رامان آزاد-
ثمة تشابهاً ما بين آخر زيارتين قام بهما الرئيس التركيّ أردوغان إلى روسيا ولقائه الرئيس الروسيّ بوتين، من حيث دوافع الزيارة وظروف التصعيد العسكريّ في الميدان السوريّ، وكذلك نتائج الزيارة، ولا تعكس تصريحات المسؤولين الأتراك حقيقة المأزق السياسيّ لأنقرة، ورغم أنّ الزيارتين سُبقتا بتصريحاتٍ عالية السقفِ، إلا أنَّ النتائجَ تكشفُ الحقيقةِ، عبر ميلٍ واضح إلى التهدئةِ والقبولِ بإملاءات موسكو، التي عاد منها خالي الوفاضِ.
حكاية الطُّعم الروسيّ لأنقرة
تزامنت زيارة أردوغان إلى موسكو مع اكتمالِ ستِ سنواتٍ على التدخلِ العسكريّ الروسيّ في سوريا في 30/9/2015، ويومها أعلنت موسكو عن خطةِ بقاءٍ مؤقتٍ لمدة 3ــ 4 أشهر، وأنّه سيقتصرُ على عملياتِ الدعمِ الجويّ للقواتِ البريّةِ، واستهدافِ الكياناتِ الإرهابيّةِ والجهاديين من مختلفِ البلدان، بما فيهم القادمين من روسيا ودولِ الاتحادِ السوفييتيّ السابق، وقتالهم على الأراضي السوريّة ومنعِ عودتهم.
كانتِ العلاقة الروسيّة ــ التركيّة حينها في أسوأ أحوالها، واقتصرت سيطرةُ النظامِ السوريّ على نحو 22% فقط من البلادِ، والمعاركُ تدورُ في جبهاتٍ متعددةٍ، معتمدةً على نموذجِ حربِ العصاباتِ وقتالِ الشوارعِ، وكانت حلب العاصمةَ الاقتصاديّةَ محاصرةً، وهناك شللٌ اقتصاديّ كاملٌ.
شكّل التدخلُ العسكريّ الروسيّ علامةً فارقةً في مسارِ الأزمةِ السوريّة، فقد تفهمت موسكو حجمَ الدورِ التركيّ المناوئ لدمشق، وبدأت بخطةِ استيعابها، لتجعلَ هذا الدورَ في النهايةِ يخدمُ الهدفَ النهائيّ في بقاءِ النظامِ في سوريا، وبعثت بأولى رسائلِ الميدانِ إلى أنقرة عبر استهدافِ مواقعِ “جيش العزة” في بلدةِ اللطامنة بريف حماه، أي خلافاً لما أعلن عنه الرئيسُ الروسيّ باستهدافِ الإرهابيين الأجانب. وفي 1/10/2015 صرّح رئيسُ لجنةِ القواتِ المسلّحةِ بمجلسِ الشيوخِ الأمريكيّ السيناتور جون ماكين أنَّ الغاراتِ الروسيّةَ استهدفت وحداتٍ من “الجيشِ السوريّ الحرِّ” درّبتها وكالةُ المخابراتِ المركزيّةِ، وقال لدينا اتصالٌ مع أشخاصٍ هناك”، إلا أنّ الرئيس بوتين اعتبر ذلك “هجوماً إعلاميّاً”.
التوترُ السياسيُّ بين موسكو وأنقرة بلغ أعلى المستوياتِ مع إسقاطِ القاذفةِ الروسيّة سوــ 24 في 24/11/2015، واتهم الرئيس بوتين تركيا بدعم الإرهاب، وأنّها وجّهت طعنة لروسيا في ظهرها. بعد ثلاثةِ أيام على الحادثةِ، وأعلنت روسيا عن حزمةِ عقوباتٍ اقتصاديّةٍ ضد تركيا، بعدما وقع الرئيس الروسيّ مرسوماً رئاسيّاً تضمن حظرَ استيرادِ موادٍ من تركيا، ونشاطِ الشركاتِ التركيّةِ في روسيا، والأتراك الذين يعملون لمصلحةِ شركاتٍ روسيّةٍ داخلَ البلادِ.
