سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

التجربة النضاليّة لحركة حريّة كردستان

مقاومــــــة /14/ تمُّــــــــوز أنموذجاً ـ2ـ

إعداد وبحث/ وليد محمد بكر (عضو منتدى حلب الثقافي)


مرحلة مقـــــــاومة السجـــــون

لقد أبدى مناضلو حركة حرية كردستان المعتقلين في سجون الفاشية التركيّة مقاومة تاريخية كبيرة مقابل الممارسات الوحشية ضدهم، وهي لا تقل عن المقاومات في ساحات الحرب الساخنة، فالتاريخ يُخبرنا أنَّ كل ثورات وحركات التحرر الوطنية في العالم لعِبت مقاومات السجون دوراً بارزاً في التحرر وإنجاح تلك الثورات منها ما حصل في:

سجن “سايغون” في فيتنام، وسجن “الرجم الأحمر” في الصين، سجن “ليبدتا” في السلفادور، وسجن “جزيرة رابن” في جنوب إفريقيا التي سُجِن فيها “نيلسون مانديلا”.

فالقائد “أوجلان” استطاع من خلال تجربته في سجن “ماماك” في أنقرة بإعادة النظر في فكره وأفكار الحركات اليسارية آنذاك وتطوير فكره والتأسيس للمرحلة المُقبِلة، وما مقولة: “إن تاريخ الحزب “PKK” بأحد معانيه هو تاريخ المقاومة في السجون”، إلا عين الحقيقة ويعتبر إتماماً لتاريخ هذا الحزب.

هدف الأنظمة التسلطيّة من سجن المناضلين هو القضاء على كل من يقف في وجههم وممارساتهم القمعية، وكذلك للسيطرة على المجتمع وتخويفه، لكنهم لدى حركة حرية كردستان لم ينجحوا في ذلك.

فمرحلة مقاومة السجون لدى حركة حرية كردستان تبدأ من سجن القائد في نيسان عام 1972 في سجن ماماك بأنقرة لمدة /7/ أشهر، وسجن المناضل “محمد خيري درموش” عام 1972 أثناء مشاركته في مراسم الشهيد “أصلان صوي”، كما سُجِن المناضل “كمال بير” عدة مرات، وكانت تلك اعتقالات فرديّة، أما الجماعية فقد بدأت ابتداءً من مقاومة (حلوان وسويرك) وبعد ارتكاب الدولة التركيّة لمجزرة “مرعش”، ومقاومة رفاق حركة الحرية حينها إلى أن تشدد الدولة من تعاملها معهم بعد ذلك بشكلٍ كبير وواسع.

لقد استخدمت الطغمة العسكرية الحاكمة في تركيا كافة أساليب التعذيب المستخدمة في العالم، وبذلك ارتكبت كافة الجرائم والانتهاكات، وجرَّدت المساجين من إنسانيتهم لمحاولة كسر إرادتهم ولفرض الاستسلام عليهم، ونفذت عمليات إعدام كثيرةً بكلِّ حقد ودمٍ بارد بحق المناضلين.

بعد انقلاب أيلول عام 1980 بدأت الاعتقالات الكبرى، فتم وضع معتقلي حزب العمال الكردستاني (PKK) في ثلاثة سجون، وكان الرئيسي في “آمد”، والثاني في “العزيز” الذي وضِع فيه “شاهين دونمز ورفاقه”، والثالث في “أضنة”، وقد استُخدم فيها كافة أشكال وأساليب التعذيب المعنوية منها والنفسيّة إضافةً إلى التعذيب الجسدي، منها:

حلق الشوارب والذقون، اللباس الموحّد، ترديد النشيد الوطني، ومنع التكلم بالكرديّة أثناء الزيارات، وعندما لم تتراجع سلطة السجن عن انتهاكاتها ضد المعتقلين بل استمرت فيها وكردٍ طبيعي واستنكاري لهذه الإجراءات قرر الرفاق استخدام أسلوب الإضراب عن الطعام.

