي النُّصوصِ الشِّعريّةِ أو أيِّ نصٍّ أدبيٍّ، أنَّ قصائدَ المناسباتِ، تنتهي بانتهاءِ المناسبةِ، لأنَّ الشَّاعرَ القس جوزيف إيليَّا خلخلَ هذهِ الرُّؤيةَ الضَّيّقةَ، وحوَّلَ قصائدَ المناسباتِ مهما كانَ نوعُها وموضوعُها إلى قصائدَ شعريّةٍ خلّاقةٍ، تصلحُ للمناسبةِ الّتي كتبَ عنها وتصلحُ كقصيدةٍ يمكنُنا تعميمها لمناسباتٍ شبيهةٍ لها أو ما يشبهُها، أو تحويلها إلى قصائد مِنْ نوعٍ خاصٍّ رغمَ مناسبتِها الّتي كتبَها، فهي أي القصيدةُ عندَهُ، قصيدةٌ منبعثةٌ مِنَ الحالةِ الشِّعريّةِ الفيّاضةِ المنسابةِ المتدفِّقةِ كشلَّالٍ مِنَ الفرحِ، وكأنَّها غير منسوبةٍ لقصائدِ المناسباتِ بالمفهومِ المتعارفِ عليهِ، لأنَّ هذا الأمرَ يتوقَّفُ على شاعريّةِ الشَّاعرِ نفسِهِ! والشَّاعرُ القس جوزيف إيليّا طرحَ رؤيةً جديدةً في عالمِ الشّعرِ، إذْ أنَّهُ بالإمكانِ أنْ نكتبَ شعراً بديعاً شاهقاً عَنْ أيِّ موضوعٍ وبأيّةِ مناسبةٍ مِنَ المناسباتِ، ونجاحُ القصيدةِ وخروجُها مِنْ “فخِّ” المناسباتيّة يتوقَّفُ على مدى إمكانيّةِ الشَّاعرِ مِنْ بوحِ الشِّعرِ الّذي يقدّمُهُ عبرَ آفاقِهِ الشِّعريَّةِ المدهشةِ!
في هذهِ القصيدةِ وجدْتُ مساحةً رهيفةً مِنَ الأملِ، مِنَ الهدوءِ مِنَ التَّجلِّي مِنَ الوئامِ مِنْ قبولِ ما يحلُّ فينا مهما كانَتْ فواجعُنا كبيرةً، لأنَّ الحياةَ بحدِّ ذاتِها سلسلةٌ متتاليةٌ مِنَ الفواجعِ والنَّكباتِ والأوجاعِ والأمراضِ، لهذا علينا أنْ نستوعبَ هذهِ الفواجعَ بآمالٍ كبيرةٍ وبرؤيةٍ عميقةٍ ونعطي لكلِّ ذي حقٍّ حقَّهُ حتّى وإنْ كانَتْ ذروةُ الفواجعِ والأمراضِ وحتّى وإنْ كانَ الموتُ بعينِهِ! لأنَّ الحياةَ هي عبارةٌ عَنٍ رحلةٍ عابرةٍ ونحنُ البشرُ مجرّدُ زوَارٍ وضيوفٍ عابرينَ على وجهِ الدُّنيا، فلماذا لا نحترمُ ونصغي إلى كلِّ ما فيها مِنْ تنوُّعاتٍ سواءً كانَ فرحاً أو حزناً، ومِنْ هذا المنظورِ أودُّ التَّأكيدَ على أنَّ الشَّاعرَ جوزيف إيليّا هو شاعرٌ مدهشٌ في تطويعِ الكلمةِ وكأنّهُ جاءَ للحياةِ كي يكتبَ لنا شعراً بديعاً على أجنحةِ الأملِ والفرحِ والمحبّةِ والوئامِ، يُدهشُني بلغتِهِ الّتي تُشبِهُ الحلمَ، وتُشبِهُ حكايةَ شاعرٍ مندلقٍ مِنْ وهجِ الشَّمسِ في صباحٍ ربيعيٍّ مفعمٍ بالاخضرارِ!
يبدأُ الشَّاعرُ قصيدتَه بصيغةٍ حازمةٍ وحاسمةٍ، صيغةِ الواثقِ مِنْ توجُّهِهِ، مِنْ فضائِهِ المنبعثِ مِنْ أصفى تجلِّياتِ بوحِ الرُّوحِ، مِنْ عالمِهِ الفسيحِ، مِنْ تطلُّعاتِ آفاقِهِ الشِّعريّة، مُستخدماً صيغةَ فعلِ الأمرِ قُمْ، وكأنَّ هذا الأمرَ قابلٌ للتحقيقِ لمجرّدِ أنْ ينطقَ أمرَهُ لحظةَ المخاطبةِ، فهلْ لديهِ طاقةٌ إيمانيّةٌ خلّاقةٌ كي تتحقَّقَ رؤاهُ؟ وقَدْ جاءَ في استهلالِ القصيدةِ الإهداءَ التَّالي:
“إلى صديقي الدُّكتور الشَّاعر جمال مرسي وقدْ أسقطتْهُ لطمةٌ خشنةٌ قاسيةٌ تلقّاها مِنْ قبضةِ مرضٍ شرسٍ عَنْ جوادِ عافيّتِهِ”، معنوناً القصيدةَ بفعلِ الأمر قُمْ، ومستهلَّاً القصيدةَ بنفسِ الفعلِ أيضاً، واستخدمَهُ ثلاثَ مرّاتِ عبرَ ثلاثةِ مقاطعَ شعريّةٍ على تفعيلةِ بحرِ الرّجزِ مستفعلن وزحافاتِها، وجاءَ الفعلُ قُمْ وكأنَّهُ لازمةٌ لكلِّ مقطعٍ مِنْ هذهِ المقاطعِ الثّلاثةِ، مركّزاً ومحرِّضاً صديقَهُ الشَّاعرَ المبدعَ جمال مرسي على أنْ لا يستسلمَ للمرضِ، بلْ عليهِ أنْ يقاومَهُ بكلِّ بسالةٍ وجسارةٍ، وأنْ لا ينهزمَ منْهُ كي ينتصرَ عليهِ.
