صفحات من التاريخ الإسلامي ـ3ـ “فاتحَا الأندلس”

محمد فتحي عبد العال (كاتب وباحث مصري)_

عندما نذكر فتح الأندلس، فإن فاتحين عظيمين يحضران في البال، أولهما كان شيخا تعدى السبعين من العمر عركته الحياة حنكة وتجارب وبرغم إعاقته في ساقه وإصابته بالعرج، إلا أنه سار معاندا في دروب الحياة بين عسر ويسر وما أقسى عثرات حياته.

ذكر ابن بشكوال، أن اسمه “موسى بن نصير بن عبد الرحمن بن زيد”، وذكر بعض المؤرخين أن لقبه اللخميّ، ذلك أن أباه كان مولى، وقيل من صلب أبناء قبيلة لخم اليمنية الشهيرة وكان على حرس معاوية بن أبي سفيان وقيل على شرطته زمن ولايته على الشام في عهدي عمر وعثمان، ثم انتقل للعمل لدى عبد العزيز بن مروان، فأعتقه.

أما الرواية الأشهر حول أصله، هي أنه ينتسب إلى بني بكر بن وائل، وأن أباه نصيراً كان من ضمن أربعين غلاما أسرهم خالد بن الوليد في معركة عين التمر عام 12 هـ. وهي بلدة صغيرة تقع على طرف الصحراء غرب نهر الفرات، فيما ذهب آخرون إلى أنه من أراشة من قبيلة بلي، سبي أبوه من جبل الخليل بالشام في زمن الصديق أبي بكر، وأن اسم أبيه نصرا، وصُغر إلى نصير.

شب موسى في كنف الدولة الأموية؛ ما أهله للاضطلاع بمهمة كبيرة، وهي إعادة فتح قبرص وكان قد فتحها قبله معاوية وتولى إمارتها، الغريب هو أنه أخذ موقفا في عصر الفتن مناهضا الأمويين، عبر اشتراكه في معركة مرج راهط، بين الأمويين والصحابي الضحاك بن قيس الفهري، منضما لمعسكر الضحاك، والذي كان يدعو سرا لعبد الله بن الزبير، ولما انتصر الأمويون فر موسى إلى مصر، خوفا من بطش مروان بن الحكم، والراجح عندي هو علاقة أبيه بعبد العزيز بن مروان والي مصر، والتي تمخضت عنها صداقة جمعت بين عبد العزيز وموسى،  تلك الصداقة التي أنقذته من غضب مروان بن الحكم في المرة الأولى، ومن بعده غضب الخليفة عبد الملك بن مروان، والتي كاد أن يفتك به؛ ذلك أن عبد الملك ولى أخاه بشر بن مروان على الكوفة، وضم إليها البصرة، فاستعان بموسى على خراجها، ولما مات بشر بالبصرة وولي الحجاج بن يوسف مكانه، اتهم موسى باختلاس أموال الخراج، وحجزها لنفسه، مستغلا حداثة عمر بشر ومنحه خاتمه له، عن ثقة تامة للقيام بكافة الأعمال عنه، فغضب عليه عبد الملك، وفرض عليه غرامة كبيرة تحمل عنه نصفها عبد العزيز بن مروان، وأخذه معه لولايته في مصر.

استعان عبد العزيز بموسى بن نصير في إعادة فتح المناطق، التي عاد وسيطر عليها البربر وثوراتهم المتلاحقة، فنجح في مهمته وعاد محملا بالغنائم، والتي وجدها فرصة لإصلاح صورته لدى الخليفة عبد الملك، فأرسلها لعبد العزيز من فوره والذي أرسلها للخليفة بدوره.

على الرغم من ذلك ظلت هذه التهمة تلاحقه، بل انتهت حياته على إثرها كما سنرى، وهي مسائل مالية شائكة لا يمكن حسمها، فمطامع الخلفاء في الغنائم الكبيرة، والسعي للثراء يزيد من حجم توقعاتهم، علاوة على أطماع بعض الجنود والعمال عليها، فبعض هذه الغنائم يسيل لها اللعاب بطبيعة الحال، وضعف النفوس وطبائع البشر، كلها أمور توضع في الحسبان، لكن يجدر بنا أن ننظر لوضع موسى بن نصير من زاوية هامة، وهو حالته الصحية، فالعرج قد يكون علامة على وجود إصابة في الدماغ، الحبل الشوكي، أو الأعصاب الطرفية، أو مشاكل القلب والرئة، وكلها أمور تدفع باتجاه الخدر وعدم التوازن والتركيز، وبالتالي فقدرة الرجل على تحمل أعباء المسؤوليات المادية، علاوة على المسؤوليات الإدارية، وقيادة الجيوش بكفاية تامة تبقى محل شك وتساؤل، خاصة مع التقدم العمري.

