برخدان جيان
تواجه روسيا مأزقًا في ترتيب خروجها من الأزمة السورية، وفيما ينطوي عليه ذلك من تقويض مكاسبها، التي حقّقتها خلال الفترة الماضية، وانعكاس ذلك سلبًا على مكانتها ونظرتها إلى نفسها على أنّها قوة دولية، ومن شأن ذلك أن يعزّز تبنّي موسكو سياسات عدائية، ومحاباة سياسات الدول المتدخلة على الأرض السورية؛ ما يصعد من حدة العمليات العدوانية التي تشنها الدولة التركية المحتلة وإيران على المشهد السوري.
وما إن انتهت قمة طهران بين الدول الثلاث (إيران ـ تركيا ـ روسيا) حتى بدأت الدولة التركية المحتلة في تصعيد هجماتها على مناطق شمال وشرق سوريا، واستخدام سلاح المسيرات، وتصعيد قصفها لمناطق شمال وشرق سوريا في موقف مباين لموقفَي روسيا، وإيران، وهو ما دفع موسكو لعقد هذه القمة؛ لإعادة ترتيب الأوراق على الأرض السورية من جديد، وتقوية الاصطفاف بين الدول الثلاث، بما يتماشى مع قدرة موسكو على إدارة التناقضات، والمصالح للدول الثلاث، والذهاب بعيداً في تطوير المسارات السياسية، وكذلك الوقوف بوجه التحديات الغربية المتزايدة، ضد سياستها واستراتيجيتها في سوريا، من خلال استمالة الدولة التركية بطريقة أو بأخرى، وإجبارها على إعادة تموضعها في الملف السوري.
“أبعاد استراتيجية” سياسة موسكو في سوريا
يرى “محللون”، أنه بالرغم من تبنّي روسيا أهدافاً استراتيجية، شكّلت المحرك الأساسي لقرار تدخلها، ونجاحها النسبي في تحقيق أهداف مرحلية، فإن رؤيتها تستند إلى ركائز هشّة، كما تواجه تحدّيًا غربياً متنامياً في إدارتها لقواعد اللعبة السورية، علاوةً على مواجهتها تحدّيات تتعلق بإدارتها لتناقضات مساراتها السياسية، وهو ما يصعّب محاولات روسيا الخروج من المستقنع السوري، ويعرّضها لمخاطر تطور الصراع (الأوكراني ـ الروسي) الى حرب ساخنة مع الغرب، وبالتالي ما ينتج عنها من تبعات المواجهة الإقليمية المتزايدة بين إيران، وإسرائيل في سوريا.
واتّخذت روسيا قرارها بالانخراط في الأزمة السورية منذ بدايتها، وفق قاعدة اغتنام الفرص، ودرء المخاطر، حيث عدتها موسكو فرصة لإعادة تموضعها في الساحة الدولية، وتأكيد دورها بوصفها قوة عظمى، انطلاقًا من البوابة السورية، فضلًا عن تحقيق مكاسب اقتصادية، وجيوسياسية انطلاقًا من الجغرافية السورية.
في حين تمثّلت المخاطر الحافزة للفعل الروسي في سوريا بضرورة إجهاض دعوات التغيير عن طريق الثورات، التي تخشى موسكو أن تدركها بشكل مباشر، أو تدرك مناطق نفوذها، كذلك شنّ فعل، وقائي ضد المجموعات المرتزقة، والحيلولة دون تمدّدها إلى الجمهوريات الروسية والسوفيتية، فضلًا عن احتواء محاولات استهداف روسيا اقتصاديًّا في سوق الطاقة، انطلاقًا من البوابة السورية.
وقد تطور الدور الروسي خلال الأزمة السورية، إذ تغيّر بين مرحلة وأخرى، وتبع ذلك تغير في الأدوات، والأهداف المرحلية وطبيعة العلاقات بين روسيا، وغيرها من القوى، وفي حين استطاعت موسكو فرض وقائع ميدانية وسياسية لا يمكن تجاهلها في الأزمة السورية، إلّا أنّ مآلاتها في سوريا، ومكاسبها رهن قدرتها على التعامل مع التحديات، التي تعترض جهودها؛ لترتيب خروجها من الأزمة السورية.
وشكّلت سوريا أحد أبرز ساحات الفعل الروسي في الشرق الأوسط، حيث وجدت فيها موسكو ركيزة محورية لتحقيق جملة من الأهداف، التي تتصل بالمكانة الدولية، والتجارة الدولية، والنفوذ الإقليمي، وهي زيادة قدرة روسيا على التحكم الجيوسياسي بمنطقة الهلال الخصيب، بما يحدّ من قدرة الغرب على المناورة الاستراتيجية فيها، من خلال تشكيل ترتيبات إقليمية أمنية وسياسية، وهذا الذي يفسّر الوجود العسكري الروسي شرق المتوسط، والتنسيق متعدد الأبعاد مع القوى الإقليمية، وردّ الاعتبار لمكانة روسيا الدولية، ودورها بوصفها قوة عظمى، من خلال تأكيد دورها بصفتها شريكًا أساسيًّا في معالجة الأزمات الإقليمية، ومحاربة الإرهاب.
