بعد فشل 19 جولة خاضتها حكومة دمشق مع المعارضة برعاية دولة الاحتلال التركي وروسيا، ومن بعدها إيران وآخرون، انتهت الجولة العشرون والمحتملة أنها الأخيرة، بالتأكيد على أن تلك الأطراف خاضت مسيرة فاشلة، قدمت مصلحتها على مصلحة الشعب السوري، وبأن ضرب المشروع الديمقراطي في شمال وشرق سوريا، هو هدفهم الأساسي.
فبعد مرور خمس سنوات على الأزمة السورية، التي اندلعت شراراتها في آذار 2011، تم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين حكومة دمشق والمعارضة في التاسع والعشرين من كانون الأول 2016 بأنقرة، ومن بعدها انطلق مسار آستانا في أول اجتماع على مدار يومين 23ـ24 كانون الثاني 2017.
فشل مسيرة آستانا بنسخها العشرين
لم يكن آستانا الأول، ولا الثاني، وحتى الأخير مختلفاً عن بعضها، فالمشاركون في هذه الاجتماعات هم أنفسهم يهدرون الدماء اليوم، ويبحثون في الملف السوري فقط من أجل أخذ حصتهم الكبرى، ناهيك عن الملفات، التي كانت تناقش فيه، فهي حبر على الورق، لا بل قد مُحيَت شيئاً فشيئاً بعد مرور اثنتي عشرة سنة من وجودها في الساحة السورية.
في آستانا (1) و(2) اللذين عقدا في العام نفسه 15ـ16 حزيران بقي الحديث شكلياً يرتكز على ضرورة تشكيل لجان متابعة لمراقبة وقف إطلاق النار، والسؤال هنا؛ كيف للدول المستمرة بإطلاق النار سواء حكومة دمشق، أو المعارضة، أو روسيا، أو تركيا الأكثر استخداماً للسلاح وخرقاً لسيادة سوريا والتي هي دولة احتلال، أن تشكل لجنة تقوم بهذه المهنة، هل بإمكان أي دولة من تلك، التي ذكرناها آنفاً أن يكون لها الحق في إطلاق النار وبقية الأطراف عليهم الالتزام، وكيف لهم أن يراقبوا أنفسهم، لذا لم تتمكن هذه الدول من تشكيل لجنة مراقبة، وزاد الأمور تعقيداً وخرقاً من قبل الأطراف الأساسية المشاركة فيه، ففي آستانا (3) الذي انعقد في 14ـ 15 آذار 2017 غابت المعارضة لخرق حكومة دمشق للاتفاقية والاستمرار بإطلاق النار، فأقرت الأطراف الثلاثة التي ليس لها الحق في التدخل؛ روسيا، وتركيا، وإيران بتشكيل لجنة ثلاثية تضمن أعضاء من هذه الدول لمراقبة الهدنة، بعد فترة “عدم الثقة” التي وسمت مسار آستانا، ولاستمرار الخروقات انعقدت الجولة الرابعة بعودة المعارضة إلى المشاركة، وذلك بتاريخ 3ـ 4 أيار 2017، ومن أجل إعادة الثقة تم طرح اتفاق جديد على أساس إيقاف خفض التوتر وبخاصة في إدلب، واللاذقية، وحلب، وحماة، وحمص، ودرعا، والقنيطرة والغوطة الشرقية بريف دمشق.
وفشلت الجولة الخامسة المنعقدة في الرابع والخامس من تموز 2017، والذي تم النقاش حول آليات مراقبة مناطق خفض التوتر، ونشر الجيوش هناك، وذلك لعدم الوصول إلى توافقات بشأن الجيش الذي انتشر في تلك المناطق، لذا وكما العادة تم الاتفاق على تشكيل لجان فنية تجتمع لاحقا، لمناقشة ما لم يتم التوافق عليه، بمعنى ينعقد اجتماع لأجل سد ثغرات الاجتماع السابق فتخلق بانعقاده ثغرة أخرى تحتاج إلى اتفاق آخر.
وبعد فترة من المقاطعة دامت أكثر من شهرين (رجعت حليمة لعادتها القديمة)، حيث عقد آستانا السادس في 14ـ 15 أيلول 2017، وضمنها توصل المشاركون إلى اتفاق إنشاء منطقة خفض توتر في إدلب، إلا أن عدم الاتفاق على ملف المعتقلين عرقل هذه الخطوة، فخيب الأمل من جديد، وخاصة لدى تركيا والمعارضة.
واستكمالاً لعقبات آستانا (6) عقد آستانا (7) في نهاية تشرين الأول 2017، وفشل أيضاً لعدم التوافق بشأن تبادل الأسرى والمعتقلين، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية دون انقطاع إلى المناطق المحاصرة.