بدأ الاستدراجُ الروسيّ لأنقرة بحديثِ المسؤولين الروس عن مشروعِ دستورٍ جديدٍ لسوريا، وفي 1/3/2016 صرّح سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجيّة الروسيّ: “نأملُ أن يتوصلَ المشاركون في المفاوضاتِ السوريّةِ إلى فكرةِ إنشاءِ جمهوريّةٍ فيدراليّةٍ”، وعُرف المقترحُ باسم “دستور كيري ــ لافروف” نسبةً إلى وزيري الخارجيّةِ الأمريكيّ والروسيّ، وتضمن إنشاء جمعيةِ الشعبِ (مجلس الشعب) وجمعياتٍ للمناطقِ (مجالس محليّة) ذاتِ صلاحياتٍ موسّعةٍ ومنحَ الكردِ “وضعيّةَ الحكمِ الثقافيّ الذاتيّ”. وتزامن طرحُ مقترحِ الدستور مع انعقادِ المؤتمرِ التأسيسيّ لفيدراليّة شمال وشرق سوريا في رميلان في 17/3/2016. ليزيد معها الاحتقانُ التركيّ.
وفي مقابلةٍ مع وكالة نوفوستي الروسيّة نُشرت في 30/3/2016 قال الرئيسُ السوريّ “من ناحيةِ الجغرافيا، سوريا صغيرةٌ جداً لكي يكونَ فيها فيدرالية” وأضاف “لا أعتقدُ بأنَّ سوريا مهيأةٌ لفيدراليّةٍ، لا توجدُ عواملٌ طبيعيّةٌ لكي يكونَ هناك فيدرالية” وجدد الموقف نفسه برفضِ الفيدراليّة في 12/4/2016 لوفدٍ برلمانيّ روسيّ واعتبر أن النظام الفيدراليّ سيدمّر البلادَ.
في 27/6/2016 أعلن الكرملين أنّ الرئيسَ الروسيّ تلقّى اعتذاراً رسميّاً من أردوغان عن إسقاطِ القاذفة الروسيّة. فيما حاولَ أردوغان التنصل وقال إنّه لم يعتذر لروسيا، في رسالته التي بعث بها إلى نظيره الروسيّ، بل من ذوي الطيّار الذي قضى بحادث إسقاطِ القاذفةِ الروسيّةِ.
بذلك بدأت نقطة التحول الأساسيّ التي مهّدت للاتفاق، وفي 9/8/2016 كانت موسكو أول محطة لأردوغان بعد الانقلاب المزعوم في 15/7/2016، وبدأت الحوافز الروسيّة عبر بحثِ مشاريعِ الطاقةِ، لتكونَ قضية كرد سوريا الطُّعمِ الأوليّ، فيما كانتِ المشاريعُ الطاقةِ والاقتصاد تثبيتاً للاستدراجِ الروسيّ، فقد تيقنت موسكو أنّه لا يمكنها إنجازُ الكثيرِ عسكريّاً في سوريا، ما لم تكسب أنقرة إلى جانبها.
لم يبدر من موسكو موقفُ الرفضِ لدى الاحتلال التركيّ لمدينةِ جرابلس في 24/8/2016، ومضت قُدماً لإنجازِ اتفاق (حلب ــ الباب)، ومرت حاثة اغتيال السفير الروسيّ في أنقرة أندريه كارلوف في 19/12/2016 بدون ضجّةٍ تُذكر.
ومضت موسكو تضعُ الإطارَ لاستقطابِ أنقرة عبر منصةِ أستانه، وإنشاءِ مناطقِ خفضِ التصعيدِ، وصولاً إلى سحبِ قواتِ المراقبةِ الروسيّةِ من عفرين إيذاناً بالعدوانِ التركيّ عليها، وبالمجملِ طبقت موسكو خبراتِ حربِ الشيشان في سوريا بضرب الخصومِ ببعضهم، حتى لم تبقَ جيوبٌ ساخنةُ إلا في شمالِ سوريا، عبر ترحيل المسلحين بالباصات الخضراء، ليكونوا في عهدةِ أنقرة، تحوّلهم لمرتزقةٍ وتستخدمهم كورشِ عملٍ وفرقِ قتلٍ حيث تريد، داخل سوريا وخارجها.