بدأت أولها في الثاني من كانون الثاني عام 1981بالإضراب لمدة ثمانية أيام، فلم تكن هناك خبرة لدى السجناء آنذاك في تطوير النشاطات، ولما وعدت إدارة السجن بتنفيذ طلباتهم توقف الإضراب، لكن بعد ذلك زادت وحشية إدارة السجن في التعامل مع المناضلين في السجون، وجلبت الضابط “أسعد أوقطاي” الشهير في أساليب التعذيب من خبرته في إدارة السجون في “قبرص” إلى إدارة السجن في آمد.

وفي الثالث من آذارعام 1981 بدأ إضراب آخر عن الطعام وشارك فيه الكثير من المناضلين (منهم من استشهد ومنهم من هو على رأس عمله النضالي حتى الآن ومنهم من تخلى عن النضال الوطني): (رضا ألتون، محمد خيري درموش، كمال بير، مظفر أياتا، محمد شنر)، بعد /24/ يوم استشهد المناضل “علي أرك” ليكون بذلك أول شهيد في مقاومة السجون واستسلم “محمد شنر”، ليستمر الإضراب مدة ثلاثة وأربعين يوماً، بعد أن وعدت إدارة السجن بإجراء الإصلاحات وتنفيذ مطالب المُضربين عن الطعام.

مقاومة الشهيد “مظلوم دوغان”

في سجن “آمد” تحوّل كل شيء إلى أدوات للتعذيب، فلم يكتفِ أسعد أوقطاي باستسلام البعض بل قام بفرض مفاهيم معينة والخيانة، وللرد على هذه السياسة الجديدة قال المناضل مظلوم دوغان: “إنَّ الاستسلام يؤدي إلى الخيانة، أما المقاومة فتؤدي إلى النصر”، ولأجل إيقاف التعذيب والتأكيد للنظام الفاشي التركي أنهم لا يهابون الموت، قام عشية عيد النوروز/21/ آذار عام 1982 ” بإضرام النار في جسده ليتحوّل إلى نار متّقدة وشعلة من النور لرفاقه في السجن وكتب على جدار السجن (المقاومة حياة)، لتتحوّل هاتين الكلمتين إلى شعار للسجون والساحات النضالية حتى في أصقاع العالم كلها وتحوّل بذلك مظلوم دوغان إلى رمز من رموز المناضلين لدى حركات التحرر العالمية وهذه الطريقة الجديدة في النضال أثَّرت على الكوادر الآخرين.

ففي الغرفة /33/ انضم أربعة مناضلين للقيام بإضرام النار في أجسادهم، وهم (فرهاد كورتاي، أشرف آنيك، محمود زنكين، نجمي أونر) وذلك في اليوم الثامن عشر من أيار تخليداً لذكرى المناضلَين (خليل جاوغون، حقي قرار)، وأثناءها منع هؤلاء المناضلين الأربعة رفاقهم الآخرين من إطفاء النار في أجسادهم، وقالوا: “هذه عملية فدائية لا تُطفئوا النيران، إطفاء النار يعني الخيانة، أشعلوها أكثر”.

إن مقاومة المناضلين مظلوم ورفاقه الأربعة الآخرين أدت إلى رفع معنويات المعتقلين بعد فترة من اليأس والتعب من التعذيب وهذه المقاومة أدت إلى إيقاف الاستسلام والرفع من وتيرة المقاومة، وإدارة السجن في آمد تكتمت على خبر استشهاد هؤلاء المناضلين ومنع نشر الخبر، بل زادت من أساليب وسبل التعذيب.

بتاريخ /14تموزعام 1982 وأثناء المحاكمة أعلن المناضل “محمد خيري دورموش” الإضراب عن الطعام، والاستمرار فيها مهما كانت الظروف، لينضم إليه مباشرة كلٌّ من المناضلين (كمال بير وعلي جيجك وثلاثة آخرين)، وعندما عادوا إلى السجن صرخ المناضل “خيري دورموش” ليُسمِع الجميع: (انتصرنا، لقد انتصرنا بستة رفاق)، وفي اليوم التالي انضم إليهم كلٌّ من (مصطفى قرة صو وعاكف يلماز) وآخرون، ويوماً بعد آخر ازداد المنضمون وازداد معه التعذيب، فاستسلم “يلدرم مركيت”، في اليوم السابع والأربعين من مقاومة الإضراب عن الطعام وفقِد المناضل المقاوم “كمال بير” بصره، ورفض المعالجة ليستشهد في اليوم السابع والخمسين، لقد كان  من أصول آذرية تركيّة ومدركاً لتاريخ الكُرد ومتيقناً أنه بدون حرية ونصرة القضية الكردية، لن يحيا الشعب التركي وينعم بالحرية، وكان من أقواله: “إننا بمقاومتنا نحوّل الموت إلى حياة…. بقدر حبنا للحياة فإننا نعشق الموت في سبيلها أيضاً”.

