الفوضى الخلاقة بين النظرية والتطبيق (1)

رجائى فايد_

يعتقد البعض بأن نظرية الفوضى الخلاقة، حديثة النشأة، أتت وفق أطروحات (فوكياما وصمويل هنتجون) أو (كوندليزا رايس) وغيرهم، لكن تلك النظرية كانت أقدم من ذلك حيث كانت البداية الحقيقية لها في أوائل القرن الماضي.
ويعتقد أصحاب وأنصار الفوضى الخلاقة بأن خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، سوف تؤدي حتماً إلى بناء نظام سياسي جديد، يوفر الأمن والازدهار والحرية. غير أن الواقع يؤكد أن لهذه النظرية عند تطبيقها، لها أهداف أخرى تصب في مصلحة القائمين عليها بعيداً عن الأهداف المستترة خلف تلك النظرية.
ويرى المبشرون بها، أنه بوصول النفس إلى حافة الفوضى التي يفقد فيها الإنسان جميع ضوابطه وقوانينه، ليصبح بعدها على استعداد لخلق هوية جديدة، بقيم مبتكرة ومفاهيم حديثة، تساعده على تطوير البيئة المحيطة به. كما يشير هؤلاء المبشرون بأن منطقة الشرق الأوسط بما فيها من أمراض اجتماعية خطيرة، تستوجب أن تطبق عليها تلك النظرية، لتندمج في الحضارة الغربية بدلاً من وضعها الحالي الذي يشكل عبئاً ثقيلاً على تلك الحضارة (تفجيرات برج التجارة بنيويورك).
وكما أوضحنا آنفاً بأن هناك طرحاً ظاهرياً لتلك النظرية، على أساس أن منطقتنا (الشرق الأوسط التعيس) يجب أن تستحدث فيها هذه النظرية لأن العالم المتحضر لم يعد في إمكانه تحمل الإفرازات المدمرة لها، وبالتالي يجب تطبيق (الفوضى الخلاقة) على نطاق واسع في شرقنا كي يمكن إعادة بنائه من جديد، بحسب المفاهيم الغربية، ناهيك عن الأهداف المستترة وراء ستار تلك النظرية، وهي تتعلق بما في باطن الأرض وسطحها من الثروات التي يتلمظ ويتكالب عليها أصحاب تلك النظرية، وهم الذين يحمون الفسدة من حكام تلك البلاد حتى ينالوا القسط الأوفى من تلك الثروات.
أما مضمون تلك النظرية فهي مجرد كلام نظري، طالما يأتي لهم الحظ الأوفى من تلك الثروات، ويتضح هذا المفهوم في نهب ثروات الشعوب عندما كانت الدول الاستعمارية تجيش جيوشها في حروب استعمارية، وما يترتب على ذلك من قيام حركات تحررية، تسعى لتحرير أوطانها، فقد تبدل الحال حالياً، إذ أصبح بالإمكان تحقيق المصالح بدون حروب، وبدون أي تكلفة، إذ يكفي حكام فسدة يتسترون بوطنية زائفة في حماية الغرب بدهائه وبنظرياته وترتيباته، وبطريقة ناعمة غير مكلفة، ونأخذ العراق مثالاً لذلك.
فالعراق الذي تطلب تغيير نظام الحكم بغزوة أمريكية تحت مزاعم امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، فإن الغزو الأمريكي للعراق كان في الأغلب بتمويل من كان له مصلحة في الغزو (دول الجوار)، ولكن بعد أن تم الغزو الذي بشر بها الغرب بأن العراق مقبل على عهد جديد من الديموقراطية، وسيصبح نموذجاً حياً لابد أن تقتدي به دول المنطقة! ها نحن نرى العراق بعد تطبيق تلك النظرية، بأنه يعيش في فوضى شاملة دون أمل في خروجه إلى ما بشرت به تلك النظرية، وخطر التقسيم يلوح في الأفق، وشعبه يتضور جوعاً في حين يزخر بثرواته تحت الأرض وفوق الأرض، ويتضور عطشاً ولديه نهران (دجلة والفرات) ويموت شتاء من البرد، والأرض من تحته تتفجر بالنفط، الذي يسيل لعاب الغرب له.
هذا هو العراق الذي بشرنا به الغرب، والذي يبدو ألّا نهاية لفوضته القائمة ولن تثمر عن فوضى خلاقة، كما يبشر له منظرو الغرب. وإلى كلمتنا القادمة ليتبين لنا نحن قاطنو الشرق التعيس، هل تلك النظرية لنا أم علينا؟