أصبح مألوفاً أن نقرأ أو نسمع من المُعلقين والمحللين بأنّ الدور الأمريكي في الشرق الأوسط قد انحسر بشكلٍ كبير، حتى أن البعض يرى أن نفوذ الولايات المتحدة هناك في طريقه للخروج بشكلٍ كامل، لكن هل نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أقل الآن مما كان عليه في الماضي؟
تشابهٌ مع مرحلةِ الحربِ الباردةِ
انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وانهيار الحكومة التي كانت تدعمها هناك، وانتهاء العمليات القتالية الأمريكية في العراق، والبصمة الصغيرة المتبقية للولايات المتحدة في سوريا إضافة لعدم قدرتها على إحداث تغيير سياسيّ ذي مغزى هناك، والعلاقة الصعبة مع تركيا تشير جميعها إلى نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة أقل مما كان عليه في الماضي القريب.
لكن الفترة التي أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول، والتي تدخّلت فيها الولايات المتحدة عسكريّاً، وشكّلت حكومتين جديدتين في أفغانستان والعراق، وسعت لاحقاً في دعم التغيير الإيجابيّ في ليبيا وسوريا، شكّلت فترة استثنائيّة بالنسبة للولايات المتحدة، ــ أو بدت وكأنها لديهاــ دورٌ أقوى بكثير مما هو عليه الآن.
ومع ذلك، إذا قارنا نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الآن بما كان عليه قبل أربعين عاماً في ذروة الحرب الباردة عام 1981، فإن ما نجده مشابهٌ بشكلٍ ملحوظ الآن لما كان عليه في ذلك الوقت، ففي عام 2021، لدى أمريكا أساساً نفس الحلفاء الذين كانوا لديها عام 1981: إسرائيل ومصر والأردن والمملكة العربيّة السعودية وجميع دول الخليج العربي الأخرى، والمغرب. بينما لا تزال علاقة أمريكا بأنقرة متحالفة رسميّاً مع تركيا، إلا أنّها أصبحت مُحرجة للغاية الآن – لكنها كانت كذلك في ذلك الوقت في أعقاب الغزو التركيّ لقبرص الشرقية عام 1974 وعلاقتها العدائيّة مع حليفٍ أمريكي آخر، اليونان.
بطبيعة الحال، فإنّ مقارنة موقف أمريكا اليوم بما كان عليه في عام 1981 أمرٌ اعتباطيّ لحد ما. إذا قارنا اليوم بـ 1976 بدلاً من 1981، لكانت إيران مدرجةً في قائمة حلفاء الولايات المتحدة – وهو أمر ليس كذلك الآن بالتأكيد، لكن إذا قارنا اليوم بخمس سنوات سابقة – 1971 – فلن تكون مصر في قائمة حلفاء واشنطن، بل قائمة حلفاء موسكو. ما يظهره هذا هو أنَّ حقبة الحرب الباردة – مثل الحقبة الحالية – كانت حقبة فيها كسب وخسارة الحلفاء أمرٌ طبيعيّ.
ويشير كثير ممن ينتقدون فقدان النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط إلى تنامي النفوذ الروسي هناك، ولكن مقارنةً بالماضي، فإن عودة روسيا ليست مثيرة للإعجاب. في عام 1981، كان الاتحاد السوفيتي القوة العظمى ذات النفوذ السائد في سوريا والعراق وجنوب اليمن وليبيا وأفغانستان. كما أن لديها علاقات أوثق بكثير مع الجزائر واليمن الشمالي مقارنةً بالولايات المتحدة. الآن، وخلافاً لذلك، تشارك روسيا نفوذها مع إيران في سوريا ومع تركيا وآخرين في ليبيا، ولها تأثير محدود فقط في أفغانستان واليمن والعراق.
لا قلق أمريكيّ من الصعودِ الروسيّ
قد يرى البعض العلاقات المتنامية التي طورتها كل من موسكو وبكين مع حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط، يجب أن تقلق واشنطن، وخلال الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفيتي يحاول بنشاط إضعاف أو حتى الإطاحة بالحكومات المتحالفة مع الولايات المتحدة، والآن، تريد كل من روسيا والصين العمل مع جميع حكومات الشرق الأوسط المتحالفة مع الولايات المتحدة، وليس إضعافها، وفي الواقع، لا يبدو أن روسيا أو الصين تحاولان إقناع حكومات الشرق الأوسط بإنهاء تحالفاتها مع الولايات المتحدة والتحالف مع أيّ منهما أو كليهما بدلاً من ذلك. ولا يبدو أنَّ أيّاً من القوى المتنافسة العظمى لأمريكا حريصٌ على استبدال الولايات المتحدة كضامنٍ أمنيّ لحلفاء أمريكا في الشرق الأوسط. قد يكون اضطرار واشنطن إلى التنافس مع موسكو وبكين على مبيعات الأسلحة وصفقات النفط والاستثمارات من حلفاء أمريكا، أمراً مزعجاً، لكن هذه المشكلات أقل خطورة بكثير من الاضطرار إلى مواجهة الجهود السوفيتية السابقة لإضعافها أو الإطاحة بها
ومع ذلك، فإن ما إذا كانت تركيا لا تزال متحالفة مع الولايات المتحدة هو سؤال طُرح، لأسباب ليس أقلها تعاونها المتزايد مع موسكو – لا سيما من خلال شرائها صواريخ الدفاع الجوي الروسية «إس 400» ضد اعتراضات واشنطن القوية. ولكن لمجرد أن تحالف تركيا مع الولايات المتحدة قد ضعُف، لكنّه لا يعني أنها أصبحت حليفاً لروسيا. بعد كل شيء، فإنَّ تركيا على خلاف مع روسيا في سوريا وليبيا وأرمينيا وأذربيجان وحتى أوكرانيا. ويبدو أنَّ تركيا ليست مهتمة بأن تكون حليفة لأمريكا أو لروسيا بقدر اهتمامها بأن تكونَ قوة عظمى في حدِّ ذاتها. هذا شيء يمثل تحدّياً ليس فقط لواشنطن، ولكن أيضاً لموسكو ولكلِّ حلفائهما الإقليميين.