كذلك توظيف الأزمة السورية بوصفها ورقة تفاوضية في علاقتها مع الغرب، والولايات المتحدة بخصوص ملفات إشكالية، كالعقوبات الاقتصادية، وأوكرانيا، وتوظيف الجغرافية السورية؛ للتأثير في معادلات الطاقة إقليميًّا وعالميًّا، بما يضعف محاولات استهداف قطاع الطاقة الحيوي للاقتصاد الروسي، إضافةً إلى تعزيز صادراتها من السلاح انطلاقًا من البوابة السورية.
أطوار التدخل الروسي في سوريا، وتأثيراته
يشدد “محللون” على أهمية تسليط الضوء على اعتبارات السياق المحلي، ورؤية صانع القرار؛ لتفسير قرار التدخل الروسي، حيث يُنظر لسوريا على أنها ساحة لإجهاض دعوات تغيير
الأنظمة، التي تخشى موسكو أن تطالها، أو الأنظمة الموالية لها في جوارها الحيوي، فضلًا عن استثمار تدخلها في سوريا، على أنّه مخدّر إمبراطوري، على حدّ توصيف البروفسور، والمحلل الروسي (أندري بيونتكوفسكي) من خلال تعزيز الروح القومية الروسية، كذلك تحويل الانتباه عن الأزمات الداخلية، ولاسيّما الاقتصادية، من خلال خوض مغامرات خارجية.
ويمكن تقسيم الدور الروسي في الأزمة السورية، بحسب نمط التدخل إلى ثلاث مراحل: إدارة الأزمة، والانخراط في الأزمة، ومحاولة الخروج من الأزمة، وقد تباينت، حسب كل مرحلة الأدوات، والأهداف المرحلية، وطبيعة العلاقات بين موسكو وغيرها من القوى الإقليمية، والدولية المعنية بالملف السوري، حيث اكتفت روسيا في الفترة الممتدة بين (آذار 2011 ـ آب 2015) بتوفير حماية سياسية، ودعم عسكري لحكومة دمشق، ونظامها الحاكم، انطلاقًا من اعتقادها بقدرته على ضبط الوضع الداخلي في ظل انتفاء احتمال التدخل الخارجي، إضافةً إلى اتكائها على التدخل الإيراني لمواجهة المعارضة السورية، التي تدعمها عدة دول إقليمية وغربية، كما واصلت موسكو التنسيق السياسي مع القوى الإقليمية، والدولية المؤيدة للنظام كالصين.
واضطرت موسكو إلى زيادة انخراطها في سوريا منذ ربيع 2015، وتتويجه بالتدخل العسكري (أيلول 2015)، بقبول ضمني أمريكي، وترحيب بعض العواصم الغربية، وبتنسيق مع إيران، وذلك تحت ضغط تردّي الوضع الميداني للنظام، وتآكل قواته العسكرية، وعجزها رغم دعم الميليشيات الإيرانية، والمحلية له، عن صدّ هجمات فصائل المعارضة، وتمدد المجموعات المرتزقة، تحدّد أهداف التدخل العسكري الروسي.
مصالح روسية لشرعنة الهجمات التركية على الأرض السورية
يفسر “خبراء” سوء العلاقات التركية مع روسيا، بأنه يتمحور حول التدرج في المواقف، الذي تبنته الدولة التركية تدريجيًّا من إقناع النظام السوري، بضرورة إجراء إصلاحات سياسية، إلى تموضعها ضمن القوى الداعمة للمعارضة السورية، وهو ما أحدث تصدعاً في العلاقة مع روسيا، من دون أن يفضي إلى توتر في العلاقة المحكومة باعتبارات المصالح الاستراتيجية، والاقتصادية المتعددة بين الطرفين، كذلك أسهمت الأزمة الأوكرانية، وإلحاق القرم بإحداث صدع آخر في العلاقة بين الطرفين، مع عدم اعتراف تركيا بذلك، من دون أن تذهب أكثر في موقفها، حيث لم تشارك في العقوبات على روسيا، كما فعل الأوروبيون.
وقد جاءت حادثة الطائرة الروسية، التي أسقطتها تركيا عقب اختراقها مجالها الجوي (تشرين الثاني 2015) لتشكّل أزمة حقيقية بين الطرفين، حيث لجأت روسيا إلى فرض عقوبات اقتصادية على تركيا، وتوجيه اتّهامات لها بدعم تنظيمات إرهابية في سوريا، كما لجأت إلى تطوير علاقاتها مع خصوم تركيا الإقليمين آنذاك، كالعراق ومصر.
