سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

موسكو من استقطاب أنقرة إلى المسار التصالحيّ

رامان آزاد

يقول مسؤولو أنقرة بالفم الملآن إنّهم لا يحتاج إذناً من أحدٍ لشن هجمات احتلالية جديدةٍ، في مناطق شمال وشرق سوريا، ويزعمون أنّ الأمرَ منوطٌ بالمخاوفِ الأمنيّةِ، وهم يناقضون أنفسهم بحديثهم المتكرر عن أراضي الميثاق الملّي وإعادة اللاجئين السوريين. والسؤالُ هل يحتاجُ اللاجئ لعملٍ عسكريّ ليعودَ إلى دياره، أم إلى بيئةٍ آمنة؟
بداية الاستقطاب والحوافز
 
الحقيقة أنّ أنقرة لم تقدم على خطوة واحدة دون إذنٍ مباشر من موسكو، وصحيحٌ أنّها تلاعبت في هوةِ التناقضِ الدوليّ، إلا أنَّ الملفَ السوريّ أضحى في عهدةِ موسكو منذ تدخلها المباشر في 20/9/2015، وقبل ذلك أسقطت الدفاعات الجويّة السوريّة في ٢٢/٦/٢٠١٢ طائرة تركيّة، لم تحرك أنقرة ساكناً، فيما بدأت التحولات بعد إسقاط الطائرة الروسيّة في 24/11/2015، يومها رفع أردوغان سقف التحدّي، ولكن روسيا كانت أول محطةٍ خارجيّة بعد محاولة الانقلاب في 15/7/2016، فزارها في 9/8/2016، وبعدها بأسبوعين فقط احتل الجيش التركيّ مدينة جرابلس في 24/8/2016، ولم يكن ذلك صدفة، بل كان تحرير مدينة منبج في 12/8/2016، هو السبب، وبدا جلياً أنّ نفوذ “داعش” ينحسر، بعد محطتين مهمتين الأولى كوباني والثانية منبج.
إعلان مدينة حلب خالية من الإرهاب في 22/12/2016، جاء في سياقِ التنسيق مع موسكو، وكانت مدينة الباب الثمن، وأرادت أنقرة قطعَ التواصلِ الجغرافي بين مناطق شمال وشرق سوريا. وبموافقة موسكو أقامت نقاط المراقبة في إدلب، وكان العدوان على عفرين واحتلالها ضمن التوافق مع موسكو أيضاً، وبالمقابل أُخلي الغوطة الشرقية من المظاهر المسلحة.
وشنّت أنقرة العدوان على مناطق شمال وشرق سوريا سري كانيه وتل أبيض/ كري سبي بقبول روسيّ مطلق، وانتهت الهجمات باتفاق سوتشي في 23/10/2019 الذي تمَّ بموجبه تثبيتُ حالة الاحتلال، ولم تُطالب أنقرة بالانسحابِ.
عجز أنقرة في القرار
 