يقفُ الشّاعرُ المبدعُ جوزيف إيليّا بكلِّ مشاعرهِ مَعَ محنةِ صديقِهِ الشَّاعرِ جمال مرسي بكلِّ عزيمةٍ ومعنويَّةٍ عاليةٍ، كي يهزمَ المرضَ مِنْ خلالِ مواجهتِهِ بإرادةٍ صُلبةٍ، ويطلبُ منْهُ أنْ ينهضَ بكلِّ رغبةٍ وتفاؤلٍ، ويكتبَ قصيدةً بديعةً شاهقةً في آفاقِها وقوافيها وتجلّياتِ بوحِها، بأنقى وأصفى ما لديهِ مِنْ رهافةٍ وعذوبةٍ لعلَّ هذا العطاءَ يتحوَّلُ إلى صحةٍ وهناءٍ وعافيةٍ!
ويتابعُ الشَّاعرُ بلغةٍ موغلةٍ في وهجِ التَّعاطفِ مَعَ صديقِهِ ويطلبُ منهُ النُّهوضَ بكلِّ ما لديهِ مِنْ قوّةٍ وإرادةٍ، قائلاً لَهُ: ها هي البحارُ الممتدّةُ على مدى البصرِ في انتظارِكَ، انهضْ وحلِّق فوقَ أمواجِها الهائجةِ على متونِ سفنٍ عملاقةٍ تمخرُ عبابَ البحرِ، وهي تحملُ خيراتٍ للكثيرِ مِنَ الجائعينَ. انهضْ يا صديقي ها هي السُّهولُ الفسيحةُ في انتظارِكَ على مساحاتٍ شاسعةٍ، سهولٌ حُبلى بالخيراتِ والعطاءَاتِ المكتنزةِ بأشهى الثِّمارِ، كي تمهِّدَ وتهدهدَ دروبَ الغنى لكلِّ المحتاجينَ على أنغامِ الموسيقى الرّاقصةِ المتناغمةِ مَعَ بهجةِ الأفراحِ، وتزيحَ معالمَ الغلاءِ والحرمانِ عَنْ أفواهِ الجائعينَ، في انتظارِ صباحٍ مشرقٍ بالبركاتِ، يحملُ نكهةَ الشَّايِ اللّذيذِ، فاتحاً لكَ المساءُ صدرَهُ باسماً وفي أوجِ حبورِهِ مناغياً أنغامَ القافيةِ المنبعثةِ مِنْ عشقِ التّجلّي!
ويقفلُ الشّاعرُ بوحَهُ في المقطعِ الأخيرِ وهو في أوجِ تفاؤلِهِ وتعاطفِهِ، طالِباً مِنْ صديقِهِ أنْ ينهضَ ويحلِّقَ عالياً فوقَ بياضِ الغيومِ في أصفى مراميهِ وتفاؤلِهِ، كي يوقظَ الَّذينَ غاصوا في نومٍ عميقٍ، ويعيشوا أجملَ اللّحظاتِ فوقَ مروجِ الدُّنيا، لأنَّ الحياةَ حلمٌ عابرٌ، مثلَ نسيمِ الصَّباحِ، فلِمَ لا نعانقُ هذا الحلمَ ونحنُ في ذروةِ بهجتِنا وابتهالِنا وفي كلِّ لحظةٍ مِن حياتِنا؟!
وفيما يلي نص القصيدة
“إلى صديقي الدّكتور الشّاعر جمال مرسي وقد أسقطتْه لطمةٌ خشنةٌ قاسيةٌ تلقّاها من قبضة مرضٍ شرسٍ عن جواد عافيته”
قُــــم
قُمْ
لا تنَمْ
مستسلِمًا
منهزِمًا
مقيَّدًا
على سريرِ سُقْمِكَ
الّذي ملِلتَهُ كثيرًا
وغدوتَ تشتكي من نَخْسِهِ
 وقُبحِهِ
وانشِدْ قصيدةً جديدةً قويّةً
رَويُّها جميلٌ
وبها الصّوتُ علا عذْبًا
يضِجُّ بهجةً وعافيهْ
قُمْ
في انتظارِكَ البحارُ
كي تجوبَ
فوقَ صدرِ موجِها
في سُفُنٍ ملأى
بما ترجوهُ أفواهُ الجياعِ
والحقولُ في انتظارِكَ
لتبدأَ غناءَها مرَقِّصًا
وتنسى طعنةَ القحطِ لها
وفي انتظارِكَ الصّباحُ
كي يذوقَ مِنْ يديكَ ضوءَهُ
وشايَة
وفي انتظارِكَ المساءُ
كي يعودَ ضاحكًا
وعاشقًا متيَّمًا
يبوسُ وجهَ القافية
قُمْ
وامتطِ السّحابَ
واغتسِلْ بماءِ صحوِكَ
 الآنَ
وأيقِظْ مِنْ سُباتِها العميقِ
والطّويلِ
كلَّ نفْسٍ غافية”.