سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

عصمت شاهين دوسكي: أنا أكتبُ لكي لا أُصاب بوباء العدم 

حاوره/ غاندي إسكندر-

عصمت شاهين دوسكي… شاعر يُعبِّر في نفائسه الشعرية وكتبه الأدبية عن أنين الألم ومرارة المعاناة المجبولة بالأمل، تلامس عباراته مُهجة الفؤاد، يصوغ العوالم بحواسه، يكتب بأنامل مُرهفة ولغة أنيقة، يشم القارئ في نصوصه روائح النرجس المنبعثة من ضفاف دجلة وجبال دهوك، صدى نتاجاته أثرت المكتبة العربية والكردية معاً.
 حول تجربته الشعرية وهو يُبحر بقاربه في بحور الإبداع أجرت روناهي معه هذا الحوار:
ـ حبذا لو تحدثنا عن البدايات، ملامحها، ذكرياتها، والعوامل التي ساهمت في تشكيل تجربتك الشعرية
البدايات مهمة جداً في حياة الأديب، وهي بوعي منك أو دون وعي بقوة الظروف تضع خطواتك على طريق الشعر أو الفن، المسرح، الموسيقى وحينما تستدرك إنك في طريق سليم تستمر فيه، مثلاً حينما سجلت في الصف الأول الابتدائي في الموصل، المدير ضحك، وقال “كيف سيتعلم اللغة، وينجح وهو لا يتحدث بالعربية إلا قليلاً” وكان رأيه كالصاعقة عليّ، ولكن غيّر أفكاري، والصاعقة أصبحت طاقة أسخرها لأتمكن من اللغة العربية، وفعلاً كان مصروفي عشرة فلوس وبدلاً من صرفها كباقي الأطفال كنت أجمعها وخلال أسبوع تصبح ستين فلساً، ويوم الجمعة أذهب إلى شارع النجفي هو الشارع الذي كان الباعة يعرضون فيه الكتب على البسطات، فكنت اختار كتاباً، وظلت هذه الطاقة مستمرة معي، وكان مدرّس اللغة العربية حصة الإنشاء العربي يُخرجني أمام الصف، ويقول “هذا الطالب أخذ أعلى درجة في الإنشاء وهو كردي، وأنتم العرب درجاتكم وسط ومتدنية..” وأصبح أصدقائي الجواهري والبحتري والمتنبي وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس والمنفلوطي ونزار قباني والسياب ونازك الملائكة وأحمد خاني وبيكس ولطيف هلمت وغيرهم، وفي الخامسة عشرة من عمري بدأت أكتب الخواطر، ومقاطع شعرية، وعندما بلغت الثامنة عشرة، بدأت المجلات والجرائد تنشر لي بعض القصائد، وكانوا يمنحونني مكافأة مالية عليها لكن كان فرحي بالنشر أكثر من المادة.. لم يشجعني أحد في وقتها على الكتابة لا من قريب ولا من بعيد، فاعتمدتُ على تلك الطاقة الداخلية الحسّية التي فتحت أبواب الأفكار والإحساس المرهف بالأشياء.
ـ ما تقييمك لتجربتك الشعرية منذ أول قصيدة كتبتها وحتى اليوم؟
 التقييم يأتي من قِبل الآخر، القارئ، الناقد الأدبي، وبإمكاني أن أعطيك ما أنا فيه، فانا أكتب لنفسي وفي نفس الوقت أكتب للآخر، فأنا والآخر كائن واحد ومن جهة أخرى أؤمن بأن القصيدة العصرية بعيدةً عن الأوهام الزمنية التي تُحمّلها ما لا تطيقه، فالبساطة والسهل الممتنع يؤثر في النفس والروح ويتقبله القلب بعيداً عن النظريات والبلاطات والتتويجات والأبراج العاجية، من هنا تدرج شعري هادئاً وثائراً وإحساساً بالحدث والنفس والفكر العصري كسهمٍ يعلو من الصفر مُتخذاً منحى الإنسانية الذي ليس له سوى الارتفاع الذي ليس له حدود ونهاية بأُطر السمو والارتقاء، أنا أكتب لكي لا أُصاب بوباء العدم، وأصرخ لكي أخرج من ظلمة الكهف الذي يُدعى الكون، الكتابة الحقيقية جنون، ولكني أكتب لكي لا أموت فبعض الجنون حياة وإبداع، أكتب لكي لا تموت طفولتي، وحلمي، وإحساسي.