في اليوم الستين استشهد المناضل المقاوم “محمد خيري دورموش” الذي دوَّن مع القائد “عبد الله أوجلان” برنامج (حركة حرية كردستان، المُعنوَن بمانفيستو طريق الثورة الكردستانية)، عام 1978 قبل انعقاد المؤتمر التأسيسي لحزب العمال الكردستاني في 27/11/1978، وهو القائل قبل أن يستشهد: “اكتبوا على شاهدة قبري أنا مدين لوطني وشعبي”، وهو الإنسان الثوري الذي درس الطب وقد أدرك أن معالجة قضية الشعب الكردي والقضاء على الشوفينية التركية القوموية، وزرع بذور الحياة الحرة والديمقراطية تبدأ بالمقاومة، ذات يوم سأله والده معاتباً: “أرسلتك إلى أنقرة كي تعود إلي بشهادة الدكتوراه وها أراك الآن تعود لي كردي الأصل” فأجابه: “ما نقوم به الآن ليس بعيداً عن وظيفة الأطباء، والدي أنظر إلى الوضع الذي يعانيه الشعب هل تجد عضواً سليماً فيه؟ أجل أردت أن أكون طبيباً لشعبي وقضيته”.

وفي اليوم الثاني والستين استشهد المناضل المقاوم عاكف يلماز، الثوري الذي عرف الحركة “الآبوجية” في مدينة “قارص”، وقد تعرّض للتعذيب الشديد في السجن، إلَّا أنه أصر على المقاومة وحاول إنقاذ الرفيق “مظلوم” من السجن لكنه لم ينجح في ذلك مما ترك أثراً كبيراً فيه ولم يسامح أو يغفر لنفسه، وهذا دليل على الارتباط بالروح الرفاقية في الحركة “الآبوجية” حركة التحرر لجميع الشعوب.

وفي اليوم الخامس والستين استشهد المناضل المقاوم علي جيجك وهو آخر من استشهد من مجموعة “مقاومة صيام الموت” وانضم لقافلة هؤلاء الشهداء، وكان عمره /18/ عاماً وأصغرهم سناً، إلَّا أنَّه كان مُدرِكاً لقضية شعبه وناضجاً فكرياً، وقد بقي /90/ يوماً تحت التعذيب المتواصل دون رحمة وإنسانيةً.

لقد نجحت مقاومة هؤلاء المناضلين في إضرابهم عن الطعام، حيث استطاعوا رغم استشهادهم أن يوقفوا التعذيب وإغلاق الطريق أمام الاستسلام والخيانة، فرسالتهم كانت واضحة وهي أنَّ “الأماكن التي توجد فيها المقاومة ينعدم الاستسلام والخيانة وتنتصر المقاومة، وهكذا تهتز عروش الأعداء وينتابهم الرعب”.

انتشر وقعُ صدى مقاومة السجون والشهادة في كردستان وتركيا لتكون الدرس والخطوة الأولى رداً على الطغيان والفاشية والمفاهيم الرجعية للدولة الطورانية والدكتاتورية التركيّة، بأن حتى السجون ستنقلب إلى المقاومة في مواجهة سياسة الاستسلام والخيانة والموت المفروضة على المناضلين والأحرار، وستؤول إلى الحياة الحرة والديمقراطية لجميع الشعوب، وكان لتدوين كتاب (المقاومة حياة) عن وقفة المقاومين الشجاعة وأقوالهم التاريخية في السجن، أثره الكبير في قلب وفكر ووجدان كل مَن قرأه.

