أبناء جنة الله.. عائدون

نسرين شيخو

 ثمانية وخمسون يوماً حملت بين طياتها حكايات، حزن، يأس، معاناة، انتظار، أمل، غدٌ مبهم، مصير مجهول، بُكاء الآباء، تنهيدات الأمهات، صرخات الأطفال، احتضار مقاتل يُردد شعارات المقاومة.

 حملت كل ما تحمله كلمة حرب من معنى، ثمانية وخمسون يوماً طحنت فيها الحرب حياة أبرياء، وامتزجت الدموع بالدماء، وحمل كل يوم أكفاناً ليتكاثر في السماء عدد النجوم.

خلال ثمانية وخمسين يوماً تغيّرت ملامح عفرين، توقفت الحياة عن الاستمرار، تلوّنت سماءها بالسواد وأرضها بالأحمر، أصبحت رمادية اللون لم تعد كما كانت مُسبقاً مبتهجة خضراء جميلة، تحوّلت لمدينة مهجورة صرخت طالبةً النجدة، لكن الأوان فات ووقعت أسيرة بين أيدي وحوش على هيئة بشر.

بعد ثمانية وخمسين يوماً، عندما بقيت عفرين وحيدة يتيمة بعد أن غادرها أهلها وسكانها، والنسمات الهادئة الباردة تحوّلت لأعاصير وعواصف، لم يكن القدر مُنصفاً بحق عفرين عندما تركت الذئاب تنتهش روحها وتمص عبق رحيقها رويداً رويداً، في محاولة بائسة منهم لتذبل عفرين… وما ذبلت.

يوماً بعد يوم، عاماً بعد عام، قارعت عفرين الموت، ونُحِت الحزن على جسدها، لكنها بقيت دفينة في فؤاد كل من رحل عنها، نضج وشاب كل من غادرها من شدة ما كان أذاها عميقاً.

عفرين لم تُنسَ، عفرين بقيت خالدة في ذاكرتنا ورافقتنا رغم ابتعادنا عنها أميالاً دون أن تفارقنا لأن حبها متدفق في خلايانا ويُستحيل فصلها عن أرواحنا، عشقها سرمدي وأزلي.

 خَسِئت الحرب، لن تُنسينا جبالها ووديانها وأشجارها وأنهارها وبيوتها ورياحها ورائحتها وزيتونها، خَسِئت الحرب أن تُنهي وجودها في جوفنا وأعماقنا، نبكي عليها بُكرةً وعشياً، ولا نَمِل، لم نرَ الضوء بعد غيابنا عنها، الضوء الذي كان ينبثق وراء جبالها المنتصبة، ستبقى عفرين رغم دمارها من أجمل ما صنعه الرب ولن تستطيع الريشة والقلم تدوينها، أنها أعظم من الفن، أنها العظمة بذاتها.

عفرين والتي ولِدت من رحم المقاومة والكفاح وتاريخها الحافل بالانتصارات لن تموت أبداً، لن يمُر كل الأذى الذي ألحقوه بعفرين مرور الكرام، الرد سيكون على موعد مع الدم والتاريخ والنصر، وإن أتى متأخراً فسيكون ساحقاً لأن “ما أُخذَّ بالقوة، لا يُسترَّد إلّا بالقوة”، والميعادُ عن قريب وليس ببعيد، ستُرفرف أعلام الحرية على سفوحها، ستتعالى زغاريد الأمهات بتحريرها، سيُقبّل الآباء تراب أرضها، وسيلعب الأطفال في بساتين الزيتون، ولن تبقى عفرين بين أيادي من لا يُقدرها، عفرين عظيمة الشأن وستبقى كذلك رُغم أنوف الجميع وإن كثُر الخصوم، أبناء جنة الله.. عائدون.