والله زمان… يا رمضان

 رجائي فايد –

 حل علينا شهر رمضان هذا العام، بشكل مختلف، فهو ليس كأي رمضان سابق خلال أعوامي الطويلة،  والتي أوشكت على أن تكتب نهايتها، فقد جاء إلي هذا العام مع تعليمات الأطباء بضرورة عدم الصيام بسبب أمراض الشيخوخة (من كان مريضاً أو على سفر)، وتنفيذاً لصرامة تلك الأوامر، امتثلت وتوقفت عن التزامي بالصوم لأكثر من ستين عاماً، ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد أتى رمضان أيضاً مصحوبا بوباء كورونا، الذى لابد من الالتزام بتعليمات السلامة من شرور هذا الوباء القاتل، والذى في الأغلب يحصد أرواح أمثالي من الطاعنين في العمر، وعد أن كان رمضان ولذلك قبعت في داري مستسلماً وحيداً، وبعد أن كان شهر رمضان تتوطد فيه التقارب المجتمعي أصبح التباعد المجتمعي بسبب هذا الوباء اللعين ضرورة لابد منها، ولم يكن أمامي في ظل تلك المستجدات سوى استرجاع بعضاً من شريط ذكريات العمر، حتى أعيش سعادة وهم ذكرياتها.

 كان لشهر رمضان في مدينه القاهرة التي عشت فيها معظم عمري مذاق خاص، حيث يجمع كل من زار القاهرة أو عاش فيها أن رمضان يختلف عنه في أي مدينة أخرى في العالم، فقبيل قدوم هذا الشهر، يتم تزيين الشوارع والحارات والأزقة، كما يعرض البائعون فوانيس رمضان إذ أنه من الطقوس المحتم شراؤها للأطفال، ويستعد باعة الكنافة والقطايف بنصب معدات تجهيزها أمام محلاتهم، وتستعد منطقة القاهرة الفاطمية (منطقة الحسين والأزهر وشارع المعز لدين الله الفاطمى) لاستقبال روادها، حيث تزدحم تلك المنطقة بهم، لما يمارس فيها من مختلف الفعاليات، حيث  تعج بمختلف الأنشطة الثقافية والترويحية وحلقات الذكر والإنشاد الديني، وبؤرة ذلك ساحة مقام سيدنا الحسين، حيث تقيم وزارتي الأوقاف والثقافة سرادقاً ضخماً يتحدث فيه كبار العلماء، وإلى هذا السرادق، تنتشر عدة سرادقات للطرق الصوفية يمارسون فيها الفعاليات الصوفية من ذكر وإنشاد ديني في حب رسول الله وأهل بيته، كما تقدم هيئة قصور الثقافة برامج ترفيهية وثقافية منوعة، وتنتشر المقاهي التي تزدحم بروادها رجالاً ونساء،  وبعضها يجلب أحد المطربين المجهولين ليغنى للرواد،  والبعض الآخر بجلب أحد المطربين الشعبيين مصحوباّ بالآلات الموسيقية الشعبية، وأشهر تلك المقاهي هو مقهى الفيشاوي ذو التاريخ، وفي الستينات كان ينظم الاتحاد الاشتراكي في مبناه الضخم على النيل أمسية ثقافية في موضوع جاد يتحدث فيها كبار المفكرين ثم يتلوها برنامج ترفيهي لكبار الفرق الفنية كان أشهرها فرقة رضا للفنون الشعبية (هذا المبنى توالت عليه المسميات بتطور العمل السياسي في مصر فمن الاتحاد القومي إلى الاتحاد الاشتراكي إلى منبر الوسط إلى تنظيم الوسط إلى حزب مصر العربي الاشتراكي إلى الحزب الوطني، ثم أصبح الآن مهجوراّ بعد أن التهمت بعد طوابقه حريق خلال ثورة 25 كانون الثاني)، وتظل منطقة وسط المدينة تعج بالمتمتعين بليالي القاهرة حتى يؤذن لصلاة الفجر ومن بعد الصلاة ينصرف الناس، كنت أذهب مع أصدقائي مستمتعاً برمضان في هذا الجو الذى يحمل عبق التاريخ، حيث كانت أحياؤها مسرحاً لمعظم روائع نجيب محفوظ (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية  ودرب المهابيل والحرافيش …الخ)،   لم يبق لي منها سوى الذكريات، فقد حطت على جسدي الواهن أمراض الشيخوخة والحظر البيتي للكورونا،  فكل شيء راح وانقضى، وكما تقول الأغنية (والي بيننا خلاص مضى)، إذ لم يبقَ من ذلك سوى استرجاع الذكريات، وأقول والله زمان يا رمضان، ليأتيني صدى صوت أم كلثوم (وعاوزنا نرجع زي زمان قل للزمان ارجع يا زمان).