رسائلُ النارِ قبلَ الاجتماعِ
في 17/9/2018 أُعلن عن اتفاقِ سوتشي الذي يقضي بإنشاءِ منطقةٍ عازلةٍ بعمقِ 15ــ 20 عن مناطقِ قواتِ النظامِ بريفِ حلب وإدلب، على أن تتولى أنقرة هذه المهمة باعتبارها طرفاً في مثلثِ سوتشي، إلا أنّها ماطلت في تنفيذه على الأرضِ، وشهدت إدلب حالاتِ تصعيدٍ من وقت لآخر، حتى تلقّت ضربةً موجِعةً في 27/3/2020، ويعلن على إثرها أردوغان عبثاً عمليةً عسكريّةً باسم “درع الربيع”، لتكونَ مجردَ فقاعةً إعلاميّةً أمام الرأي العامِ التركيّ، وسرعان ما هرول إلى لقاءِ الرئيس الروسيّ في 5/3/2020، ونقلت عدساتُ الإعلامِ مشهدَ انتظار أردوغان على بابِ بوتين بشكلٍ مهينٍ حتى سُمح له بالدخولِ، وعقد اتفاقاً جديداً، تمَّت خلاله المحافظةُ على متغيراتِ الواقعِ الميدانيّ، والاتفاقُ على تسييرِ الدورياتِ المشتركة على الطريق الدوليّ إم ــ 4، وضمان حرم بعرض 6 كم على جانبي خالٍ من الوجودِ المسلح وضمان الحركة المروريّة آمنة على أحد أهم الطرق الاقتصاديّة السوريّة. وصولاً لإخلاء العديد من نقاط المراقبة التركيّة في مورك والصرمان ومعار حطاط ومعار معاز وتل طوقان وغيرها، ما تسبب بمشاعرِ الخذلانِ والإحباط لدى المسلحين الموالين لها.
لقاء سوتشي الأخير في 29/3/2021 جاء بعد رسائلِ النار الموجعة، إذ استهدفتِ المقاتلاتُ الروسيّة قبيلَ الاجتماعِ يومي 25و26 أيلول مواقع للمرتزقة في قريةِ براد بريف عفرين، وأحالت مركزاً تدريبيّاً لمرتزقة “الحمزات” إلى ركامٍ، وأدّى لمقتلِ وإصابة نحو 40 مرتزقاً، وكانتِ المقاتلاتِ الروسيّة قد استهدفت في 31/8/2021 معسكراً لمرتزقة “فيلق الشام” في قرية إيسكا بريف عفرين أيضاً، لتؤكّدُ بذلك جديّتها، ولتظهرَ أنقرة مجدداً بموقفِ العاجزِ عن حمايةِ مرتزقتها.
الضربةُ الجويّة جاءت في توقيتٍ تنتظرُ فيه أنقرة ضوءاً أخضرَ من موسكو لتنفيذِ عمليةٍ عسكريّةٍ جديدةٍ، وفي مرحلةٍ تشهدُ فيها إدلب تصعيداً عسكريّاً كبيراً، وبالمقابلِ كانت أنقرة قد صعّدت من وتيرتها استهدافاتها عبر القصفِ بالطيران المسيّر والمدفعية في مواقعَ عديدةٍ من شمال سوريا اعتباراً من منطقةِ الشهباء وحتى تل تمر وعبر الحدودِ إلى شنكال.
الرسالةُ الروسيّة، مفادها أنّ المناطقَ التي احتلتها أنقرة ليست مغلقةً أمام الطيرانِ الروسيّ، عندما تشاءُ توجيه ضربةٍ عسكريّةٍ، أي هي رسالةٌ لتأكيدِ الجديّة فقط، تُصرف عوائدها سياسيّاً، بخلق معطىً ميدانيّ جديدٍ يقطعُ الطريقَ على ابتزازِ أنقرة حتى لو كانتِ الضربةُ بعلمها.
هناك الكثيرُ من المحطاتِ التي استوجبت تدخلاً أو ضربةً عسكريّةً روسيّة، إلا أنّها انحصرت بالمعطى العسكريّ، ولم تسفر عن متغيّر ميدانيّ كبيرٍ، واقتصرت على ضحايا أو دمار، ولم تشكّل رصيداً سياسيّاً.