No Result
View All Result
المشاهدات 54
د. محمد فتحي عبد العال (كاتب وباحث مصري)_
ربما لم يلق أي أثر ديني، عبر التاريخ، ما لاقاه هذا الجامع من ضروب الهوان وصنوف النهب لعدة قرون من الزمان، ومع ذلك بقي صامدا عازما على البقاء والتحدي من أجل الحياة.
يقع جامع الظاهر بيبرس، والذي يطلق عليه جامع العافية، بحي الضاهر بالقاهرة، ويعد من أكبر مساجدها مساحة، ويمتاز بأول مدخل تذكاري بارز، حيث القباب الدائرية المرفوعة على حنايا، علاوة على فخامة الأبواب رغم قلتها، إضافة إلى قبته أعلى المحراب، والتي وجه مؤسس الجامع، أن تكون على غرار قبة الإمام الشافعي، لكنها امتازت عن نظيراتها بأنها محمولة على حجرة، وليس على دعائم، أو أعمدة، ويرى بعض الباحثين، أن هذه الحجرة بديلا عن نمط المقصورة (حجرة خاصة من المسجد مقتصرة على الملوك والأمراء) الذي اتخذه معاوية بن أبي سفيان للحماية من الاغتيالات داخل المساجد في أوقات الصلاة، اتقاء لما حدث لسابقيه من الخلفاء الراشدين.
كان الشروع في بناء الجامع، بأمر من الملك الظاهر ركن الدين بيبرس العلائي البُنْدُقْدارِي الصالحي النجمي، والملقب بـأبي الفتوح، وذلك في كانون الثاني، عام 1267 م، واختار له أن يكون في ميدان (قراقوش)، وهو متنزه الملك الذي يمارس فيه لعب الكرة، وحينما أشار عليه البعض باتخاذ مناخ الجمال السلطانية مكاناً لبناء جامعه قال قولته المشهورة: “لا والله… لا جعلتُ الجامع مكان الجمال”، ولم يدر بخلده ما تخبأه الأقدار لجامعه. ويقال: أن السبب في بناء الجامع بهذه الضخامة، هو اقتراح الشيخ الصالح المعتقد خضر بن أبي بكر بن موسى بن عبد الله المهرانى العدوي، على الظاهر بيبرس بضرورة أن يكون له مسجد جامع، وكان الشيخ وأصله من قرية المحمدية من أعمال جزيرة ابن عمر، صاحب نبوءات، وموضع ثقة بيبرس وشيخه، ولما لا؛ وقد تنبأ له بمقعد السلطنة قبل أن يعتليها، وتنبأ له بفتح الكرك، وحصن الكرد، وحدث أن خالفه بيبرس ذات مرة وتوجه للكرك، وكان الشيخ قد حذره من ذلك، فكسرت ساقه، وفخذه، وبلغت محبة بيبرس له أن سمى بعض أولاده خضرا، وكان يصحبه في أسفاره، ويغدق عليه الأموال، ويطلق يده في كثير من الشؤون.
تغير خاطر الملك قاعدة لا تخيب في العهد المملوكي، وقلما يفر من أهوالها أحد؛ فسرعان ما انقلب بيبرس على الشيخ خضر، لأسباب كثيرة، فقيل: إن السبب فظائع ارتكبها الشيخ خضر بحق أهل الذمة، وقيل: إن السبب هو مخالطته لبنات الأمراء دون ساتر، ووقوع قبائح منه ومنكرات، فهمَّ بيبرس بإعدامه؛ فتنبأ له الخضر أن أجله قريب من أجله؛ “فمن مات منا لحقه صاحبه عن قريب” والغريب أنه تحقق بالفعل، إذ مات بيبرس بعد عشرين يوما من إعدام خضر، حسب روايات، أو موته حسب روايات أخرى عام 1277م. وقيل: إن بيبرس قد خشي على نفسه من تحقق النبوءة فحبسه في قبو، لا يسمع أحد كلامه، ولا يصل إليه أحد، ومع ذلك كانت تقدم له الأطعمة الفاخرة والملابس حرصا على حياته، ولكن قضاء الله لا مرد له، وكان ما تقدم ذكره، والشيخ خضر هو المقصود بالعبارة، التي مازلنا نرددها حتى يومنا هذا عند مصادفة أمر عصيب، أو مستعصي: يا “عدوي يا عدوي” وكان له زاوية وضريح على الضفة الغربية للخليج مباشرة على مقربة من جامع الظاهر، وليس ببعيد عن مسجد سيدي عبد القادر الدشطوطي بباب الشعرية، لكنها أزيلت، وقيل له عدة زوايا أخرى باسمه في القدس، ودمشق، وبعلبك، وحماة، وحمص!