في عام 1983 حاولت إدارة السجن العودة إلى ممارسة الشدة والتعذيب، لكن تراجعت بعد أن لاقت المقاومة. لقد أصبح شعار المناضل والشهيد الرمز ” مظلوم دوغان”: الاستسلام يعني الخيانة والمقاومة تعني النصر، شعاراً لكل السجناء وساروا عليه، ففي /1/ كانون الثاني عام 1984 قامت إدارة السجن بالهجوم الشرس على المعتقلين تحت حجج واهية، ولفرض الاستسلام عليهم خاصةً القياديين، فاستشهد تحت التعذيب كلٌّ من المناضلين (أورهان كسكين، جميل آرارات، نجم الدين بيوك كايا)، وستسلم محمد شنر.

بعد إعلان الكفاح المسلح وتقدُّم مقاومة الكريلا في الجبال خفَّ التعذيب نتيجة الضربات التي تكبَّدها الجنود والضبّاط الأتراك، لكن لجأت الدولة على الأقل إلى استثمار النفوس الضعيفة في الحزب، “كمحمد شنر” وتم ترتيب هروبه ليلتحق بالكوادر الحزبية خارج السجن، للقيام بسياسة التآمر وخيانة رفاقه المقاومين داخل وخارج السجن.

في عام 1988 عادت إدارة السجون في تركيا إلى ممارسة سياسة التعذيب واستشهد بنتيجتها المناضل ” محمد أمين ياووز” وآخرين، ونتيجة عدم نجاح “أسعد أوقطاي” في مهمته في فرض ما كُلّف به وإرضاخ المقاومين تم تغييره.

في عام 1991 عقد القائد عبد الله أوجلان مؤتمراً للخارجين من السجن باسم “مؤتمر مقاومة السجون”، قام فيه بتحليلات قيّمة للشخصيات التي خاضت تجربة السجون وتأثير السجن الرهيب عليهم، وإجراء تقييمات عميقة بصدد ذلك.

مازالت ثقافة مقاومة المناضلين مستمرة، وحين تم أسر القائد أوجلان بمؤامرة دولية واسعة ومتعددة الأهداف، استمرت مقاومة السجون وبأشكال متنوعة،  وعلى خطى رفاقهم الأوائل، ولم يتنازلوا عن مبادئهم رغم التعذيب الجسدي والنفسي الشديد، فقام بعض المناضلين في السجون بإحراق أنفسهم استنكاراً لأسر القائد أوجلان، وانضم الكثيرون إلى أسلوب الإضراب عن الطعام حتى الموت، فتركهم حراس السجون دون تلبية مطالبهم أو معالجتهم فاستشهد بعضهم، وما مقاومة المناضلة السياسية والبرلمانية  “ليلى كوفن” من سجن “آمد”، إلَّا امتداد لتلك الصرخة التي لم تنقطع في أروقة وأقبية سجون الفاشية التركية، فقالت “ليلى كوفن” عند تواجدها في السجن: إنها كانت ترى “مظلوم دوغان” معها في السجن واستطاعت من أن تقاوم في إضرابها عن الطعام لمدة تقارب الـ 200  يوم مع مجموعة من رفاقها الآخرين وما هذا سوى مثال على استمرار نهج المقاومة، مرددين شعار المناضل الشهيد “مظلوم دوغان”: “الاستسلام يؤدي إلى الخيانة، والمقاومة تؤدي إلى النصر”.

خُلاصة المقال

إنَّ الشعب الكردي مُتمسك بالمقاومة حتى آخر رمق، وهدفه الوصول إلى الحياةٍ الحرّة الكريمة مع القائد الأسير في جزيرة إمرالي والعيش المشترك بكرامة، وأخيراً يمكننا القول أنَّ صدى (مقاومة /14/ تموز) حيّ في أذهان الشعب الكردي وحركته التحررية وشعوب المنطقة، وهذه المقاومة أسست طريقاً للخلاص والحرية.

فمقاومة السجون ما زالت مستمرة بأشكال أخرى أكثر عمقاً ومعنى من خلال مقاومة القائد عبد الله أوجلان رغم كل ظروف التجريد والعزلة الشديدة عليه منذ ربع قرن.