ـ سنوات من الحرب ومتغيراتها شهدتها العراق وكردستان ولا زالت، كيف هو واقع الحراك الثقافي في بلاد الرافدين؟
كانت بلاد الرافدين مهد للمنجزات الثقافية والتقنية التي تضمنت التقنيات الزراعية، تدجين الحيوانات، التنجيم ورسم دائرة البروج، مفهوم الوقت، العلوم والتكنولوجيا، العجلة، الكتابة والأدب، الدين، الرياضيات، وعلم الفلك، تجارة المسافات البعيدة، الممارسات الطبية، فلا يمكن لمثل هذه الحضارة أن تموت، نعم يصيبها الوهن والضعف لبعض السياسات الخاطئة لكنها ستشرق من جديد، والحراك الثقافي رغم تحديده وتهميشه واللامبالاة به بسبب الجهل، والفساد والفوضى ونشر ثقافة الموت والتسلّط على الكراسي الخشبية التي لاتُسمن ولا تُغني والأنانية السوداء وصناعة الحروب والمآسي والكوارث والأوبئة والفقر والحرمان أصبح الحراك محدوداً بين مجموعات ثقافية تعتمد على نفسها بجهدها البسيط وهذا يُضعف البلد فالبلاد التي لا تهتم بالأدباء والعلماء والمفكرين لا تتقدم مثل باقي الدول التي من أوليات وجودها واستقرارها الاهتمام منذ مراحل الطفولة إلى الجامعة وما بعدها بالفكر والطموح والإبداع، وكردستان متأثرة أيضاً بالواقع الثقافي خلال الحروب المختلفة لكنها أكثر تحرراً في هولير مثلاً تقام أُمسيات ثقافية باللغة الكردية والعربية، وهناك صالات ثقافية وتجمعات ثقافية بإمكانها أن تُقيم حفل ثقافي وفني بأي لغة كانت، وهذا يَهِب طاقة فكرية للتواصل والإبداع.
  ـأيهما يؤجج نار الإبداع وييُسّر ولادة النص لديك هل هو الألم أم الأمل؟
الإبداع ليس سلوكاً وراثياً، وإنما سلوك قابل للتعلم والتطوير لدى الأفراد، وهو مهارة إيجاد الأفكار وحلول للمشكلات، على أن تكون أفكاراً نادرة وفريدة من نوعها وما أكثر الأفكار على أرض تتجدد عليها الحروب، والمآسي والأزمات وكيف لا يتعلم الفرد ولا يتطور ضمن عوالم الحرب والتهجير والنزوح والتغريب والقتل والفوضى والتهميش واللامبالاة بالبشرية والجهل والفقر والفساد، وهل هناك ألم أكثر من هذا الألم إن عملية الإبداع قد تعتمد على عناصر المرونة، والطلاقة والأصالة وهذه العناصر لا يغيب فيهم الأمل، فالقصيدة الثائرة المؤلمة والحالمة الهادئة جوهرها الألم والأمل فقصيدتي من عوالم الألم والأمل وهما يجددان الحب والجمال والحلم والأصالة والإنسانية والوعي والارتقاء الإبداع.
ـ يقول العقاد “إن بيتاً واحداً من الشعر يمنحني من الشعور والجمال والمناعة ما لا أجده في رواية كاملة” ما تعقيبك على هذا القول ؟
 الشعر عالم الإنسانية والشعور والعاطفة والإحساس، وهو طاقة فكرية تأملية تجدد الحياة وترسّخ معاني الوجود وتجسّد مضامين، ويثير الأمل والألم والحلم وكل شخص له مفهومه الخاص وتجاربه وأفكاره وثقافته، وما يعنيه العقاد إن تأمل بيت من الشعر المؤثر الحقيقي قد يُبحر به في ثوانٍ إلى عوالم واسعة شاسعة تُغنيه عن رواية كاملة، وهذه حقيقة الخيال الخلّاق التي تبدع في التأويل والتحليل والإبحار إلى عوالم لا متناهية.
