رامان آزاد_
متغيراتٌ كثيرةٌ طرأت على واقعِ عفرين خلال الأزمةِ، وجاءت على مراحل مختلفة، اعتباراً من تأسيسِ الإدارةِ الذاتيّة وحالةِ الاستقرارِ الأمنيّ، وحتى العدوان والدخول في نفقِ الاحتلالِ المظلمِ حيث تُرتكبُ مختلفُ أنواع الانتهاكات، بحقّ البشر والشجر والحجر، ويستمر التغيير الديمغرافيّ ومساعي لتغيير هويةِ المنطقة المجتمعيّة والتاريخيّة والطبيعيّة. واليوم تُستكملُ السنة الخامسة للاحتلالِ، فيما المؤشراتُ الأوليّة للعام الحالي تؤكّدُ ضرورةَ الحسم، بالسعي لنهايةِ الأزمة في إطارِ توافقاتٍ سياسيّة، وليس حلها، فالأدواتُ والأسبابُ استهلكت صلاحيتها.
ثلاث مراحل في عفرين
عاشت عفرين خلال الأزمةِ السورية ثلاث مراحل مختلفة جوهريّاً، وكذلك بالمدة الزمنيّة:
المرحلة الأولى حتى منتصف عام 2016: شهدت خلالها عفرين تحولات كبيرة في الإدارة والمأسسة، واستقراراً وتمتعت بهدوءٍ أمنيّ استثنائيّ ما جعلها ملاذاً لآلاف اللاجئين من مختلفِ المناطق. فيما كانت قرى الأطراف في مرمى الاستهدافِ سواء القريبة من الحدود التركيّة أو من مدينة إعزاز. وفي تلك المرحلة كانت معظم المدن والبلدات السورية ميادين معارك، وتوصف بالمناطقِ الساخنة.
التدخلُ الروسيّ في 30/9/2015، كان بدايةُ التحولِ، فبعد سقوط المقاتلة الروسيّة في 24/11/2015، وصل التوتر أقصى حدوده ووصف الرئيس الروسيّ الحادثة بأنّها “طعنةٌ في الظهر”، فيما رفض أردوغان الاعتذار، لتقدمَ موسكو على خطواتٍ استفزّت أنقرة، وأوحت إليها أنّها ذاهبة بعيداً في دعمِ الكردِ، ومن جملة ما قامت به افتتاح ممثلية للإدارة الذاتية في موسكو في 10/2/2016، وتقديم الدعم الجويّ لوحدات حماية الشعب في حملة تحرير تل رفعت في 15/2/2016، وروّجت لدستورٍ سوريّ جديدٍ، عُرف باسم دستور “كيري ــ لافروف” الذي أقرَّ صيغةً أوسع من اللامركزيّة وصلاحيات لجمعيات المناطق، ما أجبر أنقرة على التراجع والاعتذار في 27/6/2016.
المرحلة الثانية: بدأت فعليّاً بعد زيارة أردوغان إلى سان بطرسبرغ في 9/8/2016، وأولى نتائجها احتلال جرابلس، ومن ثم إخلاء حلب من المسلحين ومعركة الباب، وولادة منصة أستانه التي عقدت أولى اجتماعاتها في 23/1/2017. وقدمت موسكو نفسها ضامناً لمنع الاشتباك وأنشأت نقطة مراقبة في كفرجنة في 30/3/2017. ولكن التنسيق الروسيّ ــ التركيّ مضى قدماً حتى تاريخ 20/1/2018، يوم بدء العدوان على عفرين، بعد انسحاب القوات الروسيّة.
المرحلة الثالثة: بدأت بعد العدوان، واتضحت ملامحها الأولى بتعطيل موسكو قراراً لمنعِ توقف الحرب، ليصدر في 24/2/2018 قرارٌ باهت عن مجلس الأمن الدولي تضمن وقف الأعمال القتاليّة وهدنة لمدة 30 يوماً لدواعٍ إنسانيّة، دون الإشارة إلى العدوان التركيّ الذي كان مستمراً على عفرين، وفي 18/3/2018 دخلت عفرين نفق الاحتلال بعد أيام عصيبة من العدوان، وخرج نحو 75% من أهالي عفرين، فيما كانت العودة شاقة جداً، وخلال هذه المرحلة شنت أنقرة هجمات احتلالية في 9/10/2019 واحتلت تل أبيض/ كري سبي وسري كانيه.