القائد الثاني هو طارق بن زياد، والذي تختلف المصادر حول أصوله، فمنهم من يزعم أنه فارسي من همدان، ومنهم من ذهب أنه عربي من قبائل الصدف في حضرموت باليمن، كابن خلكان، أو قبيلة بني الليث العربية كابن خلدون، ومنهم من قال أنه بربري أو أمازيغي، كالمؤرخ والجغرافي أبو عبد الله محمد الإدريسي، والمؤرخ المراكشي ابن عذاري، وهو القول الأشهر بحكم كونه مولى لموسى بن نصير، والي أفريقيا، والذي أسلم على يديه كثير من البربر، وربما كان طارق من بينهم، واسمه حسب ابن عذاري: «طارق بن زياد بن عبد الله بن رفهو، بن ورفجوم، بن ينزغاسن بن ولهاص بن يطوفت بن نفزاو» أو «طارق بن زياد بن عبد الله بن ولغو بن ورفجوم بن نبرغاسن بن ولهاص بن يطوفت بن نفزاو» بينما ذكره الإدريسي :”طارق بن عبد الله بن ونامو الزناتي” دون زياد.

المهم، أن القدر يدعو البطلين لفتح الفردوس المفقود، وهو الأندلس، ذلك أن الكونت يوليان وبدافع من الرغبة في الانتقام من رودريك أو (لذريق) ملك القوط، والذي اغتصب ابنته كما اغتصب البلاد كلها، من ملكها حسن السيرة “غيطشة” فقد راسل موسى بن نصير، وقيل خاطب عامله على طنجة طارق بن زياد، داعيا المسلمين لغزو الأندلس وتقديم سبل المساعدة كافة على تحقيق ذلك.

استأذن موسى بن نصير الخليفة الوليد بن عبد الملك في غزو الأندلس، لكن الوليد كان على رؤية الخليفة السابق عمر بن الخطاب نفسها، من الخشية على جنوده من أهوال البحر، فتردد في الدفع بقوات كبيرة، خاصة وأن وعد يوليان ربما كان صدقا، وربما كان مصيدة لا يؤمن جانبها.

 لزم موسى بن نصير جانب الخليفة فأرسل سرية صغيرة لجس النبض، بقيادة طريف بن مالك، فنزلوا جزيرة “سميت” والتي سميت بجزيرة “طريف” بعد ذلك، وغنم مغانم كبيرة، ثم اتبعها بجيش من البربر قوامه سبعة آلاف مقاتل، بقيادة طارق بن زياد، للتوسع في أراضي الأندلس، ثم أمده بخمسة آلاف مقاتل آخرين، لمواجهة حشود رودريك الهائلة، والذي تحرك بنفسه من طليطلة عاصمة الأندلس، لقيادة المعركة، ليتلاقى الجمعان عند “وادي لكة” حيث انهزم رودريك وانقطع أثره، والطريف أن عبد العزيز بن موسى بن نصير تزوج أرملته، وقيل ابنته “أجيلونا” أو “أيْلُهْ” والتي عرفت بـ أُم عاصم وقيل أنها كانت سببا في تنصره، حسب بعض الروايات.

استغل طارق بن زياد هذا النصر المؤزر، فقرر أن يطرق الحديد وهو ساخن، وخشية تجمع فلول القوط مرة أخرى، قسم قواته إلى عدة فرق، اتجهت إلى قرطبة وإلبيرة ورية، وتوجه هو وباقي الجيش إلى طليطلة وأحرزت الفرق انتصارات على الأصعدة كافة.

أرسل طارق لموسى بن نصير، يعلمه بالنصر، فتهلل وأرسل للخليفة الوليد، يبشره بهذا الفتح المبين، ولكنها الغبطة قد تملكت الشيخ الكبير موسى بن نصير في أن يكون له نصيب من فتح كهذا، وأن يقترن اسمه بفتح الأندلس العظيم، والتقدم الإسلامي بأوروبا، فأمر طارق بالتوقف عن الفتوحات، حتى يلحق به، حيث سلك طريقا غير طريق طارق، فاتحا مدن شذونة، وقرمونة، وإشبيلية وباجة وماردة، كما فتح ابنه عبد العزيز “لبلة” فضلا عن إعادة فتح إشبيلية مرة أخرى، بعد تمردها، وسار موسى ووجهته طليطلة، ولاقى طارقاً في طلبيرة، وانطلقا معاً إلى طليطلة كما فُتحت سرقسطة…