ـ لديك العديد من الأعمال الأدبية “مجموعات شعرية، دواوين، كُتب أدبية” هل فعلاً إصدار الدواوين والكتب الأدبية هو إثبات للذات أخيراً؟
 صدر لي – مجموعة شعرية بعنوان “وستبقى العيون تُسافر” عام 1989 في بغداد، وديوان شعر بعنوان “بحر الغربة”، وديوان “حياة في عيون مغتربة” بإشراف الأستاذة المغربية وفاء المرابط عام 1999، وكتاب “عيون من الأدب الكردي المعاصر”، وكتاب “نوارس الوفاء” وهي مجموعة مقالات أدبية نقدية عن روائع الأدب الكردي المعاصر، ورواية “الإرهاب ودمار الحدباء” وهناك كتب أدبية نقدية مُعدّة للطبع، منها “اغتراب واقتراب عن الأدب الكردي المعاصر، وفرحة السلام عن الشعر الكلاسيكي الكردي، المرأة الكردية بين الأدب والفن التشكيلي، إيقاعات وألوان عن الأدب والفن المغربي، جزيرة العشق عن الشعر النمساوي، ودواوين شعرية ستصدر قريباً  – حورية البحر- أحلام حيارى؛ كل هذا الجهد الأدبي إثبات للذات للوجود للحب والجمال والارتقاء وانتصار الإنسانية.
ـ التجربة الفنية التي جمعت بينك وبين الفنانة المغربية سلوى الشودري ماذا تُحدثنا عنها وهل هناك أعمال فنية قادمة؟
 جمعني تطبيق فيس بوك مع الفنانة المغربية المتألقة سلوى شودري، فمن خلال تواصلي على وسائل التواصل ونشر قصائدي ومقالاتي الأدبية نشرت قصيدة “فجّر” وهي رؤية واقعية للمعاناة العصرية التي يواجهها الإنسان من حروب ودمار وخراب وتهجير وتشريد في سوريا والعراق وليبيا ومدن العالم الأخرى وهي وصمة عار على جبين الإنسانية خاصةً في عصر الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية، وبدلاً من تقدم الحضارة الإنسانية المعاصرة للأمام ترجع للخلف بسبب الجهل والفساد والأنانية والانكسار والهزيمة الفكرية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، وبعد مناقشات أدبية، وفنية مع الصديقة المبدعة الأصيلة الأكاديمية الفنانة المغربية “سلوى الشودري” اختارت قصيدتين وهما “لا تنساني وقصيدة فجر” لتلحن إحداها وتغنيها بصوتها العذب فاختارت عنواناً جديداً لقصيدة فجر “أحلام حيارى” فوجدت العنوان مناسباً وظل التواصل بيننا لمدة عامين تقريباً وأرسلت لي التسجيل الأولي وبعدها التسجيل التمهيدي وهذا بفترات زمنية نظراً لانشغال الفنانة المغربية سلوى الشودري بالدراسة ووظيفتها وأعمالها وسفراتها الفنية داخل وخارج المغرب إضافة إلى التزاماتها الاجتماعية، وكان هذا الحلم الجميل يقترب بتروي مع الزمن في الولادة والظهور والحمد لله لم يكن ضمن الأحلام الهاربة فأرسلت التسجيل النهائي وعندما سمعه الأقرباء والأصدقاء سالت دموعهم بصمت معلنةً الصفاء والنقاء والتأثير النفسي والحسي والفكري والروحي بلحن وغناء الفنانة سلوى الشودري، وبعد تكاثف الجهود الفنية في المغرب وأمريكا تم إصدار فيديو كليب “أحلام حيارى” لتكون شاهدة على العصر وعلى الإنسانية، وهو عمل فني إنساني شامل امتزج فيه جمال وإحساس وفكر الطبيعة الكردستانية العراقية واللحن المغربي المتميز بالرقة والحنان الذي يمسُّ شغاف القلب والصوت العَذِب من عبق التاريخ التطواني وسمو الحضارة الفنية المغربية، وقد عُرض الفيديو وأخذ صدىً واسعاً وكتبت عنه الصحف المغربية والعالمية، وهو هدية ومواساة من فريق العمل الفني “أحلام حيارى” من العراق والمغرب وأمريكا لكل إنسان مفجوع وموجوع بالبلاد وفي كل مكان وأرض أطالها التفجير والتهجير والتدمير والخراب فالرسالة هي “الإنسان” حيثما كان، هذا العمل الفني دليل على تواصل الإنسانية مهما كانت الحدود والأسوار والحواجز والمسافات؛ فالفن الإنساني جمع الحضارات فنياً وإنسانياً لقدسية الإنسان في كل مكان وزمان، وأحلم أن تتجدد مثل هذه اللقاءات الفنية التي تُجسِّد التواصل الإنساني والإبداع.