آزاد كردي_
مع حلول الرابع من نيسان ميلاد القائد والمفكر” عبد الله أوجلان“، يزداد الشغف عند الكثير من العالم للتعرف على فكره، الذي يستحق الوقوف عنده للتأمل، والنظر، والدراسة، خاصة بما يحتوي من خصائص جليلة قلّ نظيرها عند سواه من المفكرين.
لم يقدم العصر الحديث في منطقة الشرق الأوسط شخصية إثارة للجدل، مثل شخصية المفكر والفيلسوف ”عبد الله أوجلان“، الذي شكل ما يربو عن خمسة عقود حالة نادرة، كملتقى لنظريات فلسفية، وتيارات سياسية واجتماعية مختلفة، تصبُّ في منهل فكره؛ ما يجعله واحداً من أعظم المنظرين في العالم.
لن ندرس أهم محطات حياة المفكر “عبد الله أوجلان”، والتي باتت تفاصيلها أشهر من نار على علم، بل أننا سنتوقف على أبرز الخصائص العامة التي يتسم بها فكره:
حب المعرفة وسعة الاطلاع
يعد القائد ”عبد الله أوجلان“ من المفكرين الموسوعيين، الذين لا يتوقفون على علم واحد، أو أصل واحد بل كان سعيه طويلاً الغوص بكنه العلوم، والفنون والأخذ من المدارس، والأكاديميات، والنهل من كنوزها المعرفية، والواضح أن الأمر لم يكن ليحدث لولا قدرته على استجلاء الجيد من الغث، والحقائق من الطلاسم، ولما يتمتع به من عقلية حرة لاسيما تلك الفترة، التي قضاها في سجن إيمرالي حيث يقول عن نفسه: ~إذا أردتم التعرّف علي، فأنا أُناضل؛ لكي أصل إلى الحرية، وأنا لدي طريقتي الخاصة لتحقيق ذلك، من خلال الأخذ بعين الاعتبار حقوق كل فرد، وأنا متيقن بأن شخصيتي باتت معروفة}.
كما يتمتع القائد والمفكر “عبد الله أوجلان” بالغنى المعرفي؛ لأنه يستند إلى أرضية خصبة من الإحاطة بالعلوم، قديمها، وحديثها، واستحضار العلائق والقرائن، التي تؤدي إلى ما هو مطلوب من تصويب الهدف، وبلوغ الحجة، وذلك بما نشاهده بمرافعاته، التي تعج بجميع العلوم من الفلسفة، والتاريخ، والأصول، والعقائد، واللاهوت، والأنثروبولوجيا، والمنطق، والعقل، وغيرها.
الشعور بالمسؤولية
شكل اعتقال القائد ”عبد الله أوجلان“ من قوى الهيمنة العالمية فرصة له للخروج عن سرب موجة الحداثة الرأسمالية العالمية، التي كانت تأسر المفكرين بجمالها الفاتن؛ ما منحه القدرة على التمتع بالاستقلالية، أو القدرة على مواجهة الضغوط العالمية بكل ارتياح وتوازن؛ لأنه يعرف أنه يتحمل مسؤولية أخلاقية، وإنسانية كبيرة تجاه شعوب العالم المستضعفة، وبالأخص الكرد من جهة، ومن جهة أخرى، يعد من القلة، الذين درسوا عن كثب قوى الحداثة الرأسمالية، محذراً من خطرها على شعوب المنطقة أجمع، لذا يصف نفسه بقوله: ~أنا شخصية متقدمة، وكل شخص باستطاعته أن يُكوّن ذاته، لديَّ حاجة للحرية، وأنا أملك العزيمة، والإصرار على أن أعمل على تحقيق الحرية، وسأحققها}.
لعل هذه الخصيصة، هي التي جعلت من القائد ”عبد الله أوجلان“ أكثر ضراوة كالأسد الضاري الذي يحمي عرينه، بعد أن أدرك أن القوى العالمية باتت تتحين الفرص للانقضاض، وإبادة شعبه الكردي، وهو بذلك يستشعر المسؤولية، التي عهدها له شعبه، فأعد العدة للمواجهة، فرجع إلى عملية تفسير الواقع، وصياغة الرؤى المستقبلية للكرد. عاد إلى التاريخ القديم لفهم العلائق، التي أدت إلى إبادة الكرد وإنكارهم من قوى الهيمنة العالمية مستنداً إلى مناهج البحث، والاستقصاء والدقة والتريث قبل إطلاق الأحكام، حتى لا يقع في دوامة من الارتباك، والفوضى، والتشتت، وربما كان في مرافعته الخامسة «الدفاع عن الشعب»، خير تجسيد لهذه الخصيصة المهمة.