ونتيجة عدم التوافق خلال المسيرة الفاشلة للآستانات السبعة؛ توصل المشاركون إلى أنه لا حل عسكرياً للنزاع في سوريا، وأن تسويته لن تكون إلى وفق عملية سياسية على أساس تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 الصادر في 18 كانون الأول 2015، ووافقوا على مقترح الطرف الروسي حول عقد مؤتمر حوار سوري في إطار مسار جنيف.
ولأن ملف المعتقلين لم يُحَل، تناولت النقاشات التي حصلت في آستانا (8)، الذي عقد بتاريخ 21ـ 22 كانون الأول 2017 هذا الملف، واتفق الفاشلون على تشكيل مجموعتي عمل من أجل المعتقلين، والمفقودين وتبادل الأسرى، والجثث وإزالة الألغام، وعزموا على عقد مؤتمر حول سوريا في سوتشي بتاريخ 30 كانون الثاني 2018 بمشاركة الطوائف السورية والحكومة، والمعارضة.
وفي آستانا (9) المنعقد في 14ـ 15 أعيد الملف السابق بخصوص اتفاقية خفض التوتر، وحماية وقف إطلاق النار ومواصلة العمل على ملفي المعتقلين والحل السياسي، بمعنى “لا جديد”.
ولم تتغير المحاور في آستانا 10ـ11ـ12ـ13 المنعقدة في تموز، نيسان، آب، كانون الأول على التوالي في عام 2018، وآستانا 14 في كانون الأول عام 2019 قبل أن تتوقف الاجتماعات لأكثر من عام بسبب جائحة كورونا.
عجلة الدوران عادت مجدداً بعد توقف ضمن آستانا 15 والتي اعتبر مكمل لسابقه، وبدأ آستانا 16 بمحاولة من الفاشلين تغيير أسماء الملف شكلاً وليس قالبا، وأنهم تحدثوا عن الأوضاع في سوريا فبدلاً، من القول، بأنهم ناقشوا اتفاقية خفض التوتر، وملف المعتقلين والمفقودين ذكروا بأنهم بحثوا في الشؤون الميدانية والإنسانية.
وليظهر المشاركون أنهم فعلاً يبحثون في الأمور السورية، ضموا إيران ووفود دول المراقبة والمبعوث الأممي الخاص إلى سوريا بيدرسون إلى آستانا 17 المنعقد في كانون الأول 2021 والادعاء، أنهم يسعون لتحقيق تقدم ملموس بالمسار السياسي وخاصة فيما يخص اللجنة الدستورية، على الرغم من أن النقاشات حصلت ضمن مبدأ “خطوة مقابل خطوة” على الرغم من معرفتهم التامة بأن الأطراف جميعها لا تستطيع تطبيق ذلك.
وقبل سنة بالضبط في حزيران 2022 انعقدت الجولة الثامنة عشر من آستانا، واتفقوا على رفض التصعيد في إدلب، وبذل الجهود لضمان التطبيع المستدام، ومراعاة الوضع الإنساني، وتنفيذ كامل الاتفاقيات بشأن إدلب، علماً أن إدلب إلى اليوم لازالت في بازارات تلك الأطراف، وأيضاً أدانوا الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية المستمرة على سوريا وانتهاك القانون الدولي وسيادة سوريا، ودول الجوار، دون النظر إلى ما فعلته تركيا في سوريا من احتلال لثلاثة أجزاء هامة في شمال وشرق سوريا فقط والتي هي عفرين، سري كانيه، كري سبي، لتُكشف نية المشاركون وأهدافهم من انعقاد آستانا بجولاتها جميعاً، والتي تؤكد بأن إنهاء الأزمة لديهم يكون بالحصول على أكبر حصة من سوريا، سواء بالاحتلال أو ببيعها في البازار على الطاولة.
الجولة التاسعة عشرة، كانت مجرد برتوكول كونها تضمن المحاور، التي لم تتغير منذ آستانا الأول، وانعقد آستانا 19 بحضور الأطراف الدائمة المشاركة حكومة دمشق، المعارضة، روسيا وتركيا، وكذلك إيران بالإضافة إلى وفود بصفة مراقب من الأردن، العراق، ولبنان وممثلين من الأمم المتحدة ولجنة الصليب الأحمر الدولية.