تستمر المرحلة الثالثة حتى اليوم، ووقّعت خلالها متغيرات وانتهاكات وأعمال اختطاف وفُرِضت سياسة التتريك من خلال العملة واللغة التركيّة، وإجراءات الربط الإداريّ والأمنيّ والاقتصاديّ، والتغيير الديمغرافيّ عبر بناء المزيد من المستوطنات واستمرت المساعي لتغيير هوية المنطقة المجتمعيّة والتاريخية والطبيعيّة. وصولاً إلى تدخل مباشرٍ لمرتزقة “هيئة تحرير الشام/ النصرة”.
تزامن التصالح بتعويم عمليّ للنصرة
تسعى أنقرة منذ سنوات إلى تعويم نفسها “هيئة تحرير الشام/ جبهة “النصرة” المصنفة على قوائم الإرهاب الدوليّ وتقديمها على أنّها معارضة معتدلة، ولم تفِ بذلك باستحقاقات اتفاق سوتشي 17/9/2018، لإنشاءِ مناطق عازلة في إدلب. وفيما تضغطُ موسكو لتحقيقِ إنجازاتٍ في إدلب، تعرقل أنقرة ذلك لتجعل إدلب ملفاً للمساومة مقابل ترسيخ احتلالها لعفرين، وكذلك لتحصيل ضوءٍ أخضر لشن هجوم جديدٍ. وتتطلع إلى جعل عفرين الجغرافيا البديلة لمرتزقة “النصرة”، وتأجيل أي حوار حول مصير المنطقة، لتكون عفرين المكبَّ الأخير لنفايات الأزمة السوريّة.
ما يلفتُ الانتباه هو التزامنُ بين مسار التصالح ودخول مرتزقة “تحرير الشام” إلى عفرين، وكانت البداية من المبادرةِ الإيرانيّةِ التي أعلنها بعد زيارة وزير الخارجيّة الإيرانيّ إلى أنقرة في 26/6/2022، ودمشق في 2/7/2022، واستبقت حكومة الاحتلال التركيّ المبادرة الإيرانيّة بخلق الظروف لدخول مرتزقة “الهيئة” إلى عفرين في 18/6/2022، رغم أنّ الاشتباكات وقعت في الباب، ولم ينسحبوا من عفرين. وتم تأكيد دخول مرتزقة “الهيئة” مجدداً مع اندلاع الاشتباكات في الباب على خلفيّة مقتل الناشط “محمد أبو غنوم” ليدخل مرتزقة “الهيئة” إلى عفرين مجدداً في 13/10/2022، بعد إطلاق المبادرة الروسيّة، ويتم طرد مرتزقة “الجبهة الشامية وجيش الإسلام” منها، واستمرت الاشتباكات لعدة أيام، ورغم الإعلان عن إعادة صياغة المجموعات المرتزقة وخروج مرتزقة “الهيئة”، إلا أنّهم لم يخرجوا، ويقوم جهاز الأمن العام بأعمال الاعتقال لمرتزقة المجموعات المطرودة حتى اليوم.
المسارُ التصالحيّ الذي يتم العمل عليه اليوم جاء استجابةً لدعوةِ موسكو، وليس للمبادرةِ الإيرانيّةِ، وتم طرحه على أساسِ أنّه بديلٌ لشن هجمات هددت بها أنقرة.
هذا المسار دونه عقباتٌ كبيرةٌ، لأنّ سقفَ المطالب كبير جداً، فدمشق تطالبُ بانسحاب تركيّ كامل ووقفِ دعم المجموعات المرتزقة، وتعتقد أنّ أي تجاوب مع أنقرة في هذه الظروفِ يعني تقديمَ هديةٍ مجانية لأردوغان في الانتخاباتِ القادمة، كما يُعتبر الانسحاب التركيّ إنجازاً غير مسبوقٍ لدمشق.