الاستقلالية
تخلص القائد والمفكر “عبد الله أوجلان” من القيود الذهنية والاجتماعية، التي تؤثر على منهج التفكير، ومساره ونتائجه، واستطاع أن يكون المدقق، والمراقب والباحث لكثير من قضايا المنطقة الشائكة والاقتراب أكثر من كنه الحقيقة، التي فقدها غيره ممن تخصص في هذا المجال. وتماشياً ما قد تم ذكره، هناك ثلاثة قيود تحرر منها القائد ”عبد الله أوجلان “يمكن ملاحظتها في كتاباته ومؤلفاته وهي:
ـ قيد المحيط: تمكن القائد عبد الله أوجلان من توصيف البيئة، التي مثلها بحق فكان من أكثر مفكري المنطقة، الذين حولوا القضايا الشائكة، والتي هي مثار جدل إلى مسلمات، ومفاهيم ومعلومات، وعادات بينما بقي المنظرون الآخرون ممن تناولوا هذا الجانب أسرى التفكير داخله، ولم يحاولوا الانعتاق من ذلك الإسار، الذي يفرضه المحيط.
ـ قيد الانتماء: تخلص القائد والمفكر ”عبد الله أوجلان“ من الوهن، الذي خلفه الإرث المادي المغبون والمهزوم للكرد، واستطاع تحرير العقل حتى مع الكرد أنفسهم من خلال توعيتهم، ومناصرتهم بمؤلفاته، وكتاباته تارة وتارة أخرى يكون أكثر جلداً لهم للخروج من بوتقة العبودية المفروضة عليهم من قوى الحداثة الرأسمالية، خاصة أنه انتقد الكرد بعين الناقد والمخلص لخاصتي الباحث عن الحقيقة والموضوعية في المواقف والآراء، خاصة تلك القضايا، التي عانى منها الكرد زمناً طويلاً من التفسير الإيديولوجي الخاطئ لتاريخهم وتراثهم لا بل أنه حثهم على التعاضد، والتكاتف لمواجهة الأخطار. وفي هذا المنوال، خرج من الحلقة الضيقة بتناول أسس التفكير الناقد العادي إلى تناول قضايا فلسفية أكثر شمولاً، لم يتطرق إليها أحد من قبل، أو يجرؤ أحد من الاقتراب منها؛ نظراً لما يكتنفها جدل وإشكاليات عدة؛ كالتطرق إلى القوموية، أو العشائرية، أو المذهبية، وفي ذلك يقول: ~أما حركة مختلف الإثنيات المسحوقة، أو بمعنى آخر الحركة، التي تتقدم خطوةً على الشعوب المضطهدة؛ فتسميتها بحركة الأمة الديمقراطية أمرٌ صائب، وقيم سوسيولوجياً إلى أقصى حد}.
ـ قيد الذاكرة: تحرر القائد والمفكر ”عبد الله أوجلان“ من أسر الماضي سواء بكل محاسنه، أو مساوئه، حيث قرأ كل ذلك بقراءة معمقة من منطلق إحكام العقل، وتطبيق الرياضيات العقلية أو الديالكتيك من أجل تتبّع الخطأ الكامن في نقل الحوادث التاريخية، وموازناً بين المنهج العلمي، وإعمال الفكر الحر، وكما يقال في المأثور المنقول: ”نحتاج معرفة الكثير عن الأجيال السابقة ونحتاج من أجل تفكير سليم للتحرر منها في الوقت نفسه، نحتاج أن نغترف من الذاكرة دون أن نبلل ثيابنا بها“.
التركيز على الكليات
إن من أهم صفات القائد والمفكر ”عبد الله أوجلان“ أنه يقوم على صياغة الكليات، وتركيبها من جزئيات كثيرة، إنه لا يحفل بالجزئيات، إلا من أجل عبورها إلى الكليات، بل إن العبور والتجاوز بشكل عام هو أحد سمات فكره المتنوع، ومن ذلك قوله: ~عليّ التنويه سلفاً أني لن أحَدِّدَ المهام الفكرية على أنها تكوين للوعي بقوالب جاهزة مسبقاً، وبالتالي نقل إلى المُكَوِّنات. أولُ عمل يجب القيام به، هو تقييم ظاهرة الفكر بذاتها}.