أما الجولة العشرون والمحتمل أن تكون الأخيرة، فقد عقدت في 20ـ 21 حزيران الجاري ومن خلالها تم التأكيد على إن الفشل كان السمة الأساسية لمسيرة آستانا بجولاتها جميعاً، وبأن هناك تآمر واتفاقيات، على حساب الشعب السوري المتهالك، وذلك بتطبيع العلاقة بين تركيا المحتلة والمنتهكة للأراضي السورية، وبين حكومة دمشق، التي لا تملك أي تغيير في عقليتها العنصرية، إضافة إلى التآمر بالضرب على مشروع الإدارة الذاتية والديمقراطية في شمال وشرق سوريا، والذي هو النموذج الأمثل للشرق الأوسط عامة، وليس في سوريا وحدها، فالمبادرة التي طرحتها ببنودها التسعة، كانت تأكيداً على مساعيها في إنهاء الأزمة السورية، وأن الحوار السوري – السوري هو الحل الأنجع للتخلص من العقبات.
المشروع الديمقراطي في مواجهة المصالح الاستبدادية
وتداول موضوع اجتماعات آستانا الكثير من النشطاء والإعلاميين، والمحللين ووجدوه محاولة فاشلة، بل هو بالأساس لم يكن سوى مسعى لإطالة عمر الأزمة بدمار، واحتلال، وتدخل أكثر، وبأن الإدارة الذاتية بمبادرتها هي حل لمشكلة السوريين.
الرئيس المشترك لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا بدران جيا كرد علق على هذا الأمر: “اجتماع آستانا هو مسار لتمرير صفقات سياسية مُتبادلة على حساب مصلحة الشعب السوري، والعمل على قضايا أمنية استخباراتيه لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ناهيك عن معاداة الإدارة الذاتية وحقوق الكرد وشعوب المنطقة، وبأن مسار آستانا الأخير يرسم خارجة طريق شاملة لتقاسم نفوذ كل أطراف هذا المسار، والشروع ضد المصالح السورية الوطنية والذي تبين بوضوح في ازدواجية المعايير، التي تمتاز بها غالبية مخرجات الاجتماع.
وعن ادعاء تركيا بأن الإدارة الذاتية تهدد أمنها القومي تساءل جيا كرد “من يهدد الأمن القومي والوطني؟ هل هو شعبنا الذي يُنشئ مشروعاً ديمقراطياً للتعايش المشترك بين جميع الشعوب السورية ودول الجوار، وفي الوقت نفسه، حمل السلاح ليحمي نفسه والمنطقة بل والعالم من الإرهاب، أم النظام التركي الذي يحتل، ويقتل، وينهب ويدعم الإرهاب، والذي فتح حدوده للآلاف منهم إلى سوريا، والمستمر بقصفه اليومي للمناطق الآهلة والبنى التحتية، وتدخلها الاحتلالي المباشر وبكل الأشكال في سوريا؟”.
ووجد بأن مسار آستانا بعيد عن لغة الحوار والتصالح والتوافق بين السوريين، بل يحتوي على التصعيد والاتهام والتصادم، في دلالة واضحة بأن عملية التطبيع بين دمشق وأنقرة تحمل بين طياتها التصعيد ودفع المنطقة نحو المجهول، واختلاق أزمة طويلة الأمد، وترسيخ الشرخ وخطام الكراهية بين أطياف المجتمع السوري، مؤكداً بأن تقريب وجهات النظر لتحقيق إجماع سوري يتوافق عليه السوريين، هو الحل.
وفيما يخص تصعيد الهجمات وقصف المحتل التركي على شمال وشرق سوريا في الفترة الأخيرة قال الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطية رياض درار: إن الاحتلال التركي يوجه رسائل من خلال هجماته على المنطقة، أولاً أنه ينفذ مخرجات آستانا، وثانياً يطالب بالهجوم، واستئناف إنشاء ما تسمى بالمنطقة الآمنة بحجج وذرائع واهية، ولا أساس لها من الصحة والجميع يعلم بذلك، مفيداً بأن اجتماعات آستانا تفتح المجال أمام الاحتلال التركي لتنفيذ مخططاته في المنطقة.
فيما شارك جلنك عمر على صفحة الفيسبوك الخاص به على أن الإعلان عن انتهاء مسار آستانا بصيغته، التي بدأت في مطلع 2017؛ يعني انتهاء تشكيلات “المعارضة” السياسية والعسكرية، وإغلاق ملفها عملياً خلال الأشهر القادمة (وفق نموذج درعا على الأرجح)”، وذكر أيضاً “اعتقد أن مرحلة جديدة من صفقات الثلاثي (روسيا وإيران، وتركيا) ولواحقهم السورية قد بدأ عنوانها الأبرز، التعاون من أجل إفشال مشروع الإدارة الذاتية، ومعاداة الوجود الأمريكي في شرق سوريا”.
ويرى عمر، بأن يمكن لمنطقة شمال وشرق سوريا أن تكون بمثابة منصة لبناء نهج أكثر إنتاجية وديناميكية وتفاعلاً لحل الأزمة في سوريا.