وعندما قُتل 33 جندياً تركياً في إدلب، في 27/2/2020، هدد المسؤولون الأتراك على كل المستويات بالانتقام، وأعلنت أنقرة عملية عسكريّة صوريّة باسم “درع الربيع”، وبعد أسبوع، هرول أردوغان في 5/3/2020 للقاء بوتين، الذي استقبله بشكلٍ مهينٍ، واضطره للانتظار نحو دقيقتين والجلوس تحت صورة سوفوروف القائد العسكريّ في الإمبراطورية الروسية، الذي خاض حروباً عديدة ضد العثمانيين في 1773 وكسبها.
في 24/5/2022 هدد أردوغان بشنِّ هجمات جديدة، وكرر التهديدَ مراراً، وسعى عبثاً غرباً إلى مدريد وشرقاً إلى طهران، للحصولِ على موافقةٍ، ولذلك كانت زيارةُ سوتشي مساراً فرضه الكرملين للنزول عن الشجرة السوريّة، وهو ما تحدث عنه وزير الخارجية الإيرانيّ من قبل دون توضيح ملامح هذا المسار، وتدرك موسكو أيضاً الضغوط الانتخابيّة في تركيا، لتؤكد طرح اتفاقية أضنة 1998 للتنسيق الأمنيّ. وكان تصريح وزير الخارجية التركيّ الخميس إقراراً بأنّ المسار التصالحيّ قد بدأ، وتراهن أنقرة على التهديد لمجرد تحسين شروط المصالحة لتجعله نصراً تحتاجه حكومةُ العدالة والتنمية لتصرفَ عوائده غي صناديق الاقتراع!
لم يكن تهديد الرئيس التركيّ أردوغان ببدء هجمات عدوانية جديدةٍ في سوريا أمراً مستغرباً، فتركيا موجودةٌ فعليّاً في عدةِ مناطق من شمال سوريا عبر ثلاثِ هجمات عدوانية سابقةٍ، كما أنّ التهديدات بعملٍ عسكريّ شكّلت جزءاً مهماً من السياسةِ التركيّةِ إزاء سوريا. وتستمرُ أنقرة بإطلاقِ التهديدِ إلى حين استكمالِ شروطِ البدء عمليّاً بشن هجوم عسكريّ، ولم تقدم أنقرة على خطوةٍ واحدةٍ في الأراضي السوريّة دون إذنٍ من مراكز القرار الدوليّ، وفي مقدمها موسكو، التي تنفردُ لدرجةٍ كبيرةٍ بإدارةِ الملفِ السوريّ رغم تعددِ الأطرافِ الموجودةِ على الجغرافيا السوريّة. وكلّ مواقف الرفض التي أبدتها أنقرة كانت مجردَ عربدةٍ، لها أبعادٌ محدودةٌ لتحسين شروط القبول والأهم ذلك إضفاء صفات القوة والاستثنائيّة على شخص أردوغان، بما يتجاوز الصورة الأسطوريّة لأتاتورك أبو الأتراك، وبقائه في السلطة بلا قيود.
عرفت موسكو كيف تدفعِ أنقرة إلى كلّ المواقف التي اتخذتها، عبر الإغراءاتِ الاقتصاديّةِ والعسكريّةِ وصفقة الصواريخ إس ــ 400 وخط الغاز وبناء محطة مرسين النوويّة، ومسائل السياحة ولولا تلك الإغراءات ما كان لأردوغان أن يرفعَ صوته في النادي الأطلسي، ويعترض لدرجة ضاقت بعض دول الناتو ذرعاً بذلك!
الواقعُ أنّ الهجمات العدونية التي تنوي أنقرة شنها، هي أجندةٌ سياسيّةٌ تركيّة، لا تتعلقُ بمخاوفَ أمنيّة حقيقيّة، بل صوّرها المخيالُ السياسيّ التركيّ، ويُراد استثمارها في السباقِ الانتخابيّ القادم في حزيران 2023، فالرئيس التركيّ مدفوعٌ بأطماعه ومحاصرٌ بالزمن الانتخابيّ وأزمةٍ اقتصاديّةٍ وماليّةٍ، وتراجعِ الشعبيّةِ التي فشل في ترميمها بعد نتائجِ الانتخاباتِ البلديّةِ في 31/3/2019 والتي أخرجت كبرى المدنِ التركيّة (إسطنبول وأنقرة وإزمير وإنطاليا ومرسين) من يدِ الحزبِ الحاكم، كما أنّه يحاولُ استثمارَ تصاعدِ خطابِ الكراهية تجاه اللاجئين السوريين ليقولَ للناخبين الأتراكِ إنّ الهجمات تستهدفُ إعادةَ السوريين.
قمة طهران في 19/7/2022 لمنصة أستانه جاءت نسخة عن سابقاتها، فيما أكّدت روسيا في قمةِ الرئيسين بوتين وأردوغان في سوتشي في 5/8/2022، على المسارِ التصالحيّ وأنّ تفهمَ المخاوفِ التركيّ لا يعني السماحِ بشن هجوم عسكريّ جديدٍ هذه المرة، بل بتمكينِ قواتِ الحكومة السوريّة من الانتشارِ في مناطق التماس وتفعيل اتفاقية أضنة 1998.