وما من شك أن هذا التنوع هو الذي قاده إلى رصد المشاكل والقضايا، التي حفلت بها المنطقة منذ نحو 4500ق.م من أهمية جغرافية الشرق الأوسط وتطور الحياة الاجتماعية، وما تزخر به في قضية المرأة، والقوم، والإثنية والمذهب، والمدنية، والبيئة والطبقية، والهرمية، والأسرة، والسلطة، والدولة، وغيرها؛ ما جعل هذا الفكر معيناً لا ينضب للباحثين عن المعرفة والفائدة.
الوفاء للقيم الكبرى
لقد ظل القائد والمفكر ”عبد الله أوجلان“ وفياً لمبادئه، التي خلص عليها طوال حياته، لا بل ناضل من أجل إرساء السلام في أنحاء العالم، والدفاع عن القيم الإنسانية، ومن تلك القيم: السلام، والحق، والخير، والجمال، ورغم الإقرار بنسبية هذه القيم إلا أنه التزم بأصولها، ووقف في كثير من الأوقات صمام أمان للآخرين، دون انجرافه، وانحيازه عنها بالرغم من الإغراءات المختلفة، التي قُدِّمت إليه، وفي ذلك يقول: ~عندما أمسكتْ بي القوى السيدة على كافة القارات بوحدة متراصة كقبضة اليد، وأرسلتني معتقلاً إلى إيمرالي بالمؤامرة المحاكة وفق حساباتها ومزاعمها؛ كان أول ما خطر ببالي حينها هو الملحمة اليونانية، التي تتحدث عن إله اليونان زيوس، الذي ربط نصف الإله بروماتوس إلى الصخر في جبال القفقاس، وصار يُطعِم كبده للنسور، ويجدده كل يوم، إنه بروماتوس الذي سرق النار، والحرية من الآلهة لأجل الإنسانية! وكأن هذه الملحمة تتحول إلى حقيقة تتجسد في شخصيتي}.
نصرة الفامينية
إذا كانت الفامينية، تعني بشكل عام ضمن أوساط المرأة بمجموع النشاطات، التي تخص المرأة، أي النشاطات النسوية، التي تهتم بشؤون المرأة على وجه الخصوص، فإن القائد والمفكر ”عبد الله أوجلان“، انطلق بهذا المفهوم الضيق إلى مستويات متقدمة وواسعة لم يسبقه إليه أحد. فهو اطلع بقضايا المرأة على نحو علمي دقيق، فخصص علماً خاصاً بها «الجنولوجيا». هذا العلم يعبر عن تناول فكر أو طريقة للتعامل مع قضايا المرأة بشكل خاص ومستقل يهتم بتطوير طاقات المرأة ذاتها، ويسعى لتحقيق العدالة والمساواة بين الجنسين، وبناء على ما تقدم، يمكن القول: إن القائد والمفكر” عبد الله أوجلان“ كان أكثر فهماً لقضايا المرأة، حتى من النسويات أنفسهن بل كان مدافعاً عن المرأة كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وفي ذلك يقول: ~فإذا ما أخرجنا مصطلح الاستعمار من إطار البلد والأمة، واختزلناه إلى المجموعات البشرية، فباستطاعتنا وبكل سهولة تعريف وضع المرأة بأنها أقدمُ المستعمرات. ففي حقيقة الأمر، ما من ظاهرة مجتمعية شهدت الاستعمار روحاً وجسداً بقدر ما عليه المرأة. ينبغي الفهمُ بأنه تم الإبقاء على المرأة ضمن حالة مستعمرة لا يُمكِن رسم حدودها بسهولة}.
خلاصة القول، سياسة العزلة، التي يتبعها الاحتلال التركي على القائد والمفكر “عبد الله أوجلان” من أجل كتم أفكاره، لن تستطيع حجب شمسه لأن تاريخ ميلاده هو تاريخ السلام للشعوب الباحثة عن الديمقراطية والسلام، وأخوة الشعوب في العالم أجمع.