راهنت تركيا على موقف أمريكي، وغربي داعم لها في أزمتها مع روسيا، لكنها مُنِيت بخيبة أمل كبيرة، عزّزها الموقف الأمريكي الداعم للمشروع الديمقراطي، الذي تبنته شعوب شمال وشرق سوريا بعد انطلاق ثورة 19 تموز 2012، واختيارها حليفًا محليًّا لمحاربة داعش، من دون الأخذ بعين الاعتبار مآرب الدولة التركية المحتلة، ومخططاتها في هذا الصدد، كذلك عدم الاكتراث الأمريكي بمقترح ما يسمى بـ (المنطقة الآمنة) المطروح تركيًّاً، يضاف لما سبق الموقفين الأمريكي، والغربي السلبي إزاء محاولة الانقلاب في تركيا (حزيران 2016)، وهذا وضع تركيا أمام مخاطر عزلة إقليمية ودولية، حيث اتّخذت خطوات لكسر الجمود مع روسيا، وهو ما قوبل بترحيب روسي، ناجم عن حاجتها إلى أنقرة لترجمة مكتسباتها الميدانية سياسيًّا، كذلك تخوف موسكو من تمدّد إيران في سوريا، وحاجتها إلى موازنتها من خلال تركيا، فضلًا عن استغلال الخلاف التركي مع الولايات المتحدة والدول الغربية؛ لجذب أنقرة بعيدًا عن المحور الغربي، وهذا الأمر ما يفسر تغاضي الروس عن الهجمات العدوانية المستمرة، التي تقوم بها الدولة التركية المحتلة في مناطق شمال وشرق سوريا، وإطلاق يدها لاستخدام سلاح المسيرات، واستهداف الشخصيات الوطنية في شمال وشرق سوريا، والعمل على تقويض الأمن والاستقرار.
شهدت العلاقات (الروسية – التركية) تناميًا عقب مجيء إدارة الرئيس بايدن، وذلك على خلفية استمرار الإدارة الجديدة بتبني سياسات الإدارة السابقة، فيما يتعلق بالاعتماد على قوات سوريا الديمقراطي حليفًاً، وتعزيز الدعم، والوجود العسكري في مناطق شمال وشرق سوريا، بعد القضاء.
على مرتزقة داعش في أخر معاقلهم بريف دير الزور الشرقي، وقد هيّأت التفاهمات الروسية التركية الأرضية؛ لشن هجمات عدوانية كانت ضحيتها مقاطعة (عفرين) في عام 2018، عقب إطلاق يد تركيا في تلك المنطقة، وسحب روسيا لقواتها من نقاط تمركزها لتُشن الدولة التركية هجماتمها العدوانية، كذلك الهجمات العدوانية التي شنتها تركيا في التاسع من تشرين الأول 2019 أعقبها (اتفاقية سوتشي) التي دخلت بموجبها القوات الروسية الى مناطق شمال وشرق سوريا، كطرف ضامن بهدف حماية المدنيين ووقف الهجمات العدائية، إلا أن روسيا لم تف بتعهداتها بموجب الاتفاقية المذكورة في ظل خرق الدولة التركية؛ لوقف إطلاق النار، واستهداف المدنيين، واستخدام المسيرات.
“المسارات السياسية” طريقها للخروج من الأزمات سريعاً
تُولي روسيا أهمية لمسار أستانا؛ لأنه أداة لاختبار قدرتها على تسوية الأزمة، وترتيب خروجها سياسيًّا من العقدة السورية بما يضمن مصالحها؛ ولأنه كذلك اختبار لقدرتها على تشكيل ترتيبات إقليمية، تؤسس لمنظومة هيمنة روسية في الشرق الأوسط، وهو الذي يفسّر اهتمام موسكو بهذا المسار، والسعي إلى تطويره؛ ليكون أداة لاحتكار التسوية السياسية للأزمة السورية.
يُشير “خبراء ومحللون” في الشأن الروسي، بأن روسيا تبنت المسار السياسي في الأزمة السورية، وعقدت عدة جولات تفاوضية في إطار “مسار أستانا” وقد خرجت نتائجها، وقائع ميدانية في حين لم تتمظهر بعد نتائجه السياسية، فيما يتعلق بتسوية الأزمة السورية؛ لأسباب متعددة تتعلق بالمواقف الدولية، وعدم انخراط قوى إقليمية أخرى فيه، والأهمّ عدم استقرار العلاقات البينية بين ثلاثي أستانا المشحونة، بتوترات كامنة، منبعها عدم الثقة، وتباين وجهات النظر حيال قضايا خلافية، إضافة إلى وجود دور غربي، عمل على إخفاق مسار سوتشي، في حين شكلت قمة طهران، التي عُقدت الأسبوع المنصرم أحد أمثلة هذه التباينات، بعد الرفض الضمني من قبل (إيران ـ روسيا) للهجمات التركية نظراً لنتائجها غير محسوبة العواقب بمقابل التغاضي عن التصعيد، الذي بادرت به الدولة التركية في مناطق شمال وشرق سوريا، حيث استهدفت عدة مناطق من بينها (عين عيسى ـ تل تمر ـ تل رفعت ـ ومنبج)، وسمح لها على ما يبدو باستخدام سلاح المسيرات؛ لاستهداف الشخصيات الوطنية في مناطق شمال وشرق سوريا؛ ما يضع الدور الروسي على المحك، ويشجع على زعزعة الأمن والاستقرار، وينسف تعهداتها بحماية المدنيين، وخفض التصعيد بموجب اتفاقية سوتشي 22 تشرين الأول 2019 التي شرعنت دخولها الى مناطق شمال وشرق سوريا.