وإذ يستكمل اليوم احتلالُ عفرين السنة الخامسةِ، فقد شهدت منطقة الشهباء تصعيداً وقصفاً تركيّاً لأكثر من 20 قرية، سبق ذلك تصعيدٌ وهجمات عدوانية قامت بها “أحرار الشام” في قرية مياسة في 12/1/2022 ومن بعدها “تحرير الشام” في إدلب. وإذ يبدي هاتان المجموعتان المقربتان اليوم من أنقرة الرفض العمليّ للمسار التصالحيّ، عبر التصعيد العسكريّ، فلا ينفي ذلك الدور التركيّ في الخفاء، وأنّها تسعى لتحسين شروط التفاوض لصالحها في محاولةٍ لجعلِ الواقعِ الميدانيّ عاملاً مؤثراً في المسار التصالحيّ.
العودة إلى واشنطن
تدركُ حكومة العدالة والتنمية صعوبةَ المضي بالمسار التصالحيّ وفق الرؤية الروسيّة، كما تدرك صعوبة الانتقال إلى عملٍ عدواني بسبب الرفض الأمريكيّ والحساسيّة الإيرانيّة، فيما تفرض الانتخابات القادمة إيقاعها بقوةٍ وتتطلب عملاً سريعاً، ولذلك جاءت زيارة وزير الخارجية التركيّة إلى واشنطن في 17/1/2023 بعد مرحلة من توتر العلاقات بين الطرفين على خلفية صفقة الصواريخ الروسيّة إس ــ 400 والتنسيق مع موسكو، وإخراج تركيا من مشروع الطائرة إف ــ 35، والعربدة التركيّة في النادي الأطلسيّ ورفضها الانضمام إلى العقوبات الأمريكيّة ـ الأطلسيّة على روسيا بسببِ الحرب في أوكرانيا وعرقلة انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف.
أبدى مسؤولون أمريكيون الرفض لأيّ هجمات عدوانية تركية جديدة، كما رفضوا مسار التطبيع مع دمشق، ورغم إدراك واشنطن أنّ المساعي الروسيّة تستهدف وجودها العسكريّ في سوريا، وأنّ إدارة الرئيس مطالبة بايدن بعدم تكرار سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب في سوريا الذي أساء إلى هيبة الحضور الأمريكيّ، وسمح بالتوغل العسكريّ التركيّ، وتداعيات ذلك على مجمل السياسة الأمريكيّة بالمنطقة، إلا أنّ موقف واشنطن الحالي غير كافٍ ولم يرتقِ إلى مستوى الردع حتى اليوم. فواشنطن لا يمكنها الاستغناء عن الموقع الجيوسياسيّ لتركيا، والذي تزيد أهميته باعتبار الشرق الأوسط أضحى خط المواجهة المباشرة مع روسيا، والنفوذ الإيرانيّ والطموح الصينيّ.
ترتفعُ أصواتٌ أمريكيّة مطالبةً إدارة الرئيس بايدن بموقف حازم إزاء أنقرة، وجدد جون بولتون مستشار الأمن القوميّ السابق مقالاً في صحيفة وول جونال ستريت في 17/1/2023 المطالبة بإنهاء عضوية تركيا في حلف الناتو، ووصف أداء أردوغان بأنّه كان مثيراً للانقسام وخطيراً طوال الوقت، وكانت سياساته الإقليمية العدوانيّة خطيرة بالمثل، وأضاف: “تركيا عضو بمنظمة حلف شمال الأطلسيّ لكنها لا تتصرف كحليف”. وختم بولتون: “من الواضح أنّه من الخطورة التفكير بجدية في طرد تركيا أو تعليق عضويتها، لكن الأمور ستزداد سوءًا فقط إذا لم يتصد التحالف لسلوك أردوغان السام”.
بذلك تُفهم زيارة جاويش أوغلو إلى واشنطن على أنّها تأكيد من جانب أنقرة أنّها مازالت تحت مظلة الناتو، وتبحث عن مساراتٍ إضافيّةٍ لعبورِ الاختبارِ الانتخابيّ.