نعود لجامع الظاهر محور حلقتنا، حيث أمر الظاهر بيبرس بجلب أمهر البنائين والمهندسين، وتوفير مواد البناء اللازمة كالخشب، والرخام، من كافة أنحاء البلاد، وتولى عملية البناء الصاحب بهاء الدين بن حنا، والأمير علم الدين سنجر السروري، متولي القاهرة، وقد استخدم في بنائه بقايا هدم أبراج، وقلعة مدينة يافا، والتي كان قد تسلمها بيبرس من الفرنج، فدمرها وأشرف على ذلك بنفسه، وحملت أخشاب القلعة وألواح الرخام، التي وجدت بها على ظهر مركب من يافا إلى القاهرة، حيث استخدم الخشب في عمل مقصورة الجامع، والرخام بمحرابه، وانتهى العمل في البناء، فكان غاية في الروعة، والحسن، ورتب له خطيبا حنفي المذهب.
شهد العهد المملوكي اهتماما بهذا الجامع، والذي لم يشهد عهد المماليك البحرية جامعا في اتساع رقعته، فعنى به الملك الظاهر جقمق، لكن مساحة الجامع، والتي قاربت ثلاثة أفدنة، كانت بمثابة حجر عثرة في سبيل العناية به، بشكل مستمر في العهود التالية، فأُهمل شأنه في العهد العثماني لعدم كفاية المخصصات المالية للقيام بذلك.
ودارت الأيام بالجامع، مع قدوم الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 م، حيث حوله الفرنسيون إلى قلعة عرفت بقلعة (سولكوسكى) نسبة لأحد قادة نابليون، أو القلعة الظاهرية في الكتابات الشعبية، التي أرّخت للحملة، وجعلوا من منارته برجا للمراقبة، ووضعوا على أسواره مدافع، وشيدوا بداخله مساكن للجنود ليسكنوا فيها، وهكذا انقلب وضع الجامع بين ليلة وضحاها، وأضحت أجزاء منه عرضة للتصدع والتهاوي، وهو ما وجده ناظر وقفه فرصة لبيع أنقاضه!!..
وفي عهد محمد علي باشا الكبير، اتخذ الجامع مصنعا للصابون، وأوكل أمره للسيد أحمد بن يوسف فخر الدين، والذي أضاف إليه أحواضا كبيرة للزيت والقلي، ثم تسلمته الحكومة في العهد نفسه، واستخدمته مخبزا للجيش، ومعسكرا لطائفة التكارنة (المماليك السود) ثم أزيل المخبز في عهد الخديوي إسماعيل.
ومع تهدم أجزاء من الجامع عام 1812 وجه الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر بنقل بعض أحجاره، وأعمدته الرخامية لإقامة رواق الشراقوة بالجامع الأزهر.
وفي عهد الاحتلال البريطاني لمصر، تحول إلى مخزن، ومذبح، وعرف بمذبح الإنجليز، ولحق به خراب شبه كامل، كما استخدمت أجزاء منه في تزيين قصر النيل، حيث ثكنات الجيش الإنجليزي المحتل، ثم جاء مقترح بملحق تقرير اللورد كرومر، بقلم المستشرق وعالم الآثار الإنجليزي ستانلي لين بول عام 1895، بتحويل صحنه الواسع إلى حديقة يتنزه فيها سكان العباسية، في ظل تعذر عودة الجامع لمهمته الأساسية في إقامة الشعائر الدينية !! وقد أُخذ بهذا الاقتراح لاحقا بشكل جزئي، واستغلت مساحة من الجامع في إقامة حديقة…
وفي عام 1918 تخلى الجيش البريطاني عن الجامع ليعود للحكومة المصرية، والتي أوكلت أمره إلى لجنة الآثار العربية، لإعادة الشعائر الدينية به، حيث تم إصلاح، وترميم الجزء المحيط بالمحراب، وجعل منه مصلى، ووضع به منبرٌ.
ويعود الفضل للملك فؤاد الأول في عودة هذا المسجد للحياة، ولمهمته الأساسية في كانون أول عام 1928 حيث احتفلت وزارة الأوقاف بإقامة صلاة الجمعة فيه، بعد ما يزيد عن 150 عاما من الانقطاع، وحضر هذه المناسبة إبراهيم فهمي باشا، وكيل وزارة الأوقاف، والشيخ محمد خلاف، واشتركا في أداء الصلاة، وكان الابتهال بالدعاء للملك فؤاد، وولي عهده فاروق آنذاك.
